[حوارات الدين والطب و السياسة/ 12]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 12]
قال: أحقّ هذا؟
قلت: هو الحق بعينه.. ولو أنك راجعت أزماته لوجدت هذا جوهر مآسيه.
بل إن في وسعك الآن أن تسأله عن أية أزمة مرت به وستجده في وسط حديثه يقول: إنه رأي بعيني رأسه عكس ما اعتقده ولا يزال يعتقده، ومع هذا تجده ميالا إلى تأكيد إيمانه بما سمعه في البداية من حديث أو وشاية.
وما رأيت في حياتي كلها أحدًا يمكن إدانة حكمته بروايته مثل هذا الرجل الطيب.
قال أستاذي وقد تعجب من هذا الوصف : وما حكمته في هذا؟
قلت: إنه يؤمن بأذنه أكثر مما يؤمن بعينه.
قال: وما دفعه إلى هذا؟
قلت: رومانسية جميلة.
قال: أهو رومانسي؟
قلت: بل هو مثل الرومانسية الأعلى في قسمنا لكنك لا تعرف.
قال: لم حكمت بأني لا أعرف؟
قلت: لأني أعرف أنك لا تعرف.
قال: وما السبب في أني لا أعرف؟
قلت: لأنك لا تحاوره.
ضحك أستاذي وقال: هل تعرف يا محمد أنني لم أدخل معه طيلة حياتي في أكثر من حوار أو حوارين لم يمتدا لأكثر من دقائق معدودة.
قلت: أتوقع هذا.
قال: وهل يعرف الناس ذلك؟
قلت: أخذت على نفسي عهدا أن أدل كل رؤسائه على هذه الحقيقة، فيما عداك أنت فقط ، وها أنا قد قضيت على الاستثناء.
قال: ويبدو أنك نجحت في هذا.
قلت: لا أزعم أني نجحت.. ولكني متأكد من أنه هو الذي نجح.
قال: كيف حققت هذه المعادلة؟
قلت: أرشدتهم إلى أن يجربوه في حوار.. فلم يجربه أحد في حوار وتمكن من تحمله أكثر من دقيقتين.
قال: إذًا فقد كنت أنا بطلا حين تحملته خمس دقائق في هذين الحوارين.
قلت: نعم.. وهذه حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يقلل منها.
قال: وبماذا تشخص هذا الخلق فيه؟ هل هو متعصب؟
قلت: بل على العكس هو مرن جدا ولكن تحت الإجهاد.
قال: هل هو حرفي؟
قلت: بل أكرر أنه رومانسي.
قال: وكيف لم أدرك هذه الحقيقة.
قلت: ها أنت قد أنعم الله عليك وعرفت أن هناك مَنْ يقول بها، وما عليك إلا أن تختبره بأن تحاوره فيما أقول.
قال: فلو حاورته ونجحت في تطويل فترة الحوار.
قلت: لاكتشفت رومانسيته من بعد الدقائق الخمس الأولى.
قال: أفعل إن شاء الله، لكن قل لي: هل هذا مما يحسب له؟ أم مما يحسب عليه؟
قلت: هذا وذاك.
قال: والأغلب.
قلت: الأغلب أنه خير، لكنه إذا سلك طريق الشر عذب نفسه، وعذب الأطراف الأخرى، وخسر كل شيء.
قال: أهو محب للشر؟
قلت: أصدقك القول: هو لا يحب الشر لكن الشر يحبه.
قال: أفصح.. فإن الناس جميعًا يتهمونه بحب الشر لكني لا أحسّ في قرارة نفسي أنه كذلك.
قلت: هو لا يحب الشر، لكن الذين يديرون معارك شريرة يجدونه مناسبا لأداء أدوار البطولة فيها من دون أن يدري.
قال: وكيف يصلون إليه وإلى توجيهه للعب هذا الدور من دون أن يدري كما تقول؟
قلت: يسارعون إلى مكالمته.. في الصباح..
ويجيدون تصوير هدفهم على أنه هدف نبيل.. في الضحى..
ويستثيرون حبه للعدل.. في الظهر..
ويثنون على صلابة موقفه.. في العصر..
ويهنئونه بالانتصار.. في المغرب..
ويدعون له بالاستمرار.. في العشاء.
قال: كيف بك في افترائك وقد ربطت كل فعل بصلاة من الصلوات الخمس، فضلًا عن الضحى التي هي سنّة مؤكدة؟
قلت: ما أنا الذي ربطت.. إنما هم بحرصهم على الشر وبحرصهم على الإفادة من أدائه المتفوق والمجاني لدور البطل الشرير يصورون أنفسهم في صورة جميلة فلا يأتونه إلا في المسجد، وهكذا يزداد انخداعه بهم.
قال: مع أن المسجد ليس مكانًا للمؤامرات.
قلت: هو لا يعرف أنه جزء من مؤامرة، وإنما يظن نفسه محقًا حقاً، ومبطلًا باطلاً.
قال: أهو من الغفلة إلى هذا الحد؟
قلت: بل من الذكاء.
قال: حيرتني ماذا تقصد؟
قلت: هل يرفض ممثل قدير دور البطولة لأن دور البطل شرير؟
قال: لا.. لكنك تتمادى في السخرية من صديقك، وهاأنت قد جعلت منه ممثلا في النهاية.
قلت: ما قصدت هذا.
قال: فماذا قصدت إذاً؟
قلت: هو صاحب دور، ودور مؤثر، لكنه للأسف لا يكتب الدور ولا يعدل فيه ولا يختاره، وإنما هو يؤديه حسبما تريد عصابة الشر أيًا ما كانت عصابة الشر.
قال: وهل في تاريخنا الفني أو التمثيلي بطل يصور هذه الشخصية على سبيل التقريب؟
قلت: حكى ناقد أدبي عربي مرموق الآن أنه كان قد عمل في بداية حياته مساعد مخرج في السينما وأنه في أثناء الاستعدادات لبدء تصوير فيلم من الأفلام كان أمامه وقت للحديث إلى الممثلين الكبار ريثما يبدأ التصوير، وكان أحب هؤلاء إلى قلبه هو الأستاذ محمود المليجي، وبعد حديث مع الرجل عرض عليه أن يطلعه على السيناريو الذي لم يكن قد اطلع عليه بعد، فما كان من الأستاذ المليجي إلا أن قال لمساعد المخرج: إنه لا داعي لهذا، فتعجب صاحبنا من هذا الرد من فنان عرف بالتجويد والإتقان، وسأله: هل اطلعت على السيناريو من قبل؟
أجاب الفنان: لا.
قال: ولماذا لا تطالعه إذاً؟
قال الفنان: لأني أعرف ما فيه بالحرف.
تعجب الناقد وظهر العجب على وجهه، لكن الفنان محمود المليجي لم يتركه في حيرته وقال له: افتح السيناريو وتابع معي.
فما كان من الناقد إلا أن فتح السيناريو عند بداية الدور المسند إلى الأستاذ محمود المليجي وإذا بالأستاذ المليجي يقرأ له من ظهر الغيب ما في السيناريو الذي لم يطلع عليه من قبل.
يتقدم المليجي خطوة.. يواجه البطل الآخر.. ينظر إليه شزرا.. يسأله سؤالا.. يفاجئه بصفعه بالقلم على وجهه.. إلخ.
بدأ أستاذي في نوبة ضحك خفت على حياته منها، وكان كلما انتهى من الضحك عاد إليه حتى خفت على حياته خوفا شديدا وبدأت أجزع.. وبعد لحظات هدأ أستاذي وبدأت أنا أضحك على جزعي عليه.
التفت إلىّ أستاذي وقال: هل تجد في نفسك الجرأة على أن تصور له هو شخصيا هذا الموقف الكوميدي؟
قلت: بالطبع أجد.
قال: كيف تستطيع تمثيل هذا كله وهو لا يسمح لمحاوره بالحديث دقيقة دون مقاطعة يبدؤها بقوله: عن إذنك دقيقة واحدة، ويمتد بالإذن إلى ساعة كاملة أو أكثر في ترديد مونولوج طويل ومعروف وهو لا ينتهى.
قلت: الأمر في غاية البساطة.. أحكي القصة على أنها بطولة طرف آخر حتى إذا ما ضحك أخبرته أنه هو المقصود.
قال: ما أجرمك.
قلت: أهذا جزائي؟
قال: إنما هو تعبير من باب الإعجاب على نحو ما ذكرت أنت في نقدك لكتاب عبد المنعم عبد الرؤوف حين تحدثت عن قوله عن عبد الناصر « جمال السفاح » حين قبض على زوجة يوسف صديق واعتقلها ، فقلت : إن هذا التعبير على الرغم من أنه في ظاهره انتقاد، إلا أنه يدل على إعجاب خفي.
قلت: لنا الله .. ها هي آراؤنا وقد أصبحت سلاحًا نهاجم به في ضراوة ويصور أساتذتنا لنا أنهم يقدمون لنا حلوى جميلة.
قال: ما أشقى محاورك يا محمد.. لكن دعك مني ومنك وقل لي : هل يعرف الرجل جوهر آرائك فيه؟
قلت: وما جدواها.
قال: على الأقل يستمتع بها.
قلت: ليس قادرًا على هذا.
قال: إنك تجزم كأنك تعرفه.. هل عاشرته؟
قلت: نعم.. وأشهد له بحسن الأخلاق، وحسن العشرة، وكل شيء حسن جميل، ولو خيرت بين عشرته وعشرة أي شخص آخر ما فضلت عليه أحداً، ولو خيرت بين مشاركته ومشاركة آخر في مسكن أو مأكل أو مركب ما فضلت عليه أحداً.
قال: عجيب أمرك يا محمد.. تفصل بين الجوانب المختلفة في كل شيء يتجلى لك فصلًا دقيقًا حتى تصل إلى لب الحقيقة.. لكني ألمح في حديثك في البداية إشارة إلى مسؤوليتي عن تصرفاته.
قلت: قد وعدتك ألا أثير أعصابك.
قال: فأنا الآن هادئ فتحدث بما تشاء.
قلت: لا أظن لحديثي قيمة.. فقد فات الأوان الذي يمكن لك أن تصلح فيه شيئاً.
قال: هل تدري أني كنت أسألك لهذا السبب؟
قلت: أدري.
قال: أتحس بعذابي من أجله.
قلت: لكنه لا يحس.
قال: هذا هو ما يعذبني.
قلت: فعليك بالصبر والسلوان.
قال: وهل أملك غيرهما.
قلت: تفضفض لي كلما احتجت فضفضة.
قال: قد أصبح العثور عليك عسيراً، لا أنكر أني طوال تنامي إدماني لمحاورتك كنت أحسب حساب هذا اليوم الذي تنشغل عني فيه بمجدك فتحرمني من صحبتك.
قلت: عليك بالرجل.
قال أستاذي : لنا الله..
ثم أردف على طريقته في التلغيز التي كان أحيانا ما يلجأ إليها :
السليم لا يكسر.
والمكسور لا يلتئم.
قلت: مَنْ السليم ومَنْ المكسور .. أيهما هو .. وأيهما أنا؟
قال: أنا المكسور.
قلت: فمَنْ السليم؟
قال: أنا أيضا.
قلت: ونحن.
قال: معذبون.. ظالمون.. مقلقون.. مفترون.
قلت: وأولادك الذين من صلبك.
قال: ربما أنهم في بعض الأحيان أرحم منكم درجة واحدة فقط .. وربما لا !!
***