تاريخ النشر : 22 أكتوبر 1998
جريدة : الأهرام
تنتابني نشوة عارمة كلما انعقدت الاجتماعات الجادة للجنة الوزارية للمشروعات الكبرى،ثم أجدني لا أكف عن الدعاء بأن تضع اللجنة ضمن المشروعات الكبرى مشروعا لتأهيل القاهرة لما ينتظرها من مستقبل،ذلك أنه إذا قدر الله لنا أن نعيش إلى علم 2010 لسوف نجد القاهرة وقد أوشكت أن تصبح مدينة العالم الأولى بلا منازع ولن يكون السبب في هذا عاملا واحدا من العوامل المختلفة الكفيلة بإضفاء هذه الصفة ولكن السبب سوف يكون مجموعة من هذه العوامل مع بعضها.
ربما لن تكون القاهرة وقتها أكبر مدينة في العالم من حيث تعداد السكان مع أن هذا وارد ووارد جدا أيضا،وسوف نذكر الأدلة عليه بعد قليل،وربما لن تكون القاهرة وقتها أكبر مدينة في العالم من حيث الإمتدادا العمراني لكتلة سكنية حضرية متصلة مع أن هذا وارد ووارد جدا أيضا وسوف نذكر الأدلة عليه بعد قليل،وربما لن يكون للقاهرة أكبر تأثير فعال في السياسة الدولية والاقتصاد الدولي مع أن هذا وارد أيضا ولكن المؤكد أن القاهرة ستتفوق على كل مدن العالم المناظرة لها وحتى المتفوقة عليها الآن ،في تعداد السكان وفي مساحة الكتلة الحضرية المأهولة بثلاث خصائص مهمة:
أولها:
أنها المدينة الوحيدة الكبرى الممثلة لتاريخ الإنسانية كله.
وثانيتها:
أنها المدينة الكبرى المتوسطة فكريا وليس جغرافيا فحسب فيما بين حضارات العالم المختلفة.
وثالثتها:
أنها المدينة الكبرى الوحيدة التي تحوي عناصر مقدسة تهفو إليها أفئدة وقلوب كثيرة من أكثر من دين ومن أكثر من مذهب.
ومن الواضح أن هذه الثوابت الثلاثة موجودة ومكتشفة منذ زمن بعيد ومع هذا فإن القاهرة لم تكن مرشحة لهذه المكانة بقدر ماهي مرشحة لها في السنوات العشر أو العشرين القادمة،وإذا كان الأمر كذلك فما هي المتغيرات التي حدثت ودفعت القاهرة إلى هذا الاتجاه؟؟؟…..والإجابة بسيطة ولكنها تتمثل في محورين:
محور ما حدث للقاهرة……….ومحور مالم يحدث للقاهرة.
ومن العجيب أن ما حدث للقاهرة في الفترة الماضية لم يحدث لنظائرها في العالم كله، وأن ما لم يحدث للقاهرة قد حدث لنظائرها في العالم كله وكأن القاهرة نهجت نهجا مخالفا في الإيجاب والسلب.
فعلى حين نقلت عواصم دول عديدة من المدن المزدحمة والمكثفة بالسكان إلى عواصم جديدة أنشئت خصيصا لتقوم بوظيفة العاصمة فإن القاهرة ظلت عاصمة لمصر مستحوذة على كل مهام ومزايا ومسؤوليات العاصمة بل ضاعفت من هذا المعنى،وانظر إلى عدة ظواهر طريفة كانت هناك وزارة للنقل البحري مقرها في الإسكندرية فأعيدت للقاهرة،وكان هناك ثلاثة محافظين للقاهرة الكبرى فإذا بالثالث وهو محافظ القليوبية ينشئ لنفسه مكتبا في القاهرة الكبرى نفسها وإذا بكل محافظات الجمهورية حريصة على إنشاء مكاتب لها في القاهرة بل واستراحات،وحدث هذا أيضا في الجامعات الإقليمية،وكان هذا قد حدث من قبل بل وتكرس في كل شركات قطاع الأعمال العام حيث تكون الشركة في أقصى الصعيد بمصانعها وعمالها ولكن مقرها الرئيسي ومجلس إدارتها في القاهرة وربما كان هذا مفهوما في الماضي بسبب الحاجة إلى الاتصالات التي كانت صعبة على البعد ولكني لا أظنه يظل بمثابة القاعدة بعد أن تتاح بالكامل خدمات النداء الآلي والبريد السريع والبريد الإلكتروني والتليفونات المحمولة والانترنت وقبل كل هذا الطرق السريعة الآمنة.
ويرجع التطور الأخير في حجم القاهرة وامتدادها بصورة أساسية إلى ما يمكن تسميته بالتوسع العمراني في المقام الأول والتوسع الوظيفي في المقام الثاني إضافة إلى التزايد السكاني الذي هو تزايد مركب من ثلاثة عوامل : هي تدفق الهجرة إلى القاهرة وانعدام الهجرة من القاهرة فضلا عن العامل الثالث المتمثل في استمرار زيادة معدلات النمو السكاني عما هو متوقع في مثل هذا المستوى الاجتماعي و الاقتصادي.
وقد لا يتسع المجال لذكر كثير من الأسباب التي أدت غلى هذا التوسعات فضلا عن أننا جميعا نعي معظم هذه الأسباب ولكننا سنتأمل في سرعة بالغة بعض الجوانب الكفيلة بفهم ماحدث فحين أنعم الله علينا بالتفكير في المدن الجديدة لم يكن من السهل التخلي عن مركزية القاهرة حتى في وضع نسبة كبيرة من المدن الجديدة من حولها وقد بدا هذا طبيعيا وإن لم يكن بالأمر المنطقي ولا الذكي ففي الشمال الشرقي قامت “العاشر من رمضان”، وإلى الغرب قامت “السادس من أكتوبر” وفي الشمال الغربي “مدينة السادات”،وفي الجنوب الشرقي “مدينة 15 مايو”،وكان من الطبيعي أن تنشأ مدن أخرى كامتداد طبيعي للقاهرة إضافة إلى ما تضمنته خطة المدن الجديدة ،وكانت “مدينة السلام” بمثابة النموذج الواضح لهذه المدن الحياة وقد افتتحتها الدولة قبيل اغتيال الرئيس السادات مباشرة ،وعقب زلزال أكتوبر 1992 برزت أيضا إلى الوجود مدينة أخرى موازية لها هي “مدينة النهضة”،وفيما بين السلام والنهضة والعاشر من رمضان كان من الطبيعي أن تنشأ “مدينة العبور” وعلى محورها إلى الجنوب “مدينة بدر” وهي مدينة قديمة نسبيا ولكن حظها سيء كحظ السويس إذا ما قورن بحظ الإسماعيلية التي ربما اكتسبت العاشر من رمضان حظها من وجودها على طريقها.
وبإنشاء الطريق الدائري أصبحت الفرصة مرة أخرى مهيأة لنشأة مجموعة من المدن الصغيرة أو المدن والأحياء حول هذا الطريق وهكذا ظهرت إلى الوجود الكيانات القوية المرتبطة بما كان يسمى في المشروع التخطيطي التجمع الخامس والتجمع الثالث،والقطامية،لأنه لابد لكل وزير مصري من إبداع بلاغي أو لفظي فقد سهل الله لوزير التعمير الحصول على تعبير ” القاهرة الجديدة ” ليطلقه على هذه التجمعات التي كانت قائمة من قبل ولترتبط القاهرة الجديدة باسمه باعتباره صاحب التسمية مع أن الإنشاء والتخطيط كانا قد تمما قبل توليه الوزارة.
وقد ارتبط بكل هذا التوسع العمراني توسع وظيفي ضخم ويكفي أن نذكر على سبيل المثال فحسب أن النسبة الساحقة من السيارات المصنعة في مصر تصنع في هذه القاهرة الكبرى بينما كانت في الأربعينات تصنع في الإسكندرية وقل مثل هذا في كل الصناعات الضخمة التي قامت في مدينتي العاشر والسادس من أكتوبر على وجه الخصوص وتأمل المجمعات الطباعية في 6أكتوبر مثلا وتأمل أيضا الأحرام الجامعية الجديدة للجامعات الجديدة وتوسعات قديمة….الخ.
وخلاصة الأمر أن القاهرة في عام 2010 ستكون حلقة متصلة وكتلة متصلة بدءا من “العاشر من رمضان” على بعد 50 كيلومترا من وسط القاهرة،وحتى” السادس من أكتوبر” على ذات البعد إلى الغرب،أما الحدود الشمالية والجنوبية للقاهرة الكبرى فتمتد منذ الآن من “قليوب” في الشمال إلى “التبين” في الجنوب ولولا أن ضمير الشعب المصري في اغلبه متيقظ ومقتنع بما انتبهت إليه الدولة في الحفاظ على الرقعة الزراعية ولو بأوامر عسكرية لكان الامتداد العمراني خلال السنوات الماضية قد دمر المساحة الزراعية تماما حتى حدود مدينة بنها،والذين لا يدركون فضل المدن الجديدة في هذه الناحية ليسوا واهمين ولا منكرين للفضل فحسب،ولكنهم أقرب إلى الافتراء أو إلى افتقاد عناصر القدرة على الرؤية الصحيحة،ولنذكر أنفسنا جميعا بهذا التوسع العشوائي الذي حدث على أول طريق القاهرة الإسكندرية الزراعي بدءا من القاهرة وحتى” قها ” حيث قامت المصانع والمسابك والمخارط والمطابع وورش الصيانة وكل صور النشاط الصناعي،وقد كان التطور التاريخي في غياب المدن الجديدة كفيلا بتدمير كل المساحات الزراعية على الطريق السريع حتى بنها على الأقل وبعمق كيلومتر أو اثنين على أقل تقدير على الجانبين ومع هذا فلم يكن مثل هذا التعدي ليوفر عشر مااستطاعت المدن الجديدة توفيره من مساحات وإمكانات وبنية أساسية قادرة على الوفاء للنشاط الصناعي بما يحتاج إليه ،ولعل في هذا النموذج ما ينبئنا عن مدى أفضلية البدائل إذا ماقورنت بالبدائل لا بالأوهام أو الأحلام،ومدى قصور الرؤية إذا ما وجه الانتقاد جزافا ودون تفكير في البديل والمقارنة به….وهكذا يمكن لنا أن نفهم من الآن الضرورة الملحة لوجود رؤية سابقة لزمانها من اجل الحفاظ على القاهرة في القرن القادم قبل أن تعتريها المشكلات من كل جانب ويكون حلها مكلفا وباهظا ومحتاجا لكثير من الوقت والإجراءات.
ومع أن التوسع الوظيفي الذي نلمسه جميعا فيما هو ملقى على عاتق القاهرة الآن كان نتاجا طبيعيا للتوسع العمراني والصناعي والتجاري فإن المشكلة تتمثل في أنه أضاف إلى هذه التوسعات أبعادا أخرى بحكم غياب الرؤية الإدارية القادرة على الإفادة من النمو على محاور متفرقة بدلا من تركيز النمو في محور واحد.
لن أفيض في ذكر تفصيلات كثيرة ولكني سأضرب مثلا واحدا بقطاع خدمي واحد وهو التعليم الجامعي،سوف نجد أن القاهرة الكبيرة بدأت تضيف كيانات جامعية جديدة حتى على الرغم من أنها ” رسميا ” لم تضف جامعات جديدة وسنلاحظ أن الكيانات التي نشأت في القاهرة في الفترة الأخيرة تفوق في استيعابها لإعداد الطلاب كل ما أنشئ خارج القاهرة الكبرى في الوطن كله ويكفي على سبيل المثال أن “جامعة عين شمس” بدأت إنشاء كليات الصيدلة وطب الأسنان تمهيدا لجامعة جديدة كاملة في مدينة بدر،أما “جامعة حلوان” فقد أنشأت كليات كاملة لم تكن موجودة فيها من قبل،وقد أضافت الجامعة الأم “جامعة القاهرة” إلى هذا كله شبه جامعة كاملة للتعليم المفتوح،وحدث تطور مواز في “جامعة الأزهر” سواء في كليات البنين أو البنات وحين أنشئت الجامعات الخاصة الأربع فإنها أنشئت في إطار القاهرة الكبرى وحدث مثل هذا حتى فيما سمي بفروع جامعات “سيتي ونورث ايسترن ” قبل إغلاقهما أو رفع لافتات أخرى عليهما.
ولم تقصر مؤسسات التعليم العالي غير التابعة لوزارة التعليم العالي في الإقتداء وفعل نفس الشيء فالجامعة الأمريكية الجديدة بدأت مخططها في القاهرة الجديدة ( وليس في الإسكندرية ) وأكاديمية السادات للعلوم الإدارية أنشأت مباني جديدة على كورنيش النيل في المعادي لتتسع لأعداد متزايدة….إلى آخر هذه السلسة التي لا تنتهي،وانتقلت أكاديمية الشرطة بضعة كيلومترات فحسب إلى الطريق الدائري بدلا من أن تنتقل خارج القاهرة الكبرى كلها على نحو ما خططت القوات المسلحة منذ زمن بعيد بإنشاء الكلية الجوية في ” بلبيس ” والكلية البحرية في الإسكندرية وكلية الدفاع الجوي في ” أبي قير ” ولم يكن هذا بالطبع بمعزل عن سياسات التعليم قبل الجامعي الذي أنشئت له مؤسسات عامة وخاصة في القاهرة الكبرى تفوق أضعاف ما أنشئ في أنحاء الجمهورية.
وعلى هذا النمو المتمركز في القاهرة الكبرى يصبح من الصعب على أي مؤسسة خدمية أو تجارية خاصة أو عامة أو حتى فرع لمؤسسة متعددة الجنسيات أن تفكر بأية صورة في إنشاء أي فرع لها في خارج القاهرة فضلا عن أن يكون بمثابة المقر الرئيسي وكلنا يذكر أن شركات الكمبيوتر حين بدأت نشاطها كانت تلتزم بأن يكون لها ولو فرع واحد خارج القاهرة وقد تأثرت الإسكندرية نفسها بمثل هذا القرار.
وليس الأمر في البنوك والمصارف ( على سبيل المثال ) بأفضل من شركات الكمبيوتر ولكن مما يؤسف له أن الحكومة نفسها تقيد فتح فروع للبنوك في الأقاليم بقيود شديدة جدا،ويكفي على سبيل المثال ان نذكر أن هناك فروعا كثيرة لبنوك كثيرة ثم الانتهاء من تشطيبها وتجهيزها للافتتاح منذ أكثر من عشر سنوات ولكنها لم تحظ حتى الآن بصدور قرار وزير الاقتصاد بالموافقة على بدء ممارستها لنشاطها.
وغلى هذا الحد أصبح النمو يتمركز في القاهرة الكبرى ويجمد في الأقاليم….وأحيانا ما يكون التجميد بقرارات إيجابية وأحيانا ما يكون ناتجا عن قرارات سلبية من الحكومة التي هي أكثر من يعاني من كثرة مشكلات العاصمة.
وسأتناول في مقال قادم بعض المقترحات الكفيلة بتأهيل القاهرة لمستقبلها المشرق….
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا