الرئيسية / المكتبة الصحفية / التمام نصف الكمال (1)

التمام نصف الكمال (1)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 13]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 13]

بعد سبع سنوات من بدء تلمذتي لأستاذي أصيب الرجل بأزمة صحية عنيفة، وكنت أعوده مرتين في اليوم، وكان اثنان آخران من زملائي يفعلان نفس الشيء أو قريبا منه، وكنا نسجل قياس الضغط في ورقة إلى جوار سرير الأستاذ في بيته ولم يكن أي منا يعني بأن يعتبر قياسه هو القياس المعتمد، فهو واجب نؤديه ونسجله ونحن واثقون من أننا قد فعلنا ما علينا، وليس من مسؤوليتنا ولا من واجباتنا بالطبع أن تجيء قراءاتنا متطابقة بعضها مع بعض ولا متوافقة مع ما نتوقع؛ إذ إن «الحالة» حتى لو كانت حالة أستاذنا تتعاطى أدوية لعلاج الضغط فضلا عن أن «المريض» حتى وإن كان هو أستاذنا مصاب بحالة متقدمة من ارتفاع ضغط الدم، وفي هذه الظروف فإننا لا نتوقع قراءات نموذجية ولا متطابقة، كما أننا لا نعول على هذا التطابق تعويلًا كبيراً… لهذا فإننا كنا نعنى في المقام الأول بما نجده وليس بما نتصوره أو نتمناه.. وهكذا كنا نسجل قراءاتنا ونمضي دون مناظرات أو تبرير.

وحدث أن جاء لزيارة أستاذي زميله الأصغر منه أستاذ الباطنة العامة ورئيس القسم، وهو أستاذ مجتهد ومتميز، وقد وجد أن واجبه يقتضيه أن يطمئن بقياس الضغط، فقام إلى الجهاز وسجل القراءة وكان الضغط الانبساطي قريبًا من الطبيعي، فتعجب من هذا التحسن الكبير، وسأل أستاذ الباطنة أستاذي: هل سجل أحدٌ آخر ممن يقيسون الضغط أن الضغط الانبساطي يوشك أن يكون طبيعيا؟ ابتسم أستاذي وقال له: نعم واحد فقط من الأطباء الثلاثة النوبتجيين علىّ (يقصد الذين يتناوبون زيارته)… وهو صاحبك (يقصدني أنا).

عند ذاك صرح أستاذ الباطنة العامة لأستاذي بقصة قديمة تتعلق بالعلاقة بين ثلاثتنا، وروي له أنه عرض علىّ الانتقال من قسم القلب إلى قسم الباطنة العامة مع الاحتفاظ بنفس تسجيلي لرسالة الماجستير وبنفس التاريخ ونفس الموضوع؛ حتى لا تضيع علىّ فرصة موعد التسجيل أو الجهد الذي بذلته في رسالتي لأمراض القلب، لكنه ـ أي شخصي ـ رفض، وأنه (أي الأستاذ) حاول بكل المغريات إغرائي وإثنائي عن رأيي، لكنه ـ أي شخصي ـ لم يستجب، وقال: إنه مع حبه لنا لن يتنازل عن القلب من أجل الباطنة أبداً.

وأردف أستاذي يقول: إنه علق لأستاذ الباطنة بقوله: وأضف إلى ما قاله ما لم يقله، وهو : «ومع كرهه لنا ، وضيقه منا ».

فضحك أستاذ الباطنة.

***

بعد حوالي نصف ساعة كنت عند أستاذي وبطريقته ـ إذا كان راضيا ـ حكي لي الموقف بالطريقة التالية: بعد أن تركني أقيس الضغط سألني: لماذا أنت دون الباقين تصمم على أن الضغط الانبساطي أصبح قريبا جدًا من الطبيعي؟

قلت: ربما لأني أصبر حتى أسمع نهاية اختفاء أصوات كروتوكوف ولا أكتفى ببداية اختفاء أصوات الضغط.

قال: ولكنهم يفعلون نفس الشيء بالطبع.

قلت: نعم ولكنهم ربما يعرفون الوصول إلى النهاية بطريقة أخرى تجعل تقديرهم لقيمة الضغط الانسيابي مبكرًا عن تقديري.

قال: وكيف ذلك؟ إن هذا ممكن لو أنهم يعرفونها كما يخطئ المبتدئون بأنها بداية النهاية وليس نهايتها، ولكن هل يختلف تحديد نهاية النهاية، وهل لك في هذا رد فلسفي على عادتك؟

على هذا النحو وجه أستاذي السؤال دون أن يلون صوته أو يشكل ملامح وجهه بما ينبئ هل هو يسخر مني؟ أم أنه يدفعني إلى إثبات ذاتي ليفرح بي، ولم يكن مثل هذا السلوك منه أمرًا جديدًا علىّ، وكنت قد عودت نفسي أن آخذ أسئلته على الاحتمال الثاني حتى لا تقودني العصبية إلى التوتر أو الخطأ، وكنت أحدث نفسي بما اقتنعت به من أنه مهما كان في اللجوء إلى روح الندية والتفوق من مخاطر ومنزلقات، فإنها خير على كل حال من الانسحاق والخوف، ولهذا جاء جوابي وكأنه جاهز وقلت: هذا ممكن بالطبع.. كأن يعتبروها تمام الاختفاء بينما أنا أعتبرها اكتمال الاختفاء.

قال وهو يتعمد بكل ما أوتي من قدرة على التمثيل المهذب أن يظهر أنه على وشك الضحك سخرية ولكنه يتمالك نفسه، وكان في الحقيقة يجيد أداء أو تمثيل هذا الموقف المعقد بأن يبتسم نصف ابتسامة ثم يضع في ذات الوقت يده مفرودة تمامًا على فمه وما حول فمه، قال: وما الفرق؟ هل تتلاعب بالألفاظ؟

قلت: لا… لكن القرآن الكريم هو الذي علمنا ذلك.

تراجعت ابتسامته التمثيلية وقال: وأين ذاك؟

فقصصت عليه قصة آية سورة المائدة التي نزلت عقب حجة الوداع، وكان قد سمع هذه القصة بالطبع، بل ربما إنه رواها مرات ومرات.

قال وهو لا يزال غير متصور لأن يكون هذا المعنى اللغوي أو القرآني مما له مردود في العلم: ومن أدرى العلماء (يقصد علماء الطبيعيات من أمثالنا على حد تعبيره) بذلك؟

قلت وأنا حريص كما علمني على الذهاب به بعيدًا إلى البحر: ألا تذكر أننا في الهندسة كنا ندرس الزاويتين المتتامتين على أنهما الزاويتان اللتان يبلغ مجموعهما 90 درجة، والزاويتين المتكاملتين على أنهما الزاويتان اللتان يبلغ مجموعهما 180 درجة.

قال: ربما كان أول عالم ترجم المصطلحات الرياضية على علم مثلك باللغة والفلسفة فاختار هذين اللفظين المترادفين ووزعهما على هذين المعنيين!!

قلت: فما رأيك في مثلٍ من محيط السياسة؟

قال: وهل وصلت السياسة إلى هذا المعني هي الأخرى؟

قلت: نعم، وقصصت عليه قصة أحمد لطفي السيد عند مطالبته بالاستقلال التام عن الدولة العثمانية وكيف أنه لم ينقذ من التعرض للمحاكمة إلا بحيلة القول بأنه قال بالاستقلال التام ولم يقل الاستقلال الكامل.

عندئذ قال أستاذي وهو في فراش المرض: نرجع إلى موضوعنا، ظننت عندئذ أنه سيسألني: وما هو معيار الفرق بين التمام والاكتمال في اختفاء الصوت وهي مسألة عويصة تأتي بالخبرة ولا يمكن التعبير عنها بأكثر مما عبرت، أخذت أفكر على هذا النحو في الثواني التي أعقبت قوله نرجع إلى موضوعنا، بينما أنا أناوله وسادة من هنا وأسحب أخري من هناك، ولكن إذا به يقول: هل تعرف مَنْ كان هنا الآن؟

قلت: لا أعرف.

قال: إنه صديقك رئيس قسم الباطنة العامة، وقد قاس الضغط بطريقتك ووصل إلى قراءتك وسأل متشككا: هل وصل أحد إلى نفس قراءته؟ فأجبته أنك الوحيد الذي تقول بمثل هذا، ثم قص علىّ ما قصه عليه أستاذ الباطنة من اعتذاري القديم عن عدم قبول العرض المغري بالانتقال من قسم كان يبدو بوضوح في تلك الفترة أنه يضطهدني بشدة (وهو قسمنا) إلى قسم يرحب بي بشدة .

***

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com