دوره البارز في نهضة مصر
لا يمكن لأي منصف أن ينكر دور الخديو عباس حلمي الثاني في نشأة المناخ الحضاري الذي ساد عصره كله منذ 1892 وحتى 1914 وكان سببا حقيقيا لبزوغ النهضة الحديثة في الشرق كله ، وقد كان الخديو بشخصيته وشبابه وتاريخه ونسبه وتعلميه وتحفزه وطموحه وتجربته عاملاً مهما من عوامل نهضة مصر التي سرعان ما تبلورت و انتعشت مع ثورة 1919 ، و مع أنه كان قد ترك الحكم قبل هذه الثورة بخمس سنوات فإن الحقيقة أن الحقبة التي تولى فيها الحكم كانت بمثابة عصر المخاض الطبيعي لكل عوامل النهضة، وإذا أردنا استعراضاً نطل به على هذه الظروف الصانعة للنهضة أو المهيئة لها أو المساعدة عليها فإننا نستطيع أن نحدد عددا من الملامح البارزة وسنجد للخديو دورا بارزا فيها .
و من المدهش أن أول هذه العوامل كان للأسف هو جو الملل الذي خلقه الركود السياسي الذي اجتاح مصر بعد فشل الثورة العرابية أو بعد التآمر على الثورة العرابية، وقد صادف هذا التآمر على الثورة تآمراً استعماريا كانت بريطانيا ترغب من خلاله في أن تضاعف من سيطرتها على مصر على نحو ما سيطرت على الهند قبل ذلك، وقد وجدت بريطانيا بخبرتها في الهند أن الشعوب التي تعاني الاستبداد المطلق لا تعنى بالدفاع عن حكامها أو عائلاتها الحاكمة، وهكذا بدأت بريطانيا توطد أركانها في مصر، بينما المصريون المجروحون بعد هزيمة عرابي ونفيه، وبعد تدمير جيشهم الذي تم تسريحه يرون “العدمية” أقوم سبيلا من أي تفكير في “المقاومة” ، وقد تأكد عندهم هذا من أن الاضطهاد كان تعبيرا عن المصير السيء الذي واجهه كل من فكّر في تأييد العرابيين ، وقد تنوع هذا المصير السيء ما بين نفي و سجن وفصل من الوظيفة ، وفي كل الأحوال فقد ظل كل وطني أو كل ذي نزعة وطنية ملاحقاً، وهكذا آثرت التيارات المختلفة بمن فيها الخديو الطموح نفسه) التفكير في السلامة الشخصية بالموازاة للتفكير في الواجب الوطني ، وأصبح هناك وقت متسع للقراءة والدراسة ولمطارحة الأفكار والشعر والفكر والأدب وكل ما يلزم النهضة من حرث الأرض الثقافية الذي لا يمكن إنجازه في زمن التقلبات والنشاط السياسي الفاعل .
كان قادراً على ان يبدأ عصر نهضة مصر
هل كان الخديو عباس قادراً على أن يدخل بمصرعصر التصنيع الجاد الواسع النطاق أو عصر الاستكشافات العصرية الاستعمارية؟ الإجابة الصائبة تقول : إنه كان قادراً لولا عائق ضخم وهو أن مصر كانت مكبلة تماماً بالديون وهو ما نجحت أوربا في فرضه على مصر من سقف حديدي مانع لكل طموح.
وحتى ندرك حجم وقسوة هذا القيد فإنه يكفي أن نقرأ أرقام موازنة مصر في ذلك العهد حيث نجد أن الديون تستغرق أكثر مما كان من الممكن توجيهه للتنمية، ولهذا فإنه حتى على المستوى الفردي لم يكن من الممكن لطبقة كبار الملاك أن ينمّوا ثروتهم إلا في حدود محكومة بسقف منخفض، حتى إننا إذا أردنا تصويراً دقيقاً فإنه يمكن لنا أن نقول إن من كان يملك ألف فدان واستطاع الارتفاع بها إلى ألفين بطريق الاستصلاح أو الوراثة أو التجارة ..الخ) كان يمثل نموذجاً معجزاً نادر الوجود ، ويدلنا على هذا ما حدث بالفعل من ان مستثمرا بلجيكيا من طبقة البارون أمبان كان قادراً على أن ينشئ في مصر ما لم يكن قادراً على إنشائه في أوربا بالمعطيات ذاتها ، ولم يكن رأسماله الذي أنفقه في هذا الاستثمار الكبير بالنسبة لمصر في ذلك العصر متوافراً للمصريين ممن يتصورون أنفسهم من ذوي الثروات الطائلة. بل اننا كقراء للتاريخ نملك مثلا كفيلا بتصوير القيم المتفاوتة للثروات العقارية ما بين الأراضي الزراعية والمباني، وذلك المثل هو ما حدث بين الملك فاروق والملكة فريدة، حين أهداها بمناسبة زواجهما تفتيش الفريدية 2232 فدانا الذي تم حسابه بعد الطلاق الذي وقع بينهما مساويا لقصر الطاهرة المعروف الذي استخدمه الرئيس السادات مقراً لقيادته في حرب أكتوبر 1973.
ولعل هذا المثل بعيداً عما يُشكل على القراء من أرقام الجنيهات المصرية والجنيهات الإسترلينية والفرنكات والدولارات يبين لنا بكل وضوح أن المصريين منذ ذلك العهد وحتى الآن لا يزالون يقيّمون أرضهم الزراعية (الملايين السبعة من الفدادين المزروعة التي هي العماد الأول لثروات الشعب) على نحو يجعل قيمتها لا تزيد عن قيمة مجموعة من المباني في مدينة القاهرة مهما كانت قيمة هذه المباني وخلودها مع الزمن.
التطوير البنيوي للمنظومة التعليمية
كان من هذه العوامل أيضا تعظيم الإفادة من “التطوير الداخلي للمنظومة التعليمية” على يد رجل التعليم البارز في عهد والده وجده وهو علي باشا مبارك 1824-1893 الملقب بأبي التعليم، وكان هذا التطوير سواء ما تحقق منه أو ما تم بذر من بذوره أو ما تم جني ثماره بمثابة عامل جوهري في هذه النهضة.
الاهتمام الحثيث بتقدم التعليم
من زاوية أخرى فإن التقدم الذي حدث في التعليم في عهد والده الخديو توفيق، وهو تقدم حقيقي لا يتحدث عنه أحد (من باب كراهية نسبة أي فضل إلى الخديو توفيق) مع انه كان تقدما عميقاً ومؤسسيا ومتصلا وغير قابل للانتكاس ، وقد واصل الخديو عباس حلمي نفسه هذه السياسة بأفضل من أبيه وبأفضل من جده الخديو إسماعيل وبالطبع بأفضل من جديه الكبيرين محمد علي باشا وإبراهيم باشا اللذين كانا يربطان التقدم في التعليم بمدى ما تتطلبه الاحتياجات العسكرية والحربية، ولهذا ولسبب آخر لا نستطيع إغفاله وهو مرور الزمن، وطبيعة العصر، فقد شهد عهد الخديو عباس حلمي ذروة الاهتمام بالتعليم الوطني وهو ما تتوج في عهد تولي سعد زغلول باشا لوزارة المعارف ما بين 1906 و1910 وأحمد حشمت باشا 1858- 1926 الذي خلفه في هذه الوزارة وأضاف إضافات نوعية إلى كل ما أنجزه سعد زغلول بل وأتاح نشأة التعليم المتخصص في المستويات العليا والمتوسطة على نحو مبكر.
تأسيس الجامعة المصرية
مع اشتداد ساعد الحركة الوطنية المصرية في أوائل القرن العشرين انبرت نخبة من قادة العمل الوطني ورواد حركة التنوير والفكر الاجتماعي في مصر كالشيخ محمد عبده، وسعد زغلول وقاسم أمين ومصطفى كامل، ومحمد فريد، ، لتحقيق حلم إنشاء جامعة تنهض بالبلاد في شتى مناحي الحياة، وتكون ميدانا للفكر الحر وأساسا للنهضة العلمية ، وقد كانت هذه الأمنية تلقى معارضة شديدة من سلطات الاحتلال البريطانية على يد لورد كرومر الذي كان يدرك أن إنشاء جامعة في مصر يعنى إيجاد طبقة مثقفة من المصريين تدرك أن الاستقلال ليس مجرد تحرير الأرض، وإنما هو تحرير الشخصية المصرية والانطلاق بها في مدارج الحضارة، وقد تكونت لجنة من الوطنيين بذلوا التضحيات حتى خرجت الفكرة إلى النور ، وتم افتتاح الجامعة المصرية كجامعة أهلية في الحادي والعشرين من ديسمبر 1908 في حفل مهيب بقاعة مجلس شورى القوانين رأسه الخديو عباس حلمي نفسه، وفي مساء يوم الافتتاح بدأت الدراسة في الجامعة على هيئة محاضرات، ولما لم يكن قد خصص لها مقر دائم فقد كانت المحاضرات تلقى في قاعات كان يعلن عنها في الصحف اليومية كقاعة مجلس شورى القوانين، ونادى المدارس العليا، ودار صحيفة الجريدة ثم اتخذت الجامعة لها مكانا في سراى جناكليس الذي تشغله الجامعة الأمريكية بالقاهرة حالياً. و بادرت الجامعة بإرسال بعض طلابها المتميزين إلى جامعات أوروبا للحصول على إجازة الدكتوراه والعودة لتدريس العلوم الحديثة بها وكان على رأس هؤلاء المبعوثين الدكاترة منصور فهمي، وأحمد ضيف، و طه حسين، وأسست الجامعة مكتبة ضمت مجموعات الكتب التي أهديت لها من داخل البلاد وخارجها.
نشر الكتب ونهضة الصحافة
بالموازاة للتعليم وربما قبله تأكدت موجتان صاعدتان من النجاح المصري الساحق في النشر الثقافي والصحافة على حد سواء، ومن الواجب (و المدهش) أن نذكر أن تمويل النشر كان يسير على نحو لم تصل مصر ولا أي بلد آخر حتى الآن إلى مستواه ، فقد كان القادرون أيا ما كانت مستويات ثقافتهم وشهاداتهم يمولون تكلفة نشر الكتب على نفقتهم الشخصية، من دون أي ادعاء مؤسسي ، وهو ما نراه على أغلفة هذه الكتب العظيمة التي تبرز في صفحة الغلاف ما يشير بكل وضوح وبراءة إلى أن هذا الكتاب طبع على نفقة فلان، و قد يكون فلان هذا تاجرا بسيطا فحسب ، ومن الطريف أن نذكر هنا أن رائعة فكتور هوجو “البؤساء” قد طبعت على نفقة رجل القضاء والإدارة أحمد حشمت باشا وهو نفسه وزير المعارف الذي تبنى الشاعر حافظ إبراهيم وعينه في دار الكتب ولهذا فقد رثاه حافظ إبراهيم بقصيدة من عيون الشعر تناولناها في كتابنا “سلطة العقل الطموح”. ومن المدهش أيضا أن أسماء عدد من رجال الدولة البارزين بعد ذلك تأتي في سياق تشجيعهم لنشر كتب التراث مع تحقيقها سواء بتوفيرهم التمويل من مالهم الخاص أو من الإدارات والمواقع التي يتولون أمرها في وظائف الحكومة، وقد ساعد هذا الجو “الطباعي” على أن تتسلم القاهرة راية الطباعة العربية و النشر الثقافي بصورة شبه كاملة.
الترحيب المحسوب بازدهار الصحافة
في اطار سعي مصر إلى التقدم فإنها نجحت في استكمال الاوعية الديموقراطية وأهمها بالطبع : الصحافة التي ازدهرت في عهد الخديو عباس حلمي الثاني ، والأحزاب التي بدأت الظهور والنشاط ، و البرلمان الذي تطور ذاتيا إلى كيان اكثر فاعلية وأقل صورية وهو ما تحقق بصورة عملية من خلال ما دار من مناقشات حول مد امتياز قناة السويس على سبيل المثال ، وهو ما أدى في النهاية إلى عدم قبول العرض البريطاني وإلى خلق شعور وطني وحماسي لا يزال له أثره.
تفوقه في الانشاءات الحضارية و البنية الأساسية
ذكرنا في مقدمتنا لهذا الكتاب أن من حقائق تاريخنا الحديث غير المشهورة [وغير المنكورة أيضا ] أن الخديو عباس حلمي الثاني كان أكثر حكام العصر الحديث في مصر علاقة بالبنية الأساسية والهندسية المدنية ، متفوٌقا بهذا من الناحية النوعية والنسبية على الحاكمين اللذين فاقاه في مدة توليهما حكم مصر، وهما جده الأكبر محمد علي باشا ، والرئيس حسني مبارك ، كما أنه تفوق في البنية الأساسية على جده المباشر الخديو إسماعيل الذي ترك بصمات بارزة لا يمكن إنكارها من حيث التحديث والمدنية، وباختصار شديد نستهدف به فتح الأبواب لمزيد من البحث والدراسة ، فإن الخديو عباس حلمي الثاني الذي حكم مصر 23 عاما ما بين 1892 و 1914 نجح في إنفاذ وإنجاز كثير من المشروعات الهندسية الناجحة ، كما نجح فيما لم ينجح فيه غيره بذات القدر من وضع قدم مصر على بساط دولة المؤسسات الحديثة الكفيلة بإنجاز المشروعات وتسييرها من خلال ما سيسمى الان بالقطاع الخاص بعيدا عن مركزية الدولة أو الجيش ، ولم يكن هذا الإنجاز الذي مضى فيه الخديو عباس خطوات واسعة بالأمر الهين لا في عصره ، ولا حتى فيما بعد عصره.
ولا شك في ان الالتفات بأقصى ما هو ممكن ( و على الرغم من شح الموارد) إلى البنية الأساسية، لا يتحقق الا مع الهدوء (أو الركود) على حين يصعب تحققه بنفس القدر في أزمنة الحروب و الحراك السياسي ، وإذا قيل أن عصر الخديو عباس حلمي كان هو عصر الاهتمام بالبنية الأساسية على نحو ما كان عصر جده الخديو إسماعيل هو عصر الاهتمام بالبنية الظاهرة فلا مبالغة في هذا فالدلائل على هذا كثيرة .
فخره بدوره في الإنشاءات المدنية
كان الخديو عباس فخوراً بأدواره الإنشائية، بيد أنه لم يترجم هذا الفخر بما فيه الكفاية ، وهو يذكر على سبيل المثال أن إيراده هو نفسه من الأرض الزراعية كان يفوق ايراده من العقارات المتميزة التي بناها في القاهرة لكنه لا يتحدث عن عدد هذه العمائر ولا عن نموذجه الذكي الذي كان ولا يزال بمثابة فتح في عمارة القاهرة وعمرانها ولا يتحدث عن تكلفتها ولا عن إيراداتها ولا عن مساحاتها ولا عن تصميماتها ولا الشركة أو الشركات التي تولت بناءها. وفي كل الأحوال فقد كان له عذره حين كتب المذكرات حيث كانت بصمات عمله ونشاطه ماثلة للعيان في كل ميدان بحيث لا يمكن مقارنة أحد آخر به على نحو ما ذكرنا ، وبحيث لا يمكن لأحد أن يتجاهل دوره، لكن هذا الحضور كله شيء وكتابة التاريخ أو المذكرات و الذكريات شيء آخر.
عوامل نجاحه في الإنجاز المدني
من المؤكد أن هناك مجموعة من العوامل تضافرت في مساعدة الخديو عباس على هذا الإنجاز، و تأتي في مقدمة هذه العوامل : شباب الخديو حين تولى الحكم ، وثقافته ، وسعة مداركه التي تكونت مع كثرة الرحلات المبرمجة سلفا ، وعقليته المتأثرة بأسلوب المدرستين الحضاريتين الألمانية والنمساوية التي فتح عينيه عليهما ، فضلا عن طموحه الذي لم يقف عند حدود ما أنجزه أسلافه ، وما وفرته له ثروة بلاده من قدرة على الحركة ، وقد ساعدت كل هذه العوامل الخديو الثاني على أن يمضي في سبيل الإنجاز “المدني” بالمعنييْن المعروفيْن لمصطلح المدني ، ومن الطريف أنهما معنيان متٌصلان على الرغم من الاعتقاد في تباعدهما ، فالمدني الهندسي مرتبط تمام الارتباط بالمدني الاجتماعي / السياسي الذي يوظف الديموقراطية في قيادة حركة المجتمع بدلا من الاعتماد التام على حصرية السلطة أو على أبوتها، وهو الإنجاز الذي لا يمكن تحقيقه من دون أن يكون المجتمع نفسه قد استوفى النظر الذكي الى إنجازات تسيير الحياة اليومية بما يكفل سلاسة الاتصال بين الحاكم والمحكوم كما يكفل هذه السلاسة بين الراغب في تولي المسئولية والقوى المحددة لمن يتولاها ، وهى قوى الشعب والمجتمع المدني، بطريقة أو بأخرى.
اعتزازه بدوره في خزان (سد) أسوان
فإن كان الخديو عباس حريصا على أن يكرر القول بأنه كان صاحب فكرة سد (خزان) اسوان 1898-1902 وليس لورد كرومر ، لكنه لم يُحدثنا كيف جاءته الفكرة ولا كيف طورها على النحو الذكي الذي هي عليه ، وهو يعبر عن هذا الفخر فيقول : “إ.. ذا كان هذا الصرح العجيب والقوي، الذي هو خزان اسوان، قد تم بناؤه، فإن ذلك كان بدافع مني شخصياً، وبتصريح مني، وكان المجهود المالي لمصر كبير الأهمية، فمديريات الجيزة وبني سويف والمنيا وأسيوط، الأربع، نجحت في التمكن من زراعة ثلاثة محاصيل في العام، وسمحت الضرائب على هذه الأراضي، وفي مدة عشر سنوات فقط، بدفع تكاليف المنشآت والمباني التي تمت في ثلاثين عاماً”.
ذكاء فكرة السد و قيمة المهندس ويلكوكس
تم تصميم سد أسوان ليسمح للمياه المحملة بالطمي في الأسابيع الأولى من الفيضان السنوي من المرور عبره ، ثم حجز المياه الصافية التي تأتي لاحقاً في موسم الفيضان، وهي فكرة ذكية التي لم يستطع تصميم السد العالي أن يوفرها مما تسبب في أبرز المشكلات التي نشأت عنه وهي مشكلة النحر في الأراضي الزراعية. وقد أشرف على إنشاء سد أسوان وليام ويلكوكس 1852- 1932 وهو مهندس مدني بريطاني كان قد نفذ العديد من مشاريع الري الكبرى ثم عمل مهندسا بحكومة مصر في 1883.بعد الاحتلال البريطاني، و هو الذي صمم أيضا ما يعد سدا آخر على النيل، هو قناطر أسيوط 1903 ، ثم شارك في تخطيط وتعمير منطقة الزمالك ، وقد سمي شارع في الزمالك باسمه ، و هو الشارع الذي أطلق عليه فيما بعد ذلك اسم الدكتور طه حسين.
دوره الذي لم يتحقق في نهضة السكك الحديدية
من السهل علينا ان نقول انه كان من المتوقع لشخصية من طراز الخديو عباس أن يدخل بمصر في تنافس تكاملي مع خط سكة حديد الحجاز وذلك بأن يتولى إنشاء خط مواز للبحر الأبيض المتوسط يبدأ من مدينة ما في الشمال الإفريقي سواء في المغرب أو الجزائر أو تونس أو ليبيا ويصل إلى حيث تمر سكة حديد في شرق سيناء لكنه بالطبع كان يعاني من ترصد البريطانيين (والأوربيين) تجاه مثل هذا العمل [الوحدوي] العظيم فتكاسل عنه ، مع أنه بالقطع كان قادراً على أن ينشئ هذا الخط كما كان قادرا على الحصول على رضا الأوربيين و تعاونهم لو أنه لجأ إليهم كمقاولين ومنشئين ومستثمرين قادرين على أن يمولوا وينجزوا هذا الخط وينتفعوا بجزء من إيراداته لمدة من الزمن ، ومن العجيب أننا نرى الآن أن مائة عام قد مرت على مثل هذه الأمنية ولم تبدأ في التحقق بعد.
ونحن لا ننفي ان الخديو حريصا كان على زيادة خطوط السكك الحديدية، وبدأ بنفسه تأسيس سكة حديد مريوط على نفقته على سبيل الاستثمار ، وفيما بعد فإن اعداءه من الإنجليز استطاعوا بطريقة من طرقهم غير المباشرة أن يجبروه على التنازل عن هذا التوجه وهذا الشرف باقتناص مكونات هذه السكة لبيعها لتكون من الأجزاء المكملة للخط الواصل إلى سكة حديد الحجاز.
إنشاء البنك الأهلي المصري
في سنة 1898 صدر المرسوم بتأسيس البنك الأهلي وأعطته الحكومة امتياز إصدار أوراق النقد المصري، فصار بمثابة بنك الحكومة، أي أنه كان حسب وصف المؤرخ الرافعي بنك أهلي شكلاً واجنبي فعلاً.
نماذج للمؤسسات الحضارية التي أنشئت في عهده
الجامعة والمتاحف والآثار
- جامعة القاهرة
- خطة ترميم آثار مصر الإسلامية وبدأ بهذا في جامع السلطان حسن و مسجد عمرو بن العاص و مسجد ابن طولون منذ 1895
- المتحف المصري
- متحف الفن الإسلامي
- أنشأ و افتتح محطة مصر للسكك الحديدية بكل جمالها ( المسماة الآن بمحطة رمسيس)
السدود والقناطر
- خزان أسوان ، المعروف بأنه سد أسوان القديم تمييزا له عن السد العالي
- قناطر أسيوط
- قناطر إسنا
الكباري
- كوبري إمبابة.
- كوبري أبو العلا
- كوبري الملك الصالح
- كوبري عباس
- كوبري الجلاء
دخول الكهرباء المدن
في عام 1892 تعاقدت الحكومة المصرية مع شركة ليبون لتجربة الإضاءة بالكهرباء في مدينة القاهرة و تم تحديد سعر بيع الكيلووات ساعة بفرنك فرنسي ونصف فرنك خفض بعد ذلك 1898 الى فرنك ليكون مساويا لسعر الكهرباء في باريس ، وكان العقد يتضمن بنداً ينص علي أن الشركة لن توفر التغذية الكهربائية خلال النهار مالم يصل الحمل الإجمالي للقوي المحركة الي 50 حصان (= 26.8 كيلووات) لمدة ثماني ساعات يومياً، وتعهدت الشركة بالإمداد بالكهرباء من قبل غروب الشمس بنصف ساعة الي بعد شروقها بنصف ساعة .
جدول 4 موجز التطور الأسي في استخدام الكهرباء
السنة
|
عدد المشتركين |
إجمالي الاستهلاك |
1912 |
4800 مشترك |
3 مليون كيلووات |
1946 |
112000 مشترك |
73 مليون كيلووات ساعة |
ترام القاهرة
في 12 أغسطس 1896، بدأ تشغيل ترام القاهرة، وكانت تديره شركة بلجيكية، ويعمل بالكهرباء التي بدأت تنتشر في بيوت وشوارع القاهرة. افتتح الترام بحضور حسين فخري باشا وزير الأشغال العمومية، وبعد أيام من التجربة، تم افتتاح تسيير الترام بصفة رسمية على 8 خطوط، كانت كلها تتجمع في ميدان العتبة وتصل أطراف المدينة في ذلك الوقت بالكامل.
ترام الإسكندرية الكهربي
أما ترام الإسكندرية فكان قد بدأ العمل منذ عام 1863، وفي عام 1897شهد ترام الإسكندرية أعمال تحديث وتوسعة ليصبح تراماً كهربائياً. في تلك السنة انتهت أعمال ازدواج الخط بالكامل وتم مد تفريعة حتى يخدم محطة قطار سيدي جابر ويربطها بالمدينة، وتم مد خط جديد من فلمنج إلى محطة المحمدية (فيكتوريا حالياً) حيث كانت نهاية العمران في الإسكندرية. وفي العام التالي بدأ الدول عن العربات البخارية واستخدمت قاطرات تسير بالكهرباء ، وتم استبدال كامل العربات في سنة 1904 على النمط الكهربي الجديد في ذلك الوقت، وتم مد خط من محطة الرمل لسراي رأس التين في حي الأنفوشي 1897، وهكذا تم ربط أجزاء المدينة القديمة مثل محطة مصر وكرموز ومحرم بيه والمنشية بخط تصل نهايته إلى محطة الرمل ، و يرتبط بخط ترام الرمل بسلاسة شديدة ، وذلك على نحو ما نراه في ميدان محطة الرمل الآن ، وهكذا ترابطت المدينة بالكامل عبر شبكة الترام .
زراعة قصب السكر
مع اكتمال بناء خزان أسوان عام 1902 ثم تعليته اللاحقة عام 1909، وبالتزامن مع إنجاز شبكة الري، بدأت لأول مرة زراعة آلاف الأفدنة بالقصب ، و تخصيص مساحة جديدة لزراعة قصب السكر ومن ثم ازدهار مصانع السكر في عموم صعيد مصر، و أصبح السكر هو الصناعة الرئيسية الأولى أما زراعة قصب السكر فكانت ثاني أكثر المحاصيل ربحاً في مصر.
تأسيس شركة كوم أمبو
تأسست شركة كوم أمبو عام 1904 لاستصلاح آلاف الأفدنة في صعيد مصر بمرسوم خديوي برأسمال 300.000 جنيه إسترليني، ومن الجدير بالذكر ان طلعت حرب باشا نفسه بدأ حياته وخبراته العملية فيها، وكانت أسهمها تمثل أكبر الأسهم تداولاً في بورصة القاهرة، كما كانت من اهم الأسهم في بورصات بروكسل وباريس. ولا تزال هذه الشركة قائمة حتى اليوم، و مقرها الرئيسي في القاهرة.
تأسيس حي وشركة مصر الجديدة
عام 1905 قامت الحكومة المصرية ببيع 5952 فداناً صحراوياً الى البارون أمبان صاحب بنك بروكسل البلجيكي، وذلك لإنشاء مشروعات إسكان وتشغيل خط مترو لربطها بالقاهرة ، وقد تكونت الشركة باسم شركة حديد مصر الكهربائية وقامت بإنشاء 400 مسكن لموظفي الشركة وعدد من المحلات التجارية . وفى 1 ديسمبر 1910 تم إنشاء أول خطوط المترو السريع وتم تشغيل 27 قاطرة كما افتتح أول فندق عالمي في الضاحية وهو فندق هليوبوليس بالاس، وظلت شركة حديد مصر الكهربائية تعمل حتى عام 1960 حيث تحولت إلى ما سمي بشركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير .
بيع أملاك الدائرة السنية
ونأتي إلى ما هو مؤسف وباعث على الأسى .
باعت الحكومة في 1898 تفاتيش الدائرة السنية، وكانت أملاكها الزراعية تبلغ نحو ثلاثمائة ألف فدان، يتبعها تسع معامل كبيرة لعصير القصب وصناعة السكر، باعتها إلي شركة سوارس مقابل ثمن قدره ستة ملايين وأربعمائة ألف جنيه، وهو قيمة الدين الذي كان علي الدائرة في ذلك الحين، ويرى استاذنا الرافعي أن هذه الصفقة كانت صفقة خاسرة لما فيها من الغبن الفاحش علي الحكومة والربح الهائل لرجال المال الأجانب.
خسارة مصر لأسطولها التجاري
نعتمد في تشخيص قصة هذه الخسارة و أسبابها على ما رواه أستاذنا عبد الرحمن الرافعي في حديثه من تفصيلات انتقاده لبيع البواخر الخديوية و ننقل عنه (بتصرف يسير) ما ذكره من تلخيصه لهذه الكارثة حيث قال : “…. وفي 1898 عقدت الحكومة صفقة كانت وبالاً وخسراناً علي مصر، ونعني بها بيع البواخر الخديوية بأبخس الأثمان إلي شركة ألن وألدرسن الإنجليزية. وبيان ذلك أنه كان للحكومة بواخر تعرف ببواخر البوستة الخديوية عددها إحدى عشر باخرة كبيرة، منها ثلاث بواخر اشترتها الحكومة حديثاً من مصانع إنجلترا وهذه البواخر هي: الشرقية، الفيوم، المحلة، الرحمانية، شبين، توفيق رباني، البرنس عباس، القاهرة، مصر، النجيلة، وهذه البواخر كانت قوام الأسطول التجاري لمصر في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، والبقية الباقية للبحرية المصرية، وكانت تنقل المسافرين والمتاجرين بين مصر وثغور هذين البحرين، حاملة العلم المصري، مؤدية مهمتها في بعث النشاط الاقتصادي التجاري وبسط نفوذ مصر التجاري والبحري في هذين البحرين … وكان يتبع هذه البواخر حوض الإسكندرية الكبير، وحوض الإسكندرية الصغير، وحوض السويس وهذه الأحواض معدة لإصلاح البواخر، ويتبعها أيضاً مستودعات المصلحة ومخازنها ومعاملها ومحلات الإدارة والزوارق البخارية واللنشات، وقد قدرت قيمة البواخر وهذه الملحقات جميعها بثلاثة ملايين جنيه، فباعت الحكومة جميع هذه المنشآت إلي شركة ألن وألدرسن بثمن بخس 150.000 جنيه، فكانت صفقة خاسرة من جميع الوجوه، لأنها أضاعت علي البلاد ثروة قومية ضخمة ليس من السهل أن تستردها، وانطوت بذلك صفحة البحرية المصرية إلي وقت طويل، وقد تم البيع دون مزايدة أو إشهار، وأقر مجلس الوزراء هذه الصفقة الخاسرة، دون بحث أو تحقيق، واكتفي بالبيانات التي أفضي بها المستشار المالي، ووقع علي العقد أحمد مظلوم باشا وزير المالية”
فضل العثمانيين في إنقاذ مصر من بيع سكك حديد السودان
يتصل بفقدان مصر لأسطولها التجاري ما يرويه أستاذنا الرافعي عما كان من الشروع في بيع سكك حديد السودان و فضل الحكومة العثمانية في إنقاذ مصر من إتمام بيع سكك حديد السودان ، وذلك حيث يقول: ” ….. والظاهر أن سنة 1898 كانت بمثابة سنة التصفية، ففضلاً عن إنشاء البنك الأهلي وبيع البواخر الخديوية والدائرة السنية، شرع المستشار المالي البريطاني في بيع سكك حديد الحكومة في السودان إلي شركة إنجليزية، بحجة حاجة الحكومة إلي المال لتدبير نفقات الحملة علي السودان، فاعترض الخديو علي هذا البيع، ولما رأي إصرار لورد كرومر علي عقد الصفقة استنجد بالعثمانيين بحجة أن هذه السكك الحديدية هي من أملاك مصر التي نص فرمان توليته علي عدم جواز التصرف فيها أو التنازل عنها، وأبرق إلي سلطان تركيا يعرض عليه الأمر ويطلب منه النجدة فجاءه الرد بشكره وإقراره علي موقفه باعتبار أن السكك الحديدية أنشئت للجيش وأن بيعها مخالف للسيادة التركية، فتراجع لورد كرومر وتقرر عدم البيع” .
وأخيرا .. فإنه لم يستوعب خطورة فكرة السلطان والتجارة
هل كان في وسع الخديو عباس حلمي أن يمارس نشاطا اقتصاديا في أوربا في أي فترة من تلك الفترة الطويلة التي عاشها منفيا ما بين 1914 و1944؟ واقع الأمر أنه لم يكن مؤهلا لهذا على الرغم من أنه مارس التجارة) أو الأعمال الاقتصادية حين كان في الحكم 1892- 1914 ، ومع أنه حاول بطريقة سلطوية أن تكون سمعته في هذه الممارسة فوق مستوى الشبهات فإن ترصد البريطانيين به جعل السمعة الشائعة عن ممارساته أقرب ما يكون الى الوقوع في الشرك الذي شخصه تحذير الوصف الجميل الذي بلوره الأدب العربي في القول الحاسم: إذا اشتغل السلطان بالتجارة فسد السلطان وفسدت التجارة.
ومن العجيب على سبيل المثال أننا نستطيع أن نقول إن بعض التاريخ المروي عن الخديو وعصره ، حتى وان كان ظالما ، يذكر ان كل مشكلات الخديو عباس التي حدثت مع شخصيات تاريخية عظيمة من قبيل الشيخ محمد عبده وحسن باشا عاصم جاءت بسبب اعتراضاتهم المبررة على بعض الصفقات التي كان الخديو يود لو أنه أتمها على نحو ما يريد، لكننا مع هذا لا نستطيع من زاوية أخرى أن ننكر أنه في تجارته كان منشئاً معمراً مجدداً محدّثا ، ولم يكن طفيلياً ولا مفسداً بأي حال من الأحوال.