[حوارات الدين والطب و السياسة/ 21]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 21]
في بداية عملي مع أستاذي بعامين احتجت منه إلى تزكية من خلال تحرير استمارات تزكية من التي نتقدم بها إلى جامعات ومراكز البحوث في الولايات المتحدة الأمريكية لإتمام رسائلنا العلمية أو بحوثنا فيها فقال: اكتب ما تشاء وسأوقعه، فكتبت كل الاستبيانات والاستمارات حتى إذا أتيت إلى ورقة أخيرة تتعلق بالتقييم الرقمي آثرت أن أتركها له، لأنها لن تكلفه أي وقت، فهو سيضع أرقامًا في خانات تمثل تقديره لي في كل صفة من الصفات الكبرى العشر بدرجة تتراوح ما بين 1 و10، وكانت كل صفة كبرى مكونة من صفات صغرى تتراوح ما بين 5 و10 صفات، وقلت في نفسي: إن هذه فرصة لمعرفة تقديره الحقيقي لي في هذه الصفات. ولم يفت أستاذي فهم هذه الإشارة، وقال: على بركة الله، ثم بدأ ملء الخانات، وكانت كل صفة من الصفات العشر ـ كما ذكرت ـ تشمل صفات فرعية تتضافر لتكون الصفة الكبرى، وعلى نظام الاستبيانات الأمريكية كان كل شيء محسوبا بدقة شديدة، وبدأ أستاذي يضع الدرجات، فإذا به يعطيني الدرجات النهائية في كل صفة من الجدية والمصداقية والأمانة والكفاءة والدأب والذكاء وحسن معاملة الآخرين.. إلخ. لكنه توقف عند صفة فرعية واحدة (تمثل اثنين في المائة من التقدير العام) وأنقصني درجتها وهي الصفة الخاصة بما نسميه روح النكتة Humour of Sense .
وقال لي: هذه الصفة ضعيفة جدًا عندك يا محمد ! ولن أخالف ضميري وأعطيك درجتها ولا نصفها، وهكذا أعطاني صفرًا فيها في مقابل الدرجات النهائية في بقية الصفات، وهكذا أصبح مجموع درجاتي في النهاية 98%.
كنت سعيدًا ومنتشيًا بالطبع، ولكن سني في ذلك الوقت لم يؤهلني لفهم المعنى الذي قصده أستاذي، وكل ما كنت قد استطعت إدراكه أنه ربما يقصد أني مهذب أو بعيد عن استعمال الألفاظ السوقية أو ما إلى ذلك، وهكذا كنت مغرورًا وجاهلًا في الوقت ذاته، وظننت أن غياب هذه الصفة مما يرفع من قدري حتى لو أنقصني بعض الدرجات، وكنت أحدث نفسي دائما أنه إذا كانت القاعدة البشرية أنه لا أحد كامل، فنعم الحظ أن يكون النقص الموجود في شخصيتي في مثل هذه الصفة.
ولكن حدث بعد عدة شهور من هذه الواقعة أن صرحت لي فتاة كنت أحبها بأبرز عيوبي، فكان منها أني لم أتعود الجلوس على المقاهي والغرز، ومن حسن الحظ أنها سارعت إلى شرح معنى هذا العيب الذي شخصت وجوده في شخصيتي، وكانت ثقافتها مزيجًا من ثقافة أجنبية غالبة وثقافة عربية مدعمة، وقد عجبت لهذا القول وأن يصدر عنها هي بالذات، فإذا بها تأخذ عجبي هذا على أنه تأكيد لما ذهبت إليه من تشخيص صحيح لدرجة أنني ـ على حد قولها ـ لا أعرف العيب ولا طبيعته، وفي اليوم التالي قالت لي: ألم تلاحظ أن شقيقك أحمد يفوقك قدرة على استخلاص العبرة وإطلاق النكتة، ولم تكن قد رأته وإنما كانت تسمع مني تعليقاته على بعض ما نتناوله من الأمور في مناقشاتنا، ثم كانت لها تجربة غير مباشرة معه حين تطوع بالكشف في مجال تخصصه على إحدى شقيقاتها.
قلت: بلي.
قالت: هذا هو ما أقصده، إنه فيما يبدو أكثر منك معاشرة لطوائف الشعب المختلفة وعلى سبيل المثال: الممرضات والمساعدون في حجرات العمليات.
قلت: أظن الأمر كذلك.
قالت: بل هو كذلك!
ثم سألتني: هل قيمك أحد أساتذتك الأجانب أو المصريين في استمارات تقييم المرشحين لوظيفة من الوظائف؟
وهنا تذكرت قصة الاستمارة التي حررتها منذ شهور ورويت لها القصة.
قالت: لم أخطئ، وأستاذك هذا أستاذ عظيم.
قلت و أنا أريد استفزازها : ولكنه ملتح.
قالت: وهذا ما يؤكد أنك لا تفهم في النكتة ولا في الطبيعة البشرية.
قلت: وما علاقة هذا بذاك؟!
قالت: فاسأل أستاذك إن كنت شجاعا كما تزعم.
ذهبت إلى أستاذي وسألته الأمان ورويت له ما حدث فلم يضحك ولم ينفعل، لكنه علق تعليقا جميلا لا أزال أذكره وقال لي: إن فتاتك تريد أن تقول لك إنها تتحملك كثيرا وتتحمل تغابيك أكثر.
قلت له: وما علاقة هذا باللحية؟
قال: وهل تظن أن خفة الدم موجودة في مسام الذقن فإذا استطالت اللحية أخفتها!
قلت: ومن أين أدركت فتاتي كل هذا؟
قال: لو لم تكن من مستواك العقلي ما أحبتك.
قلت: ومَنْ أدراها أنك ستقف في صفها؟
قال: هي لا تدري، ولا يحزنون، لكنها متأكدة من أن شغفك بها يحيل كل حديث عنها إلى إيجابيات.
قلت: وما أدراك؟
قال: غدا تنضج بك التجربة والسن وتعرف.
***
من حسن حظي أن إدراك الحقيقة قد حدث بعد فترة قصيرة جداً، فقد تصادف بعد شهرين من هذا الحديث أن ذهبت إلى عيادة أستاذي للعمل معه ففوجئت به موجودًا قبل الموعد المحدد لبدء العيادة، وإذا به قد حضر مبكرا ليستقبل أحد زملائنا من أحد الأقسام الأخرى، وكانت لزميلنا رغبة في خطبة ابنة أحد أصدقاء أستاذي ولكن الرغبة لم تتم، وكان زميلنا يشكو من شيء عرفت فيما بعد ما قد يجلبه من أسي، وهو أن أحد الزملاء تطوع بتعكير العلاقة بينه وبين أهل الفتاة من دون أدني مناسبة لهذا التعكير، لكنها كانت فيما يبدو صورة من هواية بعض البشر الذين يسوؤهم أن يسعد الناس!!، وإذا بأستاذي يخرج من موضوع هذه العلاقات المتشابكة إلى حديث عن أن الحب يعمي ويصم، وأن الحب يبني بيوتا من الأوهام وأن المحب يعجب بصفة واحدة ويبني عليها إعجابا بصفات أخرى ليست موجودة ولكنه يفترض وجودها بناء على وجود الصفة الأولى.
وظل أستاذي يضرب أمثلة في غاية الروعة من حياته وحياة زملائه، وكانت حيوات خصبة بالفعل، وبالطبع فلم يكن زميلنا قد أتى لسماع مثل هذا الحديث، وبالتالي فإنه لم يصغ إليه ولم يستوعبه بينما كنت أنا ـ وأنا بعيد عن المشكلة ـ أتأمل في هذا الحديث الذي جاء نتيجة المصادفة البحتة، فلما انصرف زميلي سألت أستاذي: هل هذا الحديث يندرج في إطار ما أشار إليه منذ شهرين أو ثلاثة حين حدثني عن النضج العاطفي؟
قال:نعم.
قلت: ولماذا تبخل علىّ به؟
قال: عما قريب ستكون أستاذ الأساتذة في هذه الموضوعات.
قلت: ولماذا يتوقع هذا؟
قال: هذه سنة الله.
قلت: ولكن هذا لم يحدث حتى الآن.
عندئذ قال لي حكمة بالغة العمق والتعبير والتصوير وهي أن المستقبلات Receptors كانت مغلقة وقد تفتحت، فليس مهما إن كانت قد تفتحت مبكرا أو متأخرا.
في اليوم التالي قابلت زميلي الشاكي فإذا به يتعجب من أن أستاذي أخذ يحادثه في موضوعات بعيدة عما ذهب للشكوى منه، ولم أكن قد حضرت الجزء الأول من لقائهما وإنما حضرت الجزء الأخير، قلت لزميلي: إن عادة أستاذي أن يفتح موضوعًا مخالفًا للموضوع الذي نتحدث فيه إذا لم يكن راغبًا في أن يتحدث فيما نحن فيه من موضوعات.
قال: لكنه ليس مضطرا إلى هذا، فإنني ذهبت إليه في طلب محدد وهو أن يلوم من أخطؤوا لا أن يحلل لي مدى الصواب والخطأ في اختياري وإصراري عليه.
قلت: لعله يريد أن يبرئ ذمته منك، ولهذا فإنه يشير إليك بما سيذكره وستذكره أنت في زمن تال من أنه كان قد لمّح لك بوجود بعض العيوب أو المثالب فيما كنت تظنه صوابا مطلقا.
سكت زميلي وقال: الأيام بيننا.
وبعد سبع سنوات ذكرني زميلي بالقصة كلها، وقال لي: إنك كنت على حق.
قلت: بل تقصد أستاذي.
قال: لا أنا أقصدك أنت فإني لم أفهم منه ما عناه.
قلت: كأنك تؤكد حاجة الأستاذ إلى معيد أو مساعد.
قال زميلي ساخرا: ها أنت قد أصبحت أستاذا، أفأنت الآن بحاجة إلى معيد، إنها القدرة على التعبير.
قلت: ومَنْ أدراك أن أستاذي لا يحب الرمز الغامض؟ إن هذا ديدنه!!
قال زميلي وقد بدأ يدرك الحق: حتى في هذه الموضوعات.
قلت: بل في مثل هذه الموضوعات!
قال: وماذا كسب؟
قلت: وماذا خسر؟
قال: عندك حق ولكني في حيرة كيف استطعت التكيف مع أساليبه؟
قلت: ومَنْ أدراك أنني حتى الآن قد استطعت التكيف؟
قال: حقا.
قلت: نعم.
قال: كنت على وشك أن أحسدك وأن أعجب بعبقريتك فإذا بي أرثى لك وأشفق عليك.
قلت: بل تغبطني.
قال: علام؟
قلت: على بقائي مستمتعا بعنصر التشويق رغم مرور كل هذه السنوات، أليس في هذا سر السعادة كلها.
قال: وما هو؟
قلت: سر السعادة ألا ينضب معين التشويق.
قال: لنا جلسة أخرى في الغد، ولم أكن أدري أنه قد انتوى أن يذهب من توه إلى أستاذي ويسأله عما قصده من حديثه القديم، فإذا بأستاذي يتظاهر له بأنه لا يذكره (أي لا يذكر زميلي)، ولا يذكر أنه حاوره على الإطلاق.. ولم تمض ساعة إلا وكان زميلي يطلبني بالتليفون ليسألني: ألا تزال تذكر الحوار واللقاء الذي تم بيني وبين أستاذك منذ سبعة أعوام؟ وبدا لي أنه بعد حديث أستاذي وإنكاره الشديد للوقائع بدأ يقنع نفسه أن ذلك اللقاء لم يتم من الأساس، فقد أجاد أستاذي التعبير عن أنه لا يذكر شيئا، ولا شخصا، ولا شكوى، ولا حوارا، ولا لقاء حتى حسب زميلي نفسه يعيش بعض الضلالات! وأنه ربما حاور أستاذا آخر غير أستاذي.