الرئيسية / المكتبة الصحفية / وترجّل الجوادي “أبو التاريخ” في المنفى بعد اختياره كلمة الحق

وترجّل الجوادي “أبو التاريخ” في المنفى بعد اختياره كلمة الحق

بقلم/ محمد عبد الشكور

ترجّل الفارس غريبًا في المنفى بعد أن اختار كلمة الحق، وبعد صراع طويل مع مرض السرطان تُوفي د. محمد الجوادي -رحمة الله عليه- فهدأ المكافح، واستراح المسافر بعد عَناء سفر طويل، وتمت الرحلة، فقد ارتاح الفنان الطبيب المثقف، الفيلسوف، العاشق لتراب مصر؛ ولكن ستبقى سيرته زادًا لكل مَن أراد أن ينهل من نبع العزة والكرامة.

إنه د. محمد الجوادي، الطبيب، وأستاذ الجامعة، والمؤرخ المصري، الذي توفي ودفن في مقبرة أبو هامور بالدوحة منذ أيام، عن عمر ناهز 65 عامًا، بعد أن غادر وطنه منذ 2013 عقب 30 من يونيو/ حزيران، وما بعدها في منفاه الاختياري بدولة قطر الشقيقة.

“أبو التاريخ”

وقد صادقت د. الجوادي على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد كان يسعدني تعليقه أو إعجابه ببعض منشوراتي ليصبح صديقًا دون لقاء على أرض الواقع، وإنما صداقة عبر الفضاء الإلكتروني، وكان تكفيني معرفة أخباره عبر صفحته الشخصية على “الفيسبوك”، أو موقعه الذي عنونه بـ “أبو التاريخ”.

وكان الجوادي يستغلّ إجادته التامة للغة العربية في كتابة منشورات مختزلة بها تفكير دون تصريح، ويكتفي بالتلميح، وعليك فكّ شفرة ورموز هذه المنشورات، ولم لا وهو أصغر مصري حصل على عضوية مجمع اللغة العربية، وعضوية المجمع العلمي المصري، وعضوية المجمع المصري للثقافة العلمية، كما أنه حصل على جائزة الدولة التشجيعية، وبعدها جائزة مجمع اللغة العربية، ووسام العلوم والفنون، وأصغر مَن حصل على جائزة الدولة التقديرية.

وأنا أرى أن د. الجوادي واحد من أفضل مَن كتبوا في التراجم في السنوات الأخيرة، وله جهود عظيمة في التعريف بكثير من العلماء والمفكرين، فدائمًا تجد في مقالاته المتنوعة ما لا تجده عند أي كاتب آخر، فإذا أردت البحث عن ترجمة لعالم أو مفكر في طيّ النسيان ما عليك إلا أن تذهب إلى موقعه، أو مدوناته في الجزيرة؛ فتجد معلومات وافية ومهمة عن الشخصية.

الجوادي شخصية استثنائية

د. الجوادي أو “أبو التاريخ” الذي عُرف بمواقفه السياسية المعارضة منذ الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي قبل عشر سنوات؛ له نحو 100 كتاب منشور في التاريخ، والأدب، والتراجم، ومئات المقالات، والدراسات، وحصل على درجة الأستاذية في طب القلب والأوعية الدموية بكلية الطب، جامعة الزقازيق.

وكان د. الجوادي منذ أن كان طالبًا في المراحل الأولى من التعليم نابغًا ومتميزًا، وحصل على العديد من التكريمات والشهادات والدروع في مختلف المجالات، ومن جهات عديدة، وتولّى قبل النفي الاختياري لدولة قطر العديد من المناصب واللجان، كما عمل استشاريًا لبعض المراكز، والهيئات العلمية، والشركات.

وانضم الجوادي إلى العديد من الجمعيات الأدبية والعلمية، فقد كان شعلة نشاط في جميع المجالات، وكان متميزًا في كل مجال دخل فيه من الكتابة والتأليف، خاصة في التاريخ، ولم لا وهو “أبو التاريخ”، وكذلك الكتابات العلمية المتخصصة، وأيضًا المجال الطبي، حيث ألف كتابات في الطب باللغة العربية.

ولم يترك الجوادي مجالًا إلا وكان له فيه باع كبير، حتى صار موسوعة متنقّلة، بمجرد أن تقرأ له أو تشاهده على الفضائيات ترى علمًا كبيرًا، وثقافة متنوعة، لها عدة مشارب، تجعلك تقرأ له، أو تستمع لما يقول، فتشعر حينَها أنك في حضرة عالم، غزير الإنتاج والمعرفة.

هجرة اضطرارية

كان الجوادي قبل هجرته الاضطرارية إلى الخارج بعد 2013 يكتب في صحيفة الأهرام المصرية، وكذلك روزا اليوسف، وآخر ساعة، والمصور، وبعض المجلات العربية، وغيرها، وتستضيفه معظم الفضائيات، ويحظى بمكانة كبيرة، ولكن عندما جدّ الجد، وكان لا بد أن يكون له موقف؛ وقف مع قناعاته واختياره، ومع الحق من وجهة نظره، رغم صعوبة الطريق، قال كلمته قبل أن يهاجر إلى قطر.

وعندما وقف الرجل مع اختياره انهالت الاتهامات الموجهة إليه من قِبل الإعلام الموجه، ووصفوه بأبشع التهم، وسخروا منه، وتناسوا تاريخه العلمي والأدبي والتاريخي، والجوائز التي حصل عليها، واتهموه بالانضمام لجماعة الإخوان الإرهابية -على حد زعمهم- ونزعوا عنه صفة الوطنية التي يحتكرون منحها وفق أهوائهم.

كما أسقط مجمع اللغة العربية عضويته من المجمع؛ بسبب تغيّبه عن حضور الجلسات، وتصريحاته المسيئة لمصر وشخصيات وطنيه، حسب زعمهم.

طوبى للغرباء

ويصف جميع مَن يعرف د. الجوادي أنه كان شخصًا جميل الحضور، ودودًا، دائم الابتسامة، ذا قدرة فائقة على الصداقة، ونسْج العلاقات، واسع العلم والمعرفة، خاصة في التاريخ والتراجم عن العلماء والمفكرين، وكان بالفعل شخصًا استثنائيًا وموهوبًا، رثاه كل من عرفه، ومن سمع عنه؛ بل إن بعض المختلفين معه فكريًا ترحموا عليه، وأنزلوه منزلته، ولم يبخسوه حقه رغم اختلاف التوجّهات.

“أبو التاريخ” نعاه الجميع، وضجّت مواقع التواصل بالترحم عليه من أشخاص عرفوه ولم يعرفهم؛ عرفوه من خلال كتبه ومقالاته، وتدويناته، وآرائه، ومواقفه السياسية التي دفع ثمنها غربةً بعيدًا عن وطنه، ومرضًا أصابه، تسبب له في آلام جسدية ونفسية بسبب هذا النفي الاضطراري الذي استمر 10 سنوات.

وقد رحل د. الجوادي؛ ولكن القيم التي مرض ومات من أجلها باقية، واختار الحق حتى لو اغترب بسببه، فطوبَى للغرباء، وانطبقت عليه الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

رحم الله د. الجوادي، وأجزل له العطاء، وتقبله مع الصالحين؛ اللهم إنه مات غريبًا فاحشره مع الشهداء.

المصدر : الجزيرة مباشر

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

الفارق بين زعامتين :  عبد الناصر والبغدادي

كان البغدادي يمتاز عن كل زملائه من رجال الثورة جميعا بالقدرة الفذة ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com