مسألة الزمالة والماجستير

في أحيان كثيرة يقبل الناس على سلعة معينة ،أو خدمة معينة،ويتزايد إقبالهم دون أن يعني مقدموا الخدمة أو السلعة بزيادة المطروح أو منافذ التوزيع لأسباب كثيرة منها أن بعض هؤلاء يجيدون حسابات المستقبل ويعرفون أن هذا الإقبال لن يستمر طويلا على معدلاته العالية،لأن السبب في زيادة هذه المعدلات لم يكن إلا سببا مؤقتا.

ومع هذا فإن بعضا آخرين من الذين يتصل نشاطهم بالخدمة أو السلعة يظنون أن بإمكانهم الإفادة من هذا الإقبال،لكنهم لسوء حظهم يتلكئون ويتباطئون في إعداد أنفسهم لتقديم الخدمة أو السلعة وقد تتضافر ظروف أخرى على تبطئيهم وتأخير خطواتهم،وهكذا فإنهم حين يبدؤون نشاطهم لا يبدؤون إلا وقد انحسرت موجة الإقبال،ولا يبدؤونه إلا وقد انتهت الحاجة إلى السلعة ،ولا يبدؤونه إلا وقد نفذت أيضا موارد تمويل الراغبين في السلعة أو الخدمة بحيث لا يجدون إلا أعدادا قليلة تريد أن تشتري بثمن منخفض،على حين يجدون أضعافا مضاعفة من الذين لا يمانعون في الحصول على السلعة مجانا.

وحينذاك يبدأ صناع السلعة الجديدة أو الخدمة الجديدة في العمل على التسويق الإجباري لسلعتهم، مستغلين كل ما في أيديهم من سلطة ونفوذ وجبروت وقانون.

ومع هذا كله فإن طبائع الأشياء تتغلب وتظل السلعة في النهاية أقرب إلى البوار حتى لو منع الجمهور من أن ينال حقه في السلعة البديلة ليضطر إلى هذه السلعة الإجبارية،وشأن المكابرين فإن السلعة الجديدة الإجبارية لا بد أن تبقى في الأسواق مدة عقد من الزمن على الأقل من أجل حفظ ماء وجه الذين تورطوا في إنتاجها،وبخاصة إذا ما أصبحت المسألة متعلقة بالكرامة الشخصية لهؤلاء المنتجين،ويزداد الأمر سوءا حين يكون هؤلاء أنفسهم في مواقع النفوذ والتأثير،ويتضاعف السوء وآثاره حين تنشأ معركة يغديها بالوقود وبالمقالات أصحاب السلعة أو الخدمة القديمة وبخاصة إذا كانوا يحسون بالمسؤولية تجاه المستهلك.

ومن غرائب الأقدار أن سطوة المعارك على الحقيقة وتدميرها لها تتضاعف بقدر ما يكون إخلاص منتجي الخدمتين الجديدة والقديمة لمعتقداتهم وأفكارهم وتوجهاتهم،بل أن التراشق لا يتوقف عند حد الحقائق المعروفة،لكنه لسبب حماسي يتعمد قلب الباطل حقا،والصواب خطأ،والاستثناء حقيقة،والبديهيات استثناء.

هذا فضلا عن أن الأرقام تترنح وهي تستخدم في غير ما تدل عليه،وفضلا عن أن المفاهيم تجار بالشكوى وهي تنتهك،وفضلا عن أن المجتمع يظن أن هناك تنافسا بين خدمتين أو سلعتين أو حتى تنافسا على مستهلك أو مستخدم،بينما التنافس على النفوذ واحتكاره على أن الأغرب من هذه كله والأطراف والأكثر مدعاة للأسى والبكاء والأنين أن يكون مقدموا الخدمتين أو السلعتين هم الأشخاص أنفسهم تقريبا ولا يختلفون إلا في القبعة أو الطربوش الذي على رأس كل مؤسسة من المؤسستين المتنافستين،ويصل الأمر إلى درجة تربك أذهان الجماهير حين تسمى كل سلعة أو خدمة من السلعتين أو الخدمتين بالاسم الذي تستحقه السلعة الأخرى،بينما تترك الاسم الذي تستحقه للسلعة أو الخدمة الأخرى.

هذه هي باختصار شديد قصة الزمالة الطبية المصرية وصراع درجات الجامعة ضدها،فلم تعد هناك منذ خمس سنوات مشكلة في التسجيل لدرجات الماجستير والدبلوم،بل أن عدد الأساتذة العاملين في كليات الطب الآن يفوق عدد طلاب الدراسات العليا عشرة أضعاف،لهذا فإن الزمالة التي كنا في حاجة إليها منذ عشرين عاما أصبحت على أكثر تقدير سلعة غير مطلوبة في ظل تسابق أعضاء هيئات التدريس والكليات والمعاهد الفنية العليا على ترغيب طلاب الدبلوم والماجستير في الإقبال على الدراسات العليا فيها.

وفضلا عن هذا فإن الصيغة التي بدأ بها تنفيذ الشهادة الجديدة لا تتضمن أي قدر ولو بنسبة 5% من أي احترام أو توفير الجديدة في الداخل أو في الخارج، لا لشيء إلا بسبب  الروح السائدة عندنا اليوم من نقد الذات بمرارة ودفعها إلى إنجاز ما لا يستحق إلا النقد في ظل الشعار الضخم الذي أصبح الشعار الأول والأكثر قوة في حياتنا،وهو شعار ” لماذا لا ؟ ” ونحن لا نقول هكذا باللغة العربية وإنما ننطقه بالإنجليزية من باب الحياء ونقول why not .

ومن الطريف أن الزمالة الطبية ستعتمد كلية على طائفة الأساتذة الجامعيين أنفسهم ونظرائهم الذين يمنحون الآن الماجستير والدبلوم،لكن مع تغير المكان،وبالطبع المنهج الذي لا يدرس سواء هنا أو هناك،ومع أن الزمالة تعني الوجود في مجتمع جامعي علمي،ومع أن الماجستير يعني التمكن من المهنة إلى درجة الأستاذ المعلم ” الماستر أو الأسطى ” فإن المؤسستين تتبادلان المسميين،ولن أفيض في وصف بقية جوانب المأساة لأن رواية القصة على بعضها سيكون قاسية على نفوس وعقول وقلوب قراء لا ذنب لغالبيتهم في هذا الذي يحدث ولا ناقة ولا جمل ” ولست أظن رؤيتي قادرة على أن تنقذ الأمور مما وصلت إليه ولا هي قادرة على أن تعيد الحق إلى نصابه ولا أن تبصر به أحدا،فذلك هو المحال بعينه،فالحلال بين والصواب بين،لكني أظن أن من حق صندوق الدنيا أن يحتفظ بهذه الورقة في قاع الصندوق المخصص

وقد كان الناس في الماضي يسخرون من الذين يخلطون في فهم معاني أسماء الدول،ويتخذون لهذا مثلا بالذي قال أن بريطانيا تحارب إنجلترا وإن اسكتلندا انضمت إلى بريطانيا في حرب إنجلترا،ويبدو أن هذا الخيال أصبح هو الواقع عندنا حين نسمع عن قريب من يلخص ما يحدث في قوله أن وزارة الصحة المصرية شنت حربا ضد شهادات كليات الطب،وأن أساتذة كلية الطب هم الذين يعطون شهادة جديدة في وزارة الصحة.

ومن العجيب أن المواطن المصري البسيط سيعجب من أن وزارة الصحة أخذت على عاتقها أن تؤهل بنفسها أطبائها،وسيقول هذا المواطن لجاره: هل معنى هذا أنني إذا لم أجد ما يعجبني من المدارس أن أفتح في شقتي الواسعة ،أو الضيقة في الغالب،مدرسة وأقول للناس أن ابني تخرج بالزمالة في مدرستي الخاصة التي انتدبت لها بعض المدرسين من مدرسة الحي؟والأغلب أن يجيبه جاره فينصحه بالرجوع عن هذه السياسة لأنه لا يظن أن عنده وقتا لمثل وجع الدماغ هذا،إلا فإنه لن يؤدي وظيفته في الحياة.

تاريخ النشر : 27/12/2000

جريدة : الأهرام

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com