بقلم: محمد الشبراوي حسن
كان الدكتور الجوادي طاقة معرفية متجددة، من خالطه والتقى به لا يخرج من لقائه أبدا صفر اليدين
قليلون في عصرنا من تحققت لهم موسوعية المعرفة، فهم عملة نادرة، وهبة ربانية، يفيضون علما، وينثرون المعرفة نثرا، لا يبخلون بما آتاهم الله من فضله، ولا يكتمون ما علمهم الله، هم كالمصابيح تنير الطريق للسالكين في دجى الليل، وكالماء البارد يطفئ ظمأ العطشى للمعرفة في صنوف شتى من العلوم والمعارف.
كان الدكتور، محمد الجوادي، رحمه الله، أحد أولئك الموسوعيين. فقد كان موسوعي المعارف، واسع المعرفة، صاحب بصيرة، سليم الطبع، رفيع الأخلاق، صابرا محتسبا، نحسبه كذلك، ولا نزكيه على الله.
عرفت الدكتور محمد الجوادي في فترة متأخرة، ورغم قلة اللقاء به، فإنه في هذه اللقاءات المتباعدة كان يفيض بالكثير، الذي يجبر ندرة اللقاء به.
الموسوعي والعالم المفكر
كثيرون قد يستغرقهم التخصص، فيصبحون أسرى له، إلا أن الدكتور محمد الجوادي لم يكن من أولئك الذين استغرقهم التخصص وظلوا يدورون في فلكه، واعتزلوا الاطلاع على صنوف أخرى من العلوم والمعارف، بل كان متجاوزا لحدود التخصص، مثقفا، ومحيطا بحاجات الأمة وهمومها، وكون ذلك لديه مزيجا، استطاع من خلاله أن يقدم لنا إنتاجا معرفيا ثريا.
وهنا عندما نصف الدكتور محمد الجوادي بأنه كان موسوعيا، فلا نقصد بذلك معنى الإحاطة بكل العلوم، ولكن نقصد تبحره واتساع معرفته لعلوم متعددة، فقد كان رحمه الله متين التأسيس العلمي، وجوادا لا يُشق له غبار في ميدان المعرفة، جمع بين الطب، واللغة، والأدب، والفكر السياسي، والتاريخ، والفلسفة، وكان من الأعلام في أدب تراجم المعاصرين في مصر.
لم يكن الدكتور محمد الجوادي مجرد أستاذ كبير، وعالم متخصص في الطب، بل كان عالما مفكرا، منتجا للمعرفة ومطورا لها، وكان صاحب رسالة هادفة، وإضافة إبداعية، ورؤية واعية واسعة وجلية.
كان الدكتور محمد الجوادي موسوعة تاريخية معاصرة، والتاريخ كما يقولون هو حافظة العلوم، وقد كان بحرا عميقا في تاريخ المعاصرين من نخب مصر، وخاصة النخبة الحاكمة، فهو رائد في تراجم هؤلاء المعاصرين.
ومن بين العدد الكبير لمؤلفاته، التي تزيد بحسب ما أحصيته على 140 مؤلفا، يمكن القارئ والباحث أن يتلمس الروح الموسوعية لدى الدكتور محمد الجوادي. ومن بين هذه المؤلفات كتابه “النخبة المصرية الحاكمة 1952- 2000″، الذي تناول فيه بالبحث والتعليق النخبة الحاكمة في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد تناول في هذا الكتاب مجموعة من الدراسات الأصيلة وغير المسبوقة، وجمع فيه بين الكتابة بالأسلوب الأكاديمي والمنهج الأكاديمي، وبين التناول العلمي أو الأدبي المباشر في أسلوب جديد، بعيدا عن المصطلحات والجمل الطويلة، والإحالات، وغيرها مما درج عليه من ولجوا هذا الميدان.
طاقة معرفية متجددة
لقد كان الدكتور الجوادي طاقة معرفية متجددة، من خالطه والتقى به لا يخرج من لقائه أبدا صفر اليدين، بل يعود محملا بزاد معرفي جديد، في صنوف شتى من المعارف، ويدرك ما أقول أرباب الفكر والقلم.
وسواء كنت متفقا مع الدكتور الجوادي، أو مختلفا معه في رؤية ما، فلا يملك المرء إلا أن يُقرّ بأن الجوادي رحمه الله كان رجلا موسوعيا، قلّ أمثاله في هذا الزمان، وصاحب موقف، لا يملك مخالفوه سوى احترامه.
كان الدكتور محمد الجوادي رحمه الله واسع المعارف، وأقصد هنا بالمعارف الناس الذين يعرفهم؛ فقد كان بينه وبين كثيرين من النخبة معرفة وودّ، وكان حافظا لتاريخ الكثير منهم، وعالما مطلعا على مذكرات الكثيرين.
ولو كان الدكتور محمد الجوادي من بلد آخر، لكان له فيه شأن مختلف، فأمثاله رحمه الله تفخر بهم الأمم، وقدوة للأجيال من بعدهم.
ختاما
كان الدكتور الجوادي رجلا موسوعي المعارف، صاحب بصيرة، سليم الطبع، رفيع الأخلاق، صابرا محتسبا، أصيلا، مؤصلا، لم يعرف انتماء لحزب أو جماعة، ولكنه كان ينتمي لما يعتقده ويدين به لله، وقليل من الناس على شاكلته، ورغم المحنة التي مر بها ظل ثابتا على مواقفه، وكان يعلم أن ما يقوله أو يخطه بيمينه هو شهادة سيسأل عنها يوم التلاقي.
سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً فقال “الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ يُبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم فمن ثَخنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه ومن ضعُف دِينُه ضعُفَ بلاؤه، وإنَّ الرجلَ لَيصيبُه البلاءُ حتى يمشيَ في الناسِ ما عليه خطيئةٌ”.
لقد ابتلي الدكتور محمد الجوادي على قدر دينه، وختم الله له في مكان مهجره، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّة”.
رحل الجسد وبقي الأثر شاهدا إلى يوم الدين. رحم الله الدكتور محمد الجوادي، ورفع درجاته في عليين، وجزاه الله خير ما جزى به عباده الصالحين.
المصدر : الجزيرة مباشر