الرئيسية / المكتبة الصحفية / عباس حلمي الخديو الأخير: 3/6 موقفه من الحركة الوطنية

عباس حلمي الخديو الأخير: 3/6 موقفه من الحركة الوطنية

درجات ميله الى الحركة الوطنية في مصر

شهد الخديو تدفق المصريين المشاركين في جنازة الزعيم مصطفى كامل وما أحاط بهذا التدفق  من تعبير المصريين الحار عن حبهم لابنهم البار وتقديرهم له، وهكذا وجد  الخديو نفسه فيما يبدو مضطراً لمجاراة مشاعر المصريين، وعدم الاختلاف معها، لكنه فيما يبدو لم يكن واعيا ،أو لم يكن قادراً على الوعي بضرورة الإيمان بالزعامات الوطنية، وعدم الاقتصار على زعامة واحدة فحسب ، والدليل على هذا واضح في حديثه في مذكراته عن الزعيم محمد فريد بك وعن الشيخ عبد العزيز جاويش فهو كثير الانتقاد لهم إلى حد مزعج للوطنية وللحقيقة ، كما أنه يتعمد مقارنتهم بمصطفى كامل وأن يميل بالمقارنة لصالح مصطفى كامل ،وهو أمر لا يقره عليه التاريخ تماما ذلك أن الشيوعيين و أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ على سبيل المثال  يرون،  ولهم المبرر المقنع ، أن قيمة محمد فريد تفوق قيمة مصطفى كامل ، وكذلك كانوا ينظرون إلى تضحياته، وإسهاماته في العمل الوطني وقل مثل هذا عن اهتمام الوطنيين و الإسلاميين بالشيخ عبد العزيز جاويش 1876- 1929 ودوره البارز ، لكن الدائرة المحيطة بالخديو عباس حلمي (وأهم من فيها من مستشارين فرنسيين ) كانت أضعف من أن تستوعب طبيعة تجليات هاتين الزعامتين الوطنيتين وذلك إلى الحد الذي جعل الخديو نفسه  يتورط بالقبول السلبي بما وقعه عليهما العسكريون البريطانيون المحتلون (بغطرسة المستعمر) من العقوبات، بل إنه كان يسعى لأن يعاقب الشيخ جاويش بأكثر مما يعاقبه به البريطانيون .

موقفه غير الناضج من الزعامات المصرية

في مستوى آخر ، وكما ألمحنا في مقدمة هذا الكتاب ، فإن موقف الخديو عباس  من سعد زغلول باشا 1859- 1927 كفيل بأن يدينه أمام التاريخ السياسي ، فقد كان سعد زغلول هو المرشح الطبيعي لرئاسة الوزارة في 1908 بعد أن أصبح مصطفى فهمي باشا بسبب السن عاجزاً صحيا عن الاستمرار في هذا الموقع لكن الخديو كان من قصر النظر بحيث آثر عليه بطرس غالي باشا ، وبعد أقل من عامين أي في مطلع 1910 اغتيل بطرس غالي فكان سعد زغلول أيضاً هو المرشح الطبيعي لكن الخديو نفسه هو الذي تخطاه مرتين إلى محمد سعيد باشا 1863 ـ 1928 ثم الى حسين رشدي باشا  1863 ـ 1928 ثم أصبح يشكو من اختياره لهما بعد حين.

حديثه بطريقة حافلة بالضجر عن صعود سعد زغلول باشا

يتحدث الخديو عباس حلمي بلا مواربة و لا تلطف عما يصفه على أنه صعود سعد زغلول باشا المبكر في حزب الأمة:

“….. أما الروح المحركة لهذا الحزب (الأمة) ولهذه الجريدة (الجريدة) في بدايتها فكان سعد باشا زغلول. وكان قد بدأ تدريبه في السياسة تحت إشراف الاميرة الخديوية نازلي، سليلة محمد علي، وإن كانت من أنصار إنجلترا  …… وانضم سعد زغلول إلى حزب الأمة، حزب المعارضة، ومنذ ما قبل الحرب، كان قد اكتشف الأهداف الفعلية لإنجلترا”.

حديثه بألفاظ باهتة عن ثورة 1919

 ثم يتحدث الخديو عباس حلمي بألفاظ باهتة عن ثورة 1919 و ما صحبها عن تسنم سعد زغلول باشا ذروة الزعامة من دون أن ذكر بكلمة واحدة عن كفاح الشعب، والصور المتعددة لهذا الجهاد ، و ما مرت به الحركة الوطنية من تجارب و مصاعب وما أحرزته هذه الحركة  من مكاسب عجز هو نفسه عن الوصول إليها :

” …. وجاء تطور جذري، لكي يجعل من هذا الفلاح، ابن الفلاح، بطلاً للاستقلال الوطني، مع إخلاص مطلق، الأمر الذي كان قد ميّز عمل مصطفى كامل داخل حزبه، الحزب الوطني” .

عفوه الجزئي عن الزعيم أحمد عرابي

من الجدير بالذكر أن الخديو عباس حلمي أصدر عفوا عن الزعيم أحمد عرابي و سمح له بالعودة إلي مصر و منحه راتبا شهريا حتي وفاته ، لكنه لم يرد له اعتباره كما أنه لم يرد أملاكه له ولا لأسرته الكبيرة.

موقفه الناقد لعرابي على طول الخط

 كان الخديو عباس حلمي الثاني  دائم التبرم من سيرة الزعيم أحمد عرابي، وربما كان له الحق في ذلك وهو على سبيل المثال يصفه بالخيانة ، و بأنه السبب في الاحتلال الأجنبي بل انه يصف الاحتلال نفسه بأنه كانت ذريعته طموح رجل لا جدال في خيانته لأميره ووطنه وإخوانه ، بل إنه يقول بكل وضوح : “…. ونخطئ بكل تأكيد إذا ما جعلنا من هذا الطاغية العسكري أحد أوائل الوطنية المصرية” .

فقرة من حديثه المتحامل بقسوة على أحمد عرابي

وفي حقيقة الامر فان الخديو عباس حلمي كان في نقده لعرابي باشا حريصا على أن يصفه ويتهمه بكل التهم، حتى لو تناقضت هذه التهم مع بعضها البعض لكنه كان كالمصريين المعاصرين مولعاً بأسلوب تجميع التهم بعيداً عن أن يلتزم بخط واحد في الاتهام او النقد، وهكذا فإن عرابي، على حد توصيفه له : عميل لجده ضد والده، وعميل أيضا للدول الأوربية، كما أنه ماركسي، و عدو للمسيحيين ،  وعدو للأسرة العلوية ، وهو مجنون، محرض، مثير للغرائز، فضلا عن أنه دفع بالبلاد كلها إلى أيدي الأجانب الذين اهانوا مصر (وهو بحكم  تجميع الاتهامات يتغاضى عن ذكر أن هذه الإهانة ارتبطت بتثبيت عرش والده الذي ورثه هو) .

و يقول الخديو عباس حلمي : “فبعد تنازل الخديو اسماعيل عن العرش وسفره بلا رجعة، ذكروا أن إسماعيل قد قام بنفسه بإشعال ثورة عرابي ضد ابنه، والدي، حتى يستعيد العرش، مستعينا في ذلك براغب باشا، لكي يتعامل مع الوسطاء المصريين. وقيل إنه كان يتعاون، في هذه العملية الرهيبة، ليس فقط مع فرنسا وإيطاليا، بل وكذلك مع إنجلترا! وكان عرابي معاديا لكل المسيحيين، (في العادة فان المقصود بهذا اللفظ في تلك الفترة هم الأوربيون ) ولم يقم إلّا بتنفيذ لعبة إنجلترا بأمل خفي يسعى إلى انتزاع عرش أسرة محمد علي.

حرصه على التفريق بين فتنة عرابي و يقظة الاتجاه الوطني

ومع هذا فان الخديو عباس حلمي كان يحفظ لنفسه خط الرجعة فكان يستخدم  الدهاء التاريخي المعتاد ويقول :

“….. ويمكننا أن نعتبر فتنة عرابي يقظة غير يقظة  الاتجاه الوطني المصري، ولكن الشعار المعادي للأسرة الحاكمة عند هذا الضابط، وطموحه المجنون، ودفعه الجيش إلى التمرد، واستثارته للغرائز المتطرفة للجماهير الجاهلة والمتعصبة، سارعت إلى دفع البلاد كلها إلى أيدي الأجانب الذين أهانوها.”

محاذير الأخذ بتقييمه للشخصيات في مذكراته

ولا شك في أن الخديو عباس معذور في اتباع مثل هذا الأسلوب ، و من ثم فان نصوصه لا تحتفظ أيضا بقيمة كبيرة في الدلالة على قيمة الزعماء الوطنيين بسبب ما اتسمت به من هذه الروح الأوربية في تقييم إنجازهما وأسلوبهما ، و لو أن احمد شفيق باشا على سبيل المثال كان هو من كتب للخديو مذكراته لتغير الامر 180 درجة .

تقييم مذكراته للوعي السياسي للمصريين

“…………….. وكانت الطبقات العليا تعتبر الاحتلال الإنجليزي مرادفاً للحكم، وبسبب ذلك كانت دائماً تحتفظ بنفسها عن بُعد، ولا تؤيد الخديو ولا إنجلترا، ولا تعتقد بعد ذلك في فرنسا، وتجهل ما إذا كان في وسعها أن تأمل في صداقة مخلصة من جانب إيطاليا. وكان الشعب والفلاحون، كما هو الحال في كل مكان، لا يأبهون من حيث المبدأ إلاَ بكل ما كان يمس خبزهم وهدوءهم بشكل مباشر. أما طبقة المثقفين، وخصوصاً الطلبة، فكانوا وطنيين بالمعنى السياسي الحديث”.

ازدهار هامش معقول من حرية الرأي

ذهبنا في مواضع كثيرة من كتاباتنا الى ان الهامش المعقول (وليس المطلق) للحرية كان بمثابة العامل الجوهري في مكانة مصر في عهد الخديو عباس حلمي لأن هذا الهامش هو الذي جعل مصر أفضل ملجأ للهاربين من التعسف في بلاد الشام على سبيل المثال، ومن الجدير بالذكر أن مصر الرسمية كانت داعمة لهذا الدور وأن الخديو عباس حلمي نفسه كان واعيا و مرحبا عن وعي بهذا الدور شريطة  ألا  يؤذيه هو نفسه من قريب او بعيد.

بدء ظهور زعامات تواكب العصر الجديد

كان افضل حظ واكب حكم الخديو عباس حلمي هو بدء  ظهور زعامات وطنية صاحبة رؤية وطنية ونشاط وطنية تتمثل في قمة هذه الزعامات وهو مصطفى كامل باشا (1874 ـ 1908) وصديقه وحليفه محمد فريد بك (186٨ ـ 1919) ومع هؤلاء صديقهم عمر لطفي بك (1863 ـ 1911) ورواد الفكر العصري المجتهدين من قبيل قاسم أمين بك (1863 ـ 1908) وأحمد فتحي زغلول باشا 1863 ـ 1914 وطلعت حرب باشا (1867 ـ 1941) و احمد لطفي السيد 1872- 1963.

نمو طبقة التكنوقراطيين المصريين

تأكد على نحو واضح  نمو طبقة من التكنوقراطيين المصريين الذي انحصر أغلبهم في مجال القضاء مع تمتعهم بالثقافة العامة من قبيل عبد الخالق ثروت باشا (1873 ـ 1928) ومن سبقوه ممن لم يحققوا مثل ما حققه من شهرة فكرية او عقلية رغم مكانتهم الأقدم وظيفيا أحمد حشمت باشا 1858- 1926 و احمد مظلوم باشا حسين رشدي (1863 ـ 1928) ومحمد سعيد باشا (1863 ـ 1928).

نشأة مراكز (أو بؤرات ) للحركة  الوطنية

شهد  هذا العصر نشأة مراكز (أو بؤرات ) للحركة  الوطنية  و ذلك من قبيل نادي المدارس العليا الذي كان خطوة متقدمة في طريق الحركة الشبابية والثقافية على حد سواء، بل ومهّد لوجود مراكز لما اصبح بعد ذلك معروفا باسم المخيمات الكشفية والتجمعات  الرياضية وما يصحبها من حياة اجتماعية على نحو ما هو متاح في النادي الأهلي للرياضة البدنية  على سبيل المثال.

صالون الأميرة نازلي فاضل

بالإضافة الى  هذا فإن عهد الخديو عباس حلمي تيز بوجود صالونات من قبيل صالون الأميرة نازلي فاضل، وان كان هذا الصالون هو ما بقي ذكره ، قد كانت  الأميرة نازلي فاضل (وهي  ابنة الأمير مصطفى فاضل أخ الخديو إسماعيل)  قادرة على أن تمارس ما عرف على انه دورها السياسي والاجتماعي والفكري من صالونها من دون أن يرعاها الخديو أو يرعى صالونها بل انه  كان أقرب  ما يكون إلى ضيق الصدر بها ، وبعلاقتها الوثيقة بكرومر وأنصار كرومر أو أصدقاء كرومر من الوزراء المصريين(من  قبيل  مصطفى فهمي وسعد زغلول) الذين كانوا أو أصبحوا على علاقة جيدة او معقولة بالبريطانيين.

نشأة الجماعات و الجمعيات السياسية

شهد عصر الخديو عباس حلمي بداية ظهور الجمعيات السياسية بما في ذلك الجمعيات التي  كان طابعها هو الطابع السري، كما بدأ اتصال هذه الجمعيات السرية بمثيلاتها في تركيا والبلاد العربية، ونحن نعلم أن اغتيال بطرس غالي لم يكن وليد المصادفة ولا وليد اللحظة ، و إنما  كان تتويجا لنشاط سري طموح و مستمر بدأ قبل هذا ثم اصبح يتوافق مع أهداف  محددة تستحق العمل الفدائي من أجلها.  ولهذه الأسباب فإننا نواجه بمحاولة اغتيال الخديو عباس حلمي نفسه في اسطنبول 1914 وبمحاولة اغتيال السلطان حسين من بعده في الإسكندرية 1915. و في كل هذه التطورات فقد كان الخديو عباس حاضراً سواء بنفسه أو بتشجيعه أو بتورطه أو حتى بعناده، فقد كان هو نفسه (كما ذكرنا من قبل ) بحكم شبابه  حين تولى الحكم  يفكر في تكوين جمعية سرية لتحرير مصر بل بدأ خطوات في هذا السبيل على نحو ما روى من أشركهم هو نفسه في هذا التفكير من قبيل أحمد لطفي السيد ومصطفى كامل.  و بعد محاولات التفكير أو التأسيس فإنه كان ينهج نهج التشجيع لجماعات يرى (وقد يكون مخطئا وقد تكون له أسبابه أو طموحاته) أنها تسير على الطريق السليم،  وبعد هذا نراه يبدأ في الانحياز الواضح لتوجهات محددة ، فقد كان على نحو ما ذكرنا  ينتصر لحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية بينما يرى حزب الأمة بمثابة حزب معارض له، أو ميال للإنجليز بأكثر من ميله له ولكرسي الخديوية ، بل إننا نراه  في عهد وزارة بطرس غالي وقد لجأ إلى محاولة إسكات من يراه مزعجاً له بالرأي وذلك من خلال اللجوء إلى إجراءات قمعية من قبيل العمل على إحياء قانون المطبوعات على سبيل المثال.

حديثه غير الودود عن حزب الأمة

نلاحظ في حديث الخديو عباس حلمي عن حزب الأمة تأثره بالزمن الذي كتبت فيه المذكرات وليس بما يتذكره عن وقت الحدث نفسه ، و أبرز نموذج لهذا هو حرصه على ان يعطي دوراً كبيراً لسعد زغلول باشا في هذا الحزب بأكثر مما تعطيه أي من  الأدبيات الأخرى، والسبب في هذا واضح وهو أنه مع تحقق زعامة سعد الطاغية فان الخديو كان يريد (مثله في هذا مثل رجال الحزب الوطني القديم) أن يصور الوفد  وكأنه ليس الا امتداداً لحزب الأمة الذي كان هو حزب أصحاب المصالح ، ومن العجيب ان نرى مذكرات الخديو تقفز على حقيقة معروفة وهي أن حزب الاحرار الدستوريين هو الذي يمثل امتداد  تيار حزب الأمة على حين أن الوفد بزعامة سعد زغلول اصبح هو الممثل لتيار الأغلبية الذي كان الحزب الوطني يمثله،  بينما انزوت قيادات الحزب الوطني محتفظين باسمه ليكونوا مجرد حزب اقلية، وعلى كل الأحوال فلنقرأ هذه المحاولة التاريخية (غير الجدية) التي آثر الخديو عباس أن يتبناها:  “…..إن الحركة الوطنية التي كانت فتنة عرابي قد حولتها إلى حركة متعصبة، والتي عمل الاحتلال البريطاني على تثبيطها، ودون أن يقضي على أصولها، كانت لا تزال تقوم بعملها في الظل والخفاء. فظهر في أول الأمر حزب للمثقفين أنشأته مجموعتان مختلفتان، المجموعة الأولى وعلى رأسها الأميرة نازلي، وتحت تأثير لورد كرومر، والثانية يوجهها رياض باشا، رئيس مجلس النظار السابق، وعلي باشا مبارك ناظر المعارف العمومية. وعملوا على تمهيد الطريق لسياسة الزعيم الشيخ علي يوسف الذي سوف يؤسس، فيما بعد، أول مجموعة من كبار الأعيان، ومن الرجال الناضجين” .

و يقول  الخديو عباس حلمي أيضا :”…….  وفي شهر أكتوبر 1907 ظهر حزب، لا شك في أنه كان يستوحي من لورد كرومر، ومن الممكن جداً بأوامره، ووقف في وجه الحزب الوطني. وهذا الحزب هو حزب الشعب، أي حزب الأمة، وأسسه والد محمد محمود، سليمان باشا، وكانت له صحيفة، تسمى “الجريدة”، وكان رئيس تحريرها هو الأستاذ لطفي بك السيد.

توكيده على تحفظاته على حزب الأمة

أردف الخديو عباس حلمي الثاني هذا الحديث بتقديم مبرراته في التحفظ على نشاط حزب الأمة الذي كان يتبنى هذه السياسة التي كان يعتبرها غير كفيلة بتحقيق الأهداف الوطنية: “ولذلك فإن حذري من حزب الأمة كان طبيعيا تماماً. وأكثر من أي شيء آخر كنت قد عرفت، تقريبا، عدم إمكانية تحريرنا من السيطرة الإنجليزية عن طريق مثل هذا التعاون، الذي يتوقف على وجود ومعارضة القناصل العامين البريطانيين. وفي نفس الوقت كان من الممكن ـ وإني أفكر في ذلك منذ ثلاثين عاماً ـ عن طريق عمل نشط ومكثف، الوصول إلى استقلال حقيقي”.

علاقاته المباشرة بزعماء الحركة الوطنية

بعد كل هذه المقدمات فمن الجدير بالذكر أن الوجه الظاهر في علاقة الخديو عباس حلمي بالحركة الوطنية تبلور منذ البداية في علاقته بالزعيم الوطني مصطفى كامل (وأبناء جيله و جماعته)  ، و قد شهدت هذه العلاقة مجالا أوسع مدى للتحولات  المتقلبة أو التحالفات المتناقضة ، فقد بدأت هذه العلاقة بتحالف وثيق وصل إلى حد مشاركة الطرفين في نوايا تكوين جمعية سرية ضد البريطانيين كما ذكرنا ، وظل الأمر كذلك أكثر من عشر سنوات حتى تم توقيع الوفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا 1904 فاضطر الخديو عباس نفسه إلى التباعد عن الحزب الوطني مع الحرص (مرحليا) على التواصل مع زعمائه ثم إذا به يمضي إلى الشقاق التام مع كل هذه العناصر من رموز  الحركة الوطنية مع بدء عهد وزارة بطرس غالي في 1908 فينقطع هذا التواصل ، وينقلب على هذا الحزب بل يصل الامر بحكومة بطرس غالي الى ان  تصدر قانون المطبوعات الذي يمثل بلغة عصرنا ما يُوازي تقييد حرية التعبير ، وذلك بعد أن اطمأن الخديو[على حد رواية أعدائه] إلى أن صداقته مع المعتمد البريطاني جورست (1907 ـ 1911) كفيلة بأن تمكنه من الاستمرار في منصبه وتنفيذ مشروعاته وتحقيق طموحاته من دون الحاجة الى التحالف مع الحركة الوطنية .. لكنه على كل حال فوجئ بوفاة جورست المبكّرة ثم إذا هو يُفاجأ بأن الجمعية التشريعية التي تم انتخابها في 1913 قد جلبت له معارضة وطنية جديدة أقوى مما كان يجده في معارضة الحزب الوطني له ، ثم  جاءت الظروف بما لم يكن في الحسبان ، حيث  لم يتح الاستمرار  له ولا لهذه المعارضة الجديدة بسبب قيام الحرب العالمية الأولى وبسبب عزله هو نفسه من منصبه.

يُلخص استراتيجيته البراجماتية  في العمل مع الأحزاب الوطنية

لم يجد الخديو عباس حلمي الثاني في مذكراته حرجاً في أن يذكر بكل صراحة  أنه اتبع سياسة “الوجهين” في تعامله مع الأحزاب الوطنية عندما لم يستطع توحيد هذه الأحزاب ، وهو يعتقد أنه كان محقاً في هذا الأسلوب الذي كان كفيلاً بأن يخدم أغراضه من العمل السياسي الوطني، وهذه هي عباراته بالنص على نحو ما وردت في مذكراته: “…… وكان من الضروري للعمل، وبالتناوب، على الواحد، او الآخر، الأمر الذي يدفعني إلى القول بأني عملت على وجهين. وكان الأمر يتعلق، فيما يخصني، وعلى العكس من ذلك، بأن أتحاشى، وإلى أكبر درجة، أن أَدَع هذه القوى المتنافسة، متروكة لنفسها، وأن أقلل الخلافات داخل كل منهما، تحسباً من الفوضى التي يمكن أن تحدث. وبنوع خاص، لم أكن أرغب في أن أقوم، وبتفضيل ممكن، بإثارة غيرة يمكنها أن تجعل أحد الأحزاب يقف أمام الآخر” .

حصره للاتجاه الوطني في مصطفى كامل وعلي يوسف

كذلك فإن الخديو عباس لم يجد حرجاً في أن يعبر عن وجهة نظره التي يسميها إيمانا بأن الاتجاهات الوطنية في عهده انحصرت في الزعيمين مصطفى كامل والشيخ علي يوسف، وسوف نتناول بعض تفصيلات إشادته بهما، لكننا نورد هنا الفقرة التي أجمل فيها مشاعره تجاه  الحزبين حيث قال: ” ….. وكانت في يديّ في ذلك الوقت أسس عنصرين غير مجتمعين ومتنافرين من الاتجاه الوطني: الحزب المحافظ لأعيان البلاد بقيادة الشيخ علي يوسف، والحزب المتطرف للشباب بزعامة مصطفى كامل. وكانت فكرة الوطن، لكل واحدة من هاتين المجموعتين، معنى مختلفاً، ولم يكن في وسعهم أن يحققوها في شكل متطابق، وفي نفس الوقت” .

عنايته بالثناء على مصطفى كامل وعلي يوسف

كان الخديو حفيا بالإشادة العقلية و القلبية بالشيخ علي يوسف على نحو ما كان حفيا بالإشادة القلبية و العقلية بالزعيم مصطفى كامل ، لكن الطريف في الأمر أن ثناءه على الرجلين في نصوص مذكراته  صيغ كله  بالطريقة الفرنسية في مديح الأشخاص ، وهي طريقة لا ترقي لما توفره البلاغة العربية من البيان و التصوير لكنها تظل متأثرة بالمركزية الأوربية تماماً حتى يمكن لنا أن نصفها بأنها تصل في بعض الجزئيات إلى التعسف في تصوير الشخصية (\أو الشخصيات) على غير حقيقتها سلبا أو إيجابا .

تفسيره لموقفه الذرائعي

يقول الخديو عباس حلمي بصراحة و وضوح : “….. وكان تفضيلي يتجه صوب المعتدلين، ولكني كنت أفهم المتطرفين. ولن أكون من أولئك أو هؤلاء. ولما كانوا يرفضون مبدأ الاحتلال الإنجليزي غير المحدد، فإني كنت بكل مشاعري مع أولئك ومع هؤلاء، وكان موقفي يوحي بأنني لم أكن مخلصاً لأصحاب الاتجاهات الوطنية ولا نحو الإنجليز، ولكن تأرجحي هذا لم يصدر إلاّ من دافع واحد، وكان دافعاً شخصياً في الواقع، …..  لم أخف مشاعري ضد بريطانيا العظمى، التي كانت تعمق كل يوم مخالبها في أرض مصر، وما كنت مدفوعاً في الحالين إلا بحبي لبلادي”.

الشيخ علي يوسف نموذجا للعصاميين اللامعين  

لا شك في أن  من مفاخر الخديو عباس حلمي الثاني ومزايا عهده صداقته للشيخ علي يوسف 1863-1914 الصحفي العبقري المؤسس الذي وصل بالممارسة الصحفية مبكراً إلى أعلى درجات المهنية والحرية واحترام القيم والانحياز للحق والخير والرأي والخبر ، والموضوع والفن الرفيع . وباختصار شديد فإننا نرى أن  هذا الشيخ العبقري المهيب  كان على الرغم من صلته الوثيقة بالخديو صحفيا مهنيا ملتزما بأرقى آداب المهنة والحوار و الموضوعية  و إلى حد لم تشهده مصر حتى الآن ، ومن الإنصاف أن نقول بأن الحديث عنه في الأوساط الحفية نفسها يضطر إلى الخفوت لا لشيء إلا لأن الحديث عن سلوكه و تأمله يكفل الخسف بكل من خلفوه في مكانته من عباقرة الصحفيين منذ عهده وحتى الآن، فلم يستطع أحد منهم رغم محبتنا الشديدة لكثير منهم أن يصل إلى ما وصل إليه الشيخ علي يوسف في التزامه الخلقي والمهني على جميع المستويات.  و على أن الأهم من التزامه و خلقه وكفايته أنه كان (بطريقة غير مباشرة ) أكبر مشجع حقيقي على صعود توجه آخر مختلف عنه مثل توجه الزعيم مصطفى كامل والحزب الوطني وصحافة اللواء وهو التوجه الذي كان في كثير من مراحل صعوده  تعبيراً عن رد الفعل بأكثر مما كان تعبيراً عن الفعل البدائي.

ثناؤه الجم على الشيخ علي يوسف

تحفل مذكرات الخديو عباس حلمي الثاني بالثناء الجم على أسلوب وأداء الشيخ علي يوسف في أكثر من ميدان، بل إنه ينشر نصاً بديعاً للشيخ علي يوسف كملحق من ملاحق الكتاب وهو نصه في انتقاد تعصب لورد كرومر واعتدائه على الخصوصيات الدينية الإسلامية وقد نشره تحت عنوان : “خطاب الشيخ علي يوسف عن تدخل لورد كرومر في الحياة الدينية في مصر” .

 وقد حرص الخديو عباس حلمي الثاني على أن يصور اعتزازه بما يطرحه على أنه دوره هو نفسه في صعود ذلك الشيخ العبقري، وأنه كان بمثابة العنصر الفاعل في تقديم الشيخ علي يوسف للمجتمع، ومع اننا نرى ان هذا تزيد من الخديو فإننا نستطيع ان نتصور ان الخديو  لم يدرك أن موهبة علي يوسف هي التي قدمت صاحبها الى كل ما استطاع الحصول عليه وارتقائه في درجات المجد، ثم يأني في المحل الثاني أو الثالث قبول الخديو أو دعمه، وقد كان الدليل على هذا واضحا أمام أعين الخديو وهو  أن كثيرين حظوا بهذا القبول والدعم قبله لكنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه الشيخ علي يوسف ، وفي كل الأحوال فلنقرأ نصوص الخديو.

الشيخ حقق حلم الخديو بالصحافة المؤثرة

يقول الخديو عباس حلمي الثاني  : “…… وكنت أرغب في أن تكون هناك جريدة قادرة على تنوير الأمة، وقيادتها والسير بها شيئا فشيئاً إلى فكرة أكثر وضوحاً، عن الوطن والمواطن، ولذلك فإني استدعيت كاتباً عربياً، كان البعض قد أشاروا عليَّ بحسن استعداداته ومميزاته، وهو الشيخ علي يوسف، وكان قد درس في مدرسة المعلمين، وتخرج في جامعة الأزهر، وكان يشتهر إن لم يكن باتساع وجهات نظره، فعلى الأقل بقوته [قدرته] على المناقشة، وبميزة حقيقية كمجادل، وبقدرة على الفهم، خاصة وأنه من الملاحظ أنه كان لا يتحدث سوى العربية، ولم يكن قد درس إلا في المساجد”.

” وكان الشيخ علي يوسف من الصعيد، فكان يعرف عقلية وأماني أبناء شعبه. وبرغم أنه قد نشأ وسط رجال الدين فإنه كان يعرف كيف يفصل بين واجبات الفرد تجاه البلاد، وبين الاحترام اللازم للدين، وكانت سياسته تستند في بعض الأحيان على هيبة الخليفة، ولكن لا يمكننا القول أبداً: إنها كانت تركية [يقصد : عثمانية ] ، أو إسلامية بشكل خاص. وهذه فروق قد يفهمها وطنيو اليوم فهماً خاطئاً، ولكنها كانت في بداية عملنا تزيد من تأثير الشيخ علي يوسف على الشعب.

دفاعه عن الإسلام  بدا أقوى من حماسه للوطنية

” وأخذ الشيخ علي يوسف في بعض الأحيان مظهر المدافع عن الإسلام أكثر من كونه منشطاً لاتجاه وطني قومي. وكان هذا التكتيك يهدف إلى أن يجمع جميع الفرقاء حول فكرة عامة وقوية، وأن يولد لدى الجماهير هذا الشعور بالتمازج، دون أن يرتاب أحدٌ في نواياه”.

تمثيله للخصوبة الفكرية في المجتمع المصري

و يقول الخديو عباس حلمي  أيضا :” ومن ناحية أخرى، فإن الشيخ علي يوسف، في بداية نشاطه، عمل كساتر [ربما يقصد : كواجهة[ لمختلف الأعيان الذين كانوا يأتون للجريدة بثمرة ملاحظاتهم ونتيجة حياة وهبوها للإدارة، أو لحسن سير العدالة، وتعاون معه في عمله أكثر الناس قدرة والأكثر تميزاً في البلاد، وكانوا يعلمون انه كانت له حظوة في القصر، وهكذا كان في وسعنا أن نجمع في أعمدة هذه الجريدة، زهور الفكر المصري، ونتيجة لهذه الوسائل، سرعان ما أصبحت “المؤيد” إحدى الصحف الرئيسة باللغة العربية، وكان لها قراؤها من طنجة حتى الهند، ومن تركيا حتى زنجبار. والواقع أنها كانت تشتمل على مقالات لها قيمتها بحكمة الجدل، وأعماق الفكر،  وبأسلوب نفاذ، وخيال لا ينتهي، وعاطفة تتمشى مع فلسفة إنسانية”.

الحيوية التي بثتها مقالاته في السياسة المصرية

يصف الخديو عباس حلمي  الأثر السياسي و المجتمعي الذي تركه الشيخ على يوسف فيقول : ” كان الشيخ قد أصبح أستاذاً، بفضل علاقاته اليومية مع الشخصيات العلمية والأدبية، وكان يقدم للقراء مسائل تثير خيالهم، إذ أنها كانت تتعلق بمستقبل البلاد، وبتاريخها في نفس الوقت ،  ومن كثرة ما أفاض به في الحديث عن علاقات مصر، وماضيها وحقوقها، ومن تعدد مناقشاته للسياسة العامة وعلاقتها بالوضع الحالي، نجح في أن يعيد الحياة دافقة إلى قلوب أبناء وطنه. وكان ذكر العصور السالفة، التي كان يعرفها جيّداً، تسمح له أن يحيي لدى القراء الثقة في المستقبل” .

” وكانت هذه، في حقيقة الأمر، الخطوة الأولى التي كان من الواجب اتخاذها”  واعتقدت أنه سيكون من الخطأ أن ننقل، وبدون تدرج، شعباً ناعساً، إلى ضوء مبهر للأحداث المعاصرة، وأن نفسد يقظته بهذه الإضاءة المفاجئة ، وكان علي يوسف من الحكمة بحيث يستخدم العلاقات الطبيعية والقوية التي كانت توحد بين المصريين منذ زمن بعيد، ويؤسس اتجاهه الوطني على شعور عميق الجذور”.

محاولة الخديو تسويغ ليبرالية الشيخ بعيداً عن تعليمه الديني

يتحدث الخديو عباس حلمي (أو كاتب مذكراته)  بحكمة باهتة لا تخلو من العنصرية  عما تمتع به الشيخ على يوسف من الفهم السياسي على الرغم من ان تعليمه لم يكن مدنيا وانما كان دينيا :  ” …. ولم يكن تعليمه الديني ليؤثر إلاّ قليلاً للغاية على اتجاهاته التي كانت ليبيرالية بنوع خاص. ولم يخضع لإغراء الاتجاه العربي وبريقه، وإنما كان يرى أنه من الخطأ أن تقوم سياسة شعب من الشعوب على وفاق معنوي فقط، وذلك في الوقت الذي كان من الصعب فيه تأسيسه على العِرق،  وكانت فترة الحروب الصليبية قد بدت له على أنها قد انتهت تماماً، ورأيت معه أنه كان على صواب” .

أعجابه بوصول الشيخ الى ذروة الفكر بالتعليم الأزهري وحده

“……. ذكرت كثيراً انه من المؤسف أن يكون تعليم الشيخ قد احتفظ به بعيداً عن الحضارة الغربية وتاريخها إلى حد ما. فبذكائه الذي كان مفطوراً عليه، وحساسيته للحقائق السياسية، كان بوسعه أن يكون رجلاً آخر تماماً، وأن يعطي للحركة الوطنية صفات أكثر عملية وأكثر واقعية. وكان قد زار أوربا، وبنوع خاص فرنسا وانجلترا وتركيا، ولكنه لم يتأثر بسحر هذه الحضارة التي لم يتعرف منها إلاّ على الواجهة” .

حرص الخديو على نفي دعوى ولاء الشيخ علي يوسف للعثمانيين

“….. ولقد سُحر [السلطان العثماني] بشخص الشيخ بعد أن استقبله في حضرته ……. والواقع أن الشيخ علي يوسف لم يكن أبداً رجل تركيا، فمع أنه في بعض الأحيان قد أيد الخلافة، إلا أنه لم يكن يعني بها سلطان إسطانبول، وإنما خليفة المسلمين،  إن هذا الشيخ المحرك لقلوب الرجال، الذي كان مفعماً بمفهوم الأمة، وبمفهوم الولاء، كان مصرياً قبل أي شيء”.

تأكيده على قيمة نجاح الشيخ ودوره كخديو في هذا النجاح

“ولكنه، وكما كان، ومهما كانت أيضاً أفكاره المسبقة، نجح في شد الرأي العام، وتجميعه، وتعليمه كيف يفكر. وكانت مقالات “المؤيد” تقرأ، ويعلق عليها في أقاصي القرى، وكان المتعلمون يحبون هذه الجريدة، وينشرونها…… وتبع كل الشعب، بهذه الطريقة، وبدون مجهود  فكراً بسيطاً ووضاءً ….. “

“…. وتزايد توزيع “المؤيد” وتأثيره، نتيجة لمزايا الود الذي كنت مستمراً في إظهاره للشيخ ولكل من كانوا، في الحقيقة، ينفقون من أجل إعادة إيقاظ الروح الوطنية”.

إعجابه اللا محدود بشخصية مصطفى كامل

من المتفق عليه أن الزعيم الوطني مصطفى كامل حظي ولا يزال يحظى بإعجاب طوائف كثيرة من المصريين الذين رأوا فيه روح مصر الوثابة، واعتبروه الموقظ الأكثر تأثيراً للشعور الوطني والوعي السياسي في مصر ، ومن الطريف أن نرى الخديو عباس  وقد قدم  هو الآخر في مذكراته قطعا أدبية متوالية في وصف مكانة مصطفى كامل ودوره وأثره، ونجح في تصوير هذه العناصر الثلاثة على نحو يندر أن نجده في مذكرات مسئول ما عن زعيم ، فما بالنا بمذكرات ولي الأمر نفسه. وقد حرص الخديو عباس حلمي الثاني على الإشادة الصادقة بمصطفى كامل باشا وبجهوده في النضال الوطني ، لكنه فيما يبدو من هذه الإشارة وهذا الثناء كان يقف خاشعاً أمام الصورة التي رسمتها مصر نفسها لابنها البار مصطفى كامل باشا بأكثر مما يعبر عن نفسيته وعقيدته السياسية، و على سبيل المثال فان  الخديو يقول في موضع مبكر من مذكراته  [عند  حديثه عن الروح الوطنية  وعلاقتها الوثيقة به و بتوجهاته كحاكم طموح] : ” …. وتأكدت الروح الوطنية وتحددت في عصر حكمي. وجاء إخلاص وكفاءة ذلك الشخص الذي لا يكل، والذي كان أكثر فصاحة ممن جاءوا قبله، مصطفى كامل، لكي يعطيهم برنامجاً محدداً “.

العناية الإلهية رزقت مصر بمصطفى كامل

يقول الخديو عباس حلمي : ” وشاءت العناية، [ يقصد العناية الالهية ولكنه يستخدم اللفظ على الطريقة الفرنسية ]  التي تسهر على الشعوب كما تسهر على الرجال، ان ترسل لمصر باذر البذور المنتظر: مصطفى كامل، فهو الذي بدأ في نشر الفكرة الوطنية في شباب الدارسين المصريين في أوربا.”

شطط الخديو في  اعتبار مصطفى كامل امتدادا  لسلطان باشا

ومع ان المصريين يرون ان محمد سلطان باشا كان خائنا و غدر بعرابي باشا لمصلحة الاحتلال والخديو توفيق  فإن الخديو عباس في مذكراته حرص على ان يذهب الى ما يكاد يناقض هذا تماما وهو القول بأن نشاط مصطفى كامل كان إحياء لنشاط سلطان باشا: “…… وهو الذي، عند عودته من فرنسا، أحدث تغييراً، او تحديثاً ملموسين، وأحيا آمال الحزب الذي كان قد أنشأه محمد سلطان باشا ، وهو الحزب البرلماني الذي كان قد اختفى مع اختفاء البرلمان ، لقد أيقظ مصطفى كامل المشاعر المصرية الأصيلة ، وكان هو المنشط للاتجاه الوطني المصري، والمبشر بهذه الفكرة، التي كانت قد خُنقت في بداياتها، ولكنها عادت برغم ذلك إلى الأمام، وكسب لعقيدته ولحزبه اغلبية الموظفين، والأعيان، والمثقفين، ومجموع الطلاب والعمال”.

انحيازه إلى الحياة الروحية والخيالات المقدسة

ينحو الخديو عباس حلمي منحى بلاغيا و جماليا في وصف شخص مصطفى كامل و شخصيته : “….. كان شاباً يحمل كل رشاقة الشباب، بما في ذلك الخيالات المقدسة، وفي المفاضلة بين الحياة المادية، والحياة الروحية، كان قد اختار الثانية، لقد كان مصطفى كامل وافداً جديداً على حلبة السياسة، ولم يكن يعرف شيئاً عن اساليبها المعقدة الوضيعة. وفي بلاد عريقة كبلدنا مصر فإنك لن تجد المؤهلين إلا على لوحات المقابر”.

يمدح مصطفى كامل بأنه جمع بين الصراحة والفصاحة

ثم يتناول الخديو عباس حلمي عوامل التفرد في أداء الزعيم مصطفى كامل السياسي و الوطني فيقدم أروع فقرة في مذكراته كلها و هي الفقرة التي يقول فيها :

” …. كان بسيطا وصريحاً، وتحت شكله اللطيف كانت تختبئ نفس متفتحة لكل الأحاسيس، وقلب يتأثر بكل الحنان. وكانت هبة الله قد أظهرت تفكيره، وكانت فصاحته واضحة، وساخنة، وكان أسلوبه رشيقاً، مليئاً بالصور، ويتحرك من البساطة الملائكية، إلى الفصاحة العارمة لشيوخ روما في الماضي. وكان موهوباً بالقدرة على الإقناع كما كان له ذلك الإشعاع الذي كان للرسل والأنبياء. وكان الحب الذي يكنه لبلاده يبدأ من حماس متقد، لم يكن العقل يفقد السيطرة عليه. وليس علينا أن نرسم خطوط حياة ذلك المبشر الحر، الذي كانت براءته، وكذلك ثقافته وقيمته، [تجذب] الجمهور من أول وهلة. ولا يمكنني أن امنع نفسي من أن أحيي ذكرى رجل وطني أدين له بساعات جميلة للغاية”.

تصويره لمواطن الخلاف بينه و بين مصطفى كامل

من الجدير بالذكر أن الخديو عباس حلمي كان ينتقد التوجه الإسلامي لمصطفى كامل باشا [شأنه في هذا شأن كل الحكام الذي يتجنبون غضب الغرب ] ، لكنه من باب الدهاء الحريص على رضا المسلمين و عدم إغضابهم كان يسمي التوجه الإسلامي بالتركي ، وفي هذا الصدد  يقول  الخديو عباس حلمي ما نصه :

  “…..وبالتأكيد، كان يضايقني في بعض الحالات، …..  في أثناء دعايته، كان يترك نفسه تنزلق إلى فكرة خاطئة عن الاتجاه الوطني المصري.  وكان التقارب الذي كان يرغب فيه مع تركيا يأخذ بنوع خاص شكل الخيال أكثر من كونه أملاً. ولقد أفهمناه ذلك، وغيّر سياسته ، التي كانت لها خصائص تركية إلى حد بعيد، إلى فكرة وطنية. وتطور مع الكثير من المواقف، حتى أن اتباعه ساروا وراءه دون أن يكتشفوا الخطأ الأساسي” .

نجح في الاختبار العسير بمقاومة جنون العظمة

يثني الخديو عباس حلمي  على نجاح الزعيم مصطفى كامل في الابتعاد عن مناطق  الفشل المتسبب عن الغرور : ” …… وكان شباب هذا القائد الوطني يسمح له بأن يراجع نفسه، وأن يتطور، وبرشاقة، متجنباً الأخطاء التي كان شبابه يدفع ثمنها…..  وقد قاوم بصعوبة أزمة “جنون العظمة” التي بدت على أنها سوف تقوده إلى سياسة شخصية، مستقلة عن حزبه، وعن أميره”   

قدرته على مخاطبة الأوربيين بلغتهم 

ومع ذلك فإن الخديو عباس حلمي لا يخفي إعجابه بمصطفى كامل من حيث كان قادرا على مخاطبة الأوربيين بلغتهم ، و هو ما كان الخديو يهتم به بصفة عامة وهو  يعبر عن هذا المعنى بوضوح شديد حيث  يقول :  

” …… وعلاوة على موهبته الفعلية كخطيب وكاتب، وطموحاته المشروعة، فإن مصطفى كامل كانت له صفات صلبة، جعلته يحظى بالتقدير في كل مكان يمر فيه، وكانت له موهبة الملاحظة الواضحة نتيجة لاتصاله بالسياسيين في مصر أو في الخارج. ولما كان قد درس وعاش في أوربا، فإنه فهم أن الدولة التي تحب أن تزدهر، عليها أن تحافظ بعناية على علاقاتها مع الخارج…… وكان صوته يدوي إلى أماكن بعيدة، فسمعوه فيما وراء وادي النيل، وحرص على أن يحتفظ في أوربا ، وبنوع خاص في فرنسا، على صداقات فعلية، وقرب نهاية حياته، بدأ البعض في إنجلترا يستمعون إليه”.

يعتبر مصطفى كامل وجهه الحر

ويمضي الخديو عباس حلمي  في التعبير عن تقديره للدور الذي قام به مصطفي كامل ، و حقق له به ما كان يتمناه من أمثاله من زعماء الحركة الوطنية : “….. وكنت أقدره، حتى حينما كان من غير الممكن متابعته، وليست مهمة الحاكم دائماً مريحة، ففي الوقت الذي نرغب فيه في سماع صوت القلب، نضطر إلى الإنحناء أمام عقل الدولة. … وكان مصطفى كامل حراً،  وكنت أوافقه تماماً. وكان يقول في مكاني ما كان يجب أن يقوله، والذي لم يكن من الممكن قوله باسمي، وإذا كانت له بعض الأخطاء وبعض الحركات السريعة غير الموفقة في نطاق المطلق، فإنه يظل منضبطاً، وإذا كانت بعض المحاولات غير الموفقة قد وقعت أحياناً وأثارت بعض الاضطراب في شعور الود، الذي كثيراً ما وصل إلى حد التعاون، فإن سوء الفهم كان يتبدد بسرعة، عن طريق الإخلاص، الذي كان يظهر في كلماته وفي أفعاله”.

إنجازه الأكبر: صياغة المثل الأعلى للأمة

” …. كان الإنجاز الكبير لمصطفى كامل هو أنه قد قام بتحديد المثل الأعلى للأمة، و شجع الجماهير على الاستمرار للوصول إلى المثل الأعلى”.

حزن الخديو على خلاف علي يوسف ومصطفى كامل

” ولكن اتجاهه الوطني أصبح جامداً إلى درجة أنه ظهر وكأن به بعض الظلال، وإن ما أخذته عليه أكثر من غيره، هو أنه قد ظل برغبته بعيداً عن كل أولئك الذين كانوا قد كافحوا حول نفس الراية، ولنفس الأهداف، وكنت قد حلمت بقيام تقارب بين الشيخ علي يوسف وبين مصطفى كامل. ولكني لم أتمكن من الوصول إلى هذه النتيجة أبداً، وكان هناك نوع من الاعتزاز وحب الذات الزائد عن الحد يفصل بين هذين الرجلين، اللذين كان من الممكن ان يتفاهما  من دون أن يحب الواحد منهما الآخر، لقد كانت لهما الكثير من الميزات والخصائص التي تدفع إلى تقدير متبادل”.

ما  كان الخديو  يتمناه من النضج (!! ) في  مصطفى كامل

“وربما كان في وسع مصطفى كامل أن يصبح في يوم من الأيام سياسياً حكيماً! لقد كان لا تزال تنقصه الخبرة وثقة النفوس الناضجة، التي ترى بقلق السيطرة المتزايدة لهذا الرجل الشاب على الجماهير. ذلك أنه إذا كان مصطفى كامل معه الشباب، والطلبة، والمستقبل، فإن الشيخ علي يوسف كان يمارس نفوذه بنوع خاص على الشخصيات التي كانت تحتل مراكز اجتماعية هامة! فما الذي يؤخذ عليه؟ وما الذي لم يكن في وسعه القيام به سوى وضع حماس [أحدهما] مع تجربة الآخر”.

يلقي باللوم على الشيخ عبد العزيز جاويش

ينتقد الخديو عباس حلمي  العلاقة الوثيقة التي ربطت الزعيم مصطفى كامل بالشيخ عبد العزيز جاويش : “…… ونتيجة لنصائح عبد العزيز جاويش المغرضة، هذا الوطني غير الملتزم، الذي كان قد ولد في المغرب، واتخذ من مصر كقاعدة انطلاق، أخذ أنصار الاستقلال، بدلاً من أن يكونوا كتلة واحدة، اخذوا في الانقسام بشأن الوسائل، بينما كانوا متفقين على الأهداف. وكان سوء الفهم هذا مثيراً للأسى، ذلك أن اختفاء مسيِّري الرجال، مثل مصطفى كامل وعلي يوسف، كان في وسعه أن يتسبب تلقائيا في شعور بالضياع، يضر بالنمو الطبيعي لسياسة كان جوهرها هو تحرير البلاد”.

يكرر ضيقه من تعاون مصطفى كامل مع الشيخ جاويش

” وكان من الأفضل لمصطفى كامل أن يستمع إلى النصائح الحكيمة للشيخ علي يوسف، أكثر من أن يعطي ثقته للشيخ جاويش، الذي كان عنفه دائماً محسوباً، والذي كان يخفي تحت طموحه غير المنظم تطلعات ليست لها اية علاقة مع مصلحة البلاد، و إذا كان مصطفى كامل قد اخذ في غالب الأحيان شكل الرسل، فإن صديقه الشيخ جاويش كان يظهر دائماً كوصولي. وليس هناك، بكل أسف، في هذا العالم، سياسة بدون أخطاء. ولم يكن مصطفى كامل إلاّ أحد الرجال. وترك، عند موته المثال على حياة كرست كلها لتحرير مصر …. ، وكانت كفاءة زميله، علي يوسف، إذا ما كان قد اعترف به، لن تنقص من كفاءته”.  

” وهذا الرجل ذو المشاعر الجياشة، والذي توفي في زهرة العمر، دون أن يجد الوقت اللازم لكبح حماسه، بقليل من الخبرة، قد حصل على غالبية الرضا، ولذة النجاح الكبير لرسالته. ولا شك في أنه كان قد شعر ببعض الدوار برأسه [يقصد : الغرور] !”.

النشاط الاجتماعي الواسع للجاليات الأجنبية

 بالموازاة لهذا النشاط الساسي عرفت مصر نشاطا اجتماعيا و مجتمعيا عبر عن جاليات  أجنبية متعددة ارتبطت بالحياة الفكرية في أوربا والحياة السياسية الواعدة او الواثبة في مجتمعات مشرئبة الى توكيد قوميتها من قبيل اليونانيين و الأرمن  والبوشناق و الشيشان و البلغار و الصرب والروس البيض و الشراكسة و العجم فضلا عن اليابانيين والصينين وذلك في مقابلة طبيعية [او حتمية ]مع شعور متزايد لدى الدول الأوربية صاحبة الامتيازات بأن من مصلحتها ومن واجبها أن تستغل الظروف أو التسهيلات المتاحة لها بمقتضى الامتيازات وتنشئ لنفسها مؤسسات مستقلة خارج نطاق الدولة المصرية، تمثلت هذه المؤسسات في مدارس وكنائس ونواد وجمعيات ومقرات للجاليات، ومن تم كانت هذه ” الكيانات الحضارية الأجنبية” قابلة للاحتذاء و التوظيف و الانتفاع  على مستوى وطني حتى وإن لم تكن الامكانات المادية موجودة عند أبناء الوطن بالقدر ذاته المتاح عند الأجانب،  ومع هذا فلا تزال آثار هذه المرحلة ناطقة بمدى النفوذ الأجنبي في تلك الفترة من ناحية وبقدرة المجتمع الدني المحلي في ذلك الوقت على استيعاب مثل هذه المنشآت والأنشطة من ناحية أخرى..  وعلى سبيل المثال فإذا كان النادي الأهلي نادياً للوطنية المصرية فإن نادي الجزيرة الذي يشاطره أرض الجزيرة كان يمثل كيانا تابعاً للاحتلال الإنجليزي إلى أن تقرّر تباعا تمصيره (جزئيا و كليا) على نحو أو آخر.

وفي كل هذه النواحي من النشاط كانت روح النهضة تعبر عن رغبة خديوية يمثلها الخديو الشاب في أن يتحقق لمصر نوع من أنواع التقدم الأوربي في كل مجال يتطرق إليه النشاط الحكومي أو الأهلي . وعلى سبيل المثال فقد كان إنشاء مدرسة الفنون الجميلة 1908 آية واضحة على هذا التوجه الواثق .

سعادته بإنهاء الامتيازات الأجنبية في 1937

لخص الخديو عباس حلمي نفسه وجهة نظره في قصة الامتيازات الأجنبية  من زاوية ضيقة ترتبط بعلاقته بلورد كرومر في المقام الأول مشيراً إلى أن لورد كرومر عندما طالب بإلغائها لم يكن يستهدف استعادة سيادة مصر على أرضها ، وإنما كان يقصد أن يصبح النفوذ البريطاني وحده هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في إدارة الشأن المصري، وهو يقول في هذا المعنى:  “……. ولا شك في أن هدف لورد كرومر الفعلي لم يكن هو أن يعطي مصر طاقة السيادة، لكي تُشرِّع لأبنائها، وكذلك للأجانب الذين يسكنون أرضها. ولم يكن ذلك أيضاً من أجل كسب عرفان الشعب المصري بالحصول على استقلاله القانوني الداخلي، عن طريق إلغاء العبودية الناتجة عن نظام الامتيازات التي كان سلاطين تركيا [ يدلنا هذا التعبير على مدى سيطرة الفرنسيين على نص المكرات فلم يكن الخديو ليستخدم هذا التعبير بديلا عن لفظ الخلفاء او السلاطين العثمانيين ] قد منحوها للأجانب في مصر.  …….لقد كان السبب الحقيقي هو إلغاء إشراف الدول الأجنبية على التشريع الذي ينطبق على رعاياهم ،  وبإلغاء حق نظر الدول العظمى، تصبح مصر منطقة نفوذ بريطاني، ويُصبح لإنجلترا الحق الكامل في إدارة مصر. وهذا سيمثل نوعاً من القبول الضمني بالاحتلال العسكري. وما من شك في أن هدف الوفاق الودي لعام 1904 مع فرنسا، كان من أجل إبعاد أي منافسة أخرى للإنجليز في مصر. ……. وهذه الامتيازات القديمة للغاية كانت ترجع إلى أواخر العصور الوسطى [ هكذا تقول المذكرات ، والواقع أن بداية عهد الامتيازات كانت في عهد سليمان القانوني]، وربما كانت قد شوهت، وأسيئ تفسيرها. ولكن ما لا يمكن الإقلال من قيمته هو أنها كانت قد شجعت الأجانب على الإقامة في مصر، وبكل أمان، سواء فيما يتعلق بأرواحهم، أو بمصالحهم. وكان هذا هو سبب معارضة كل الدول لإلغاء نظام الامتيازات كوسيلة وحيدة للاحتفاظ بمجموع الأجانب، مهما كان عددهم، ومهما كانت درجة غناهم وتعاونهم، وفي نطاق مصالحهم الخاصة بهم، وفي نطاق الحياة المادية والاقتصادية للبلاد” .

مجاملة غير مستحقة لفرنسا

ومن باب المجاملة غير المستحبة و لا المطلوبة يستطرد  الخديو عباس حلمي إلى مديح غير مستحق لفرنسا بلا أي داع : “…….وحظرت فرنسا على ممثلها في القاهرة الاشتراك في أي مناقشة بهذا الشأن. أما المصريون، فإنهم لم يروا في ذلك عملاً سلطوياً جديداً من جانب بريطانيا العظمى، [يقصد أن المصريين لم يصدقوا دعاوى الخديو نفسه ]  ولم يكونوا، بطبيعة الحال، من أنصار سيطرة تصبح كل يوم أكثر شمولاً [يقصد أن المصريين لم يكونوا سعداء برغبة البريطانيين] ورأى طلابنا في أوربا، وبنوع خاص في فرنسا، في ذلك اعتداءً جديداً على حرية عملنا تجاه البلاد الأخرى.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com