الرئيسية / المكتبة الصحفية / الأستاذ أنور الجندي في وجهيه المتألقين

الأستاذ أنور الجندي في وجهيه المتألقين

مكانته التاريخية

كان  الأستاذ أنور الجندي  (1916 ـ 2002) شخصية فكرية دؤوبة جمعت بين كثرة العمل وقلة الظهور كما جمعت بين النفير الدعوى و هدوء الداعي وقلة عنايته بمكانته ، وهو في رأينا الذي يدفعنا إلى تخصيص هذا الفصل له  واحد من كتاب الأدب والفكر والتاريخ المجتهدين الذين حاولوا قدر استطاعتهم أن يصلوا إلى أحكام صائبة وأن يصوغوا لوحات من التعبير الصادق عمَّا أحسوه فيما تناولوه من نصوص، وهو في هذه الناحية أو الزاوية متألق على نحو لا يمكن التقليل منه ومن فضله ، وذلك على الرغم من اختلافنا  المعروف و المعلن مع كثير من أحكامه الحماسية .

وجهة نظرنا في مكانته

 ومن الطريف الذي ننفرد بالقول به ، ولم يسبقنا إليه أحد إلى تسجيله على هذا النحو أنه بدأ حياته على عكس ما انتهى إليه تماماً ، فقد كان صاحب أحكام إيجابية إلى أقصى حد ، وكان مستبشراً مشجعاً ناصحاً محبذاً، فإذا أردنا الصراحة في تقييم ما انتهى إليه من نظرية ناقدة وناقمة وشبه عدمية تجاه كثير من عناصر أدبنا الحديث والمعاصر فإننا بخبرة الأطباء نقول إن السبب لم يكن فيه هو نفسه وإنما كان في المجتمع ، وإذا أردنا تحليلاً بناء لعناصر ثقافتنا فبوسعنا أن نأخذ نصوص أنور الجندي المشرقة ونقارنها بنصوصه القانطة أو المكتئبة وسنكتشف مواطن الخلل في تعاملنا مع أدبنا، وهو تعامل قاس لا يهمل التقدير ولا التقييم ولا الرصد ولا التحليل ولا البناء فحسب وإنما يتجاوز هذا إلى التقليل من شأن الإنجاز ثم من شأن الإبداع ثم من شأن كل فعل أدبي أو ثقافي. و في مرحلة من المراحل اعتبر الأستاذ أنور الجندي مهمته في الحياة الأدبية جهادا من منطلق الانتماء للإسلام، والدفاع عنه، كما اعتبر أن واجبه الأول هو  أن يناقش القضايا المعاصرة بجرأة وذكاء وفهم، وأن يتصدى لقضايا مسكوت عنها، وامتد تناوله الجاد الملتزم ليغطي مناطق متعددة من المعرفة والفلسفة حفلت بها مؤلفاته.

نشأته وتكوينه

ولد الاستاذ أنور الجندي في مدينة ديروط بمحافظة أسيوط بصعيد مصر سنة 1916، وبدأ بنشر المقالات (1932) في «البلاغ»، و«أبولو»، وفي بداية الأربعينيات بدأ في التعقيب على ما يكتبه المستشرقون ويعبر عما كان يحس به من الاستفزاز في افترائهم علي الإسلام، ثم التقي بزعيم الإخوان المسلمين الامام الشهيد حسن البنا، وبدأ الكتابة في صحف الإخوان وغيرها، وبدأ يواجه حملات التغريب منذ 1946،

الحقيقة في ازدواجية موقفه من طه حسين

يعرف الاستاذ أنور الجندي الآن بأنه هو من واجه فكر طه حسين في الكثير من المؤلفات، وأنه يري أن طه حسين هو قمة أطروحة التغريب، وأقوي معاقلها، لذلك كان حرصه على توجيه ضربة قوية إليه من الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية. وقد اخترنا للدلالة على تقييمنا له  تعقيباً بديعاً له في مديح الدكتور طه حسين ، والدفاع عنه ، وهو نص قوي معبر يقف في شموخ امام نصوصه المهاجمة لطه حسين بقسوة ، وينتصر عليها بفضل ما في النص الذي كتبه الأستاذ أنور الجندي من الجمال والحب والتقدير.

لسنا نريد بإشارتنا إلى هذه النصوص أن نقلل من قيمة اعمال الأستاذ أنور الجندي الناقدة لحياتنا الثقافية والتي تسير في بعض خطوات من بعض طرقها في السبيل العريض الذي سار فيه استاذنا الشيخ محمود شاكر واستاذنا الدكتور محمد محمد حسين.. لكننا نريد أن نقول إن هذا موجود ، وذلك موجود كما أننا نريد أن ننبه الذين يكتفون بالنقل عن الأستاذ أنور الجندي في نصوصه الأخيرة وإطلاق أحكامهم استناداً إليها إلى أن للأستاذ أنور الجندي آراء أخرى لا تقل أهمية عن هذه الآراء .

عاش أسيراً لجذوة الاهتمام بطه حسين وأثره

وباختصار أشد ما يكون تعبيراً عن الواقع فإن الأستاذ أنور الجندي وقع عن حب أسيراً لجذوة الاهتمام بالدكتور طه حسين وأثره المتوهج في زمنه، فقد كان هذا الأديب الواعد الدارس المنتمي الذي هو أنور الجندي ينتظر من أستاذه المتوهج الذي لا يبدو منتميا بما فيه الكفاية أن يكون منتميا على حسب ما يتصوره هو من الانتماء ودواعيه ومتطلباته وانعكاساته، وهكذا فإنه وجد نفسه يصطدم (ولا نقول إنه اصطدم) بما في بعض نصوص الكاتب من مجافاة للانتماء العربي والإسلامي، وبدلاً من أن يلجأ الأستاذ الجندي إلى ما نسميه تاريخ الفكرة وتطور التفكير فإنه عالج طه حسين معالجة  نصوصية على نحو لا يحتمله أي كاتب في التاريخ، فالكاتب (فضلاً عن الأستاذ الجامعي) لا يمكن ان يكون مقالاً واحداً، كما انه ليس فكرة واحدة.

ومع تحفظنا على أسلوب الأستاذ أنور الجندي في مقاربة طه حسين على هذا النحو فلا بد لنا أن نشير إلى إيجابيتين مهمتين عادتا بالفضل على تراثنا الفكري وفهمنا له، الأولى هي أن نسيج أعمال طه حسين كان هو العامل الأول الذي ساعد الأستاذ أنور الجندي على أن يفعل بالدكتور طه حسين ما فعل، ولم يكن شيئاً آخر هو ما ساعده على هذا ، والثانية وهي متصلة بالأولى أن الأستاذ الجندي قد فعل هذا  من منطق اصيل مرتبط بطه حسين نفسه وبإنجازه ، وليس من منطق وافد أو خارجي، أي أنه كان معجبا عن حق وعن دراسة بطه حسين ونصوصه وأن إعجابه بهذه النصوص قاده إلى التعجب او الشعور بالاستغراب من بعضها، ومن هنا فانه كوّن فكرته الناقدة لطه حسين، ولم يكن الأمر على نحو ما يحدث مع واحد من تلاميذ مدرسة مختلفة يعالج الأمر منذ البداية بالترصد والتفتيش ثم بالاستشهاد على صحة دعاواه التي يهاجم بها من يهاجمه من النجوم.

الحيوية التاريخية التي بثها الأستاذ أنور الجندي

وليس من شك في أن جهد الأستاذ أنور الجندي قد أضفى كثيراً من الحيوية على المناطق التي تناولها أو عرضها أو أعاد عرضها، بيد أن مشكلة فرعية نشأت في بعض المجتمعات التلقينية حين استسهل مثقفوها و مثاقفوها  اللجوء الى البناء على أحكام الأستاذ أنور الجندي واقتباساته واستشهاداته على أنها نهاية العلم ونهاية الدنيا، ومن ثم فقد كانت النتيجة خطرة بل في غاية الخطورة على عقليات بريئة في مجتمعات لم تجرب التعدد الفكري ولم تستفد منه، وإنما آثرت التلقين ثم وجدت في نصوص الأستاذ محمود شاكر والدكتور محمد محمد حسين والأستاذ محمد قطب والأستاذ أنور الجندي ما كوّن لها إطاراً آسراً يمنعها من الإعجاب خارجه، بل ويأسرها تماماً داخل فكرة مركزية واحدة يستحيل أن يكون العقل البشري محصوراً فيها. ومع الزمن فإن تأثير هذه المدرسة أصبح يضعف أكثر وأكثر، لكنه أحيانا ما يعود زاعقاً في لحظات الاغتراب التي تعانيها المجتمعات الإسلامية في ظل قسوة أجهزة الأمن ، وفي ظل الافتراء الذي قد يمارسه عسكريون أو  أمنيون.

رأينا أن من الطبيعي أن يقع طه حسين في التناقض

أما قضية التناقض في أحكام طه حسين فهي في رأينا قضية بسيطة او على الأقل هي أبسط من هذه الهالات التي تحيط بالحديث عنها، ومن الطبيعي أن يقع طه حسين في التناقض بسبب طول عمره الثقافي، أي طول ممارسته لمهمة الثقافية والتثقيفية  فقد بدأ يمارس الكتابة السياسية المتأججة قبل أن ينتهي العقد الأول من القرن العشرين منطلقا في هذا التوجه بتشجيع من استاذه الأكثر تأثيراً فيه وتشجيعا له وهو الشيخ عبد العزيز جاويش 1876- 1929 ، على نحو ما كشفنا عن هذا في الباب الأول من كتابنا “الشركاء المتشاكسون في ثورة 1919”  ثم استمر طه حسين في مقارباته ومناقشاته إلى الستينات من القرن العشرين، ومن الطبيعي أن تكون له توازناته وحساباته طيلة هذه الفترة، فضلاً عما هو طبيعي من النضج أو تغير الأحكام مع مضي الزمن.

تناقضات طه حسين من النوع غير الخبيث 

ولا شك في أن بعض هذه التناقضات يتمتع ( ولا نقول : يتسم ) بالخطورة لكننا نستطيع بكل اطمئنان و عن دراسة أن نقول إن أكثرها من النوع غير الخبيث، ونحن نستخدم هذا التعبير الطبي من باب الدقة، كما أننا نستخدم التعبير المكون من كلمتين غير الخبيث بدلا من الكلمة الواحدة “الحميد” التي تشي بإيحاءات قيمية وخيرية لا نريد أن نبالغ فنقول بها في وصف مجموعة من التناقضات  ذلك ان التناقضات تبقى تناقضات على أفضل حال، وربما كان من أطرف هذه التناقضات ما رصده الأستاذ محمود أبو رية في مقال سريع نشره في مجلة الرسالة عقب حفل تكريم لخليل مطران حيث بعث الدكتور طه حسين إلى مطران برسالة جعلت خليل مطران متفوقا على كل الشعراء بمن فيهم حافظ وشوقي. ولكن أبو رية نشر في تلك المناسبة خطبة طه حسين في تكريم العقاد التي ذهب فيها إلى مبايعته بإمارة الشعر. ومن الإنصاف أن نقول إن طه حسين كان محقاً في الموقفين فكلا الرجلين يستحقان كل كلمة في وصف طه حسين لهما.

ضرورة دراسة التحولات الفكرية بطريقة  إيجابية

لو أن العمر (الاكاديمي ) امتد بالأستاذ أنور الجندي لاستطاع أن يدرس تحولات طه حسين الفكرية دراسة إيجابية تكفل هداية من يريدون أن يفيدوا من تجارب المدرسة العربية الحديثة في التأليف الأدبي والتفكير النقدي ومقاربة العلوم الإنسانية من خلال أدب الأمة المكتوب ، لكن الحظ جعل الأستاذ الجندي يعيش ذروة نضجه (وهو المولود في 1916) في زمن الناصرية حيث كان كل شيء يبعث على الغضب ، وكانت النتائج كذلك فالنظر يمضي في غضب، والتفكير في غضب ، والتأمل في غضب ، ولم يتح للأستاذ الجندي من الرضا ما يجعله قادراً على البحث عن الإيجابيات فيما كان يصادفه من السلبيات ولهذا السبب فقد أصبحت المحصلة الغالبة على كتابات الأستاذ أنور الجندي أنها كتابات عدمية أو اقرب إلى العدمية، وأنها ناقمة أكثر منها ناقدة، وأنها قادرة على أن تثير البغضاء بأكثر من قدرتها على جلب المحبة أو الاحتفاء، مع أن جوهر طبيعة الرجل وإسهامه الفكري وعنايته بالسابقين لا تتناسب مع هذه الروح التي تبدو سائدة في كتبه.

وفي جميع الأحوال فإنه يبقى للأستاذ أنور الجندي دور كبير في وسط الجهود الصادقة والمخلصة في كتابة تاريخنا المعاصر، بل إن من العجيب ان النصوص التي اختارها لتدعيم وجهات نظره كفيلة بأن تكون هي نفسها أقوى داعم لأفكار مناقضة تماماً للأفكار التي تبناها، وهذا نوع من أنواع الخصوبة التي تتميز بها الجهود المخلصة الصادرة عن شخصيات ذات نوايا صادقة مهما كانت نصوصهم او مقارباتهم متحاملة .

تعقيبه المهم : طه حسين بين الأدب والسياسة

نشر الأستاذ أنور الجندي في بريد مجلة الرسالة رسالة كاملة بعث بها الأستاذ  عبد الطيف فايد وضمنها تعقيبا على رأي نشره الأستاذ محمود عبد المنعم مراد وانتقد فيه الدكتور طه حسين ، وقد كتب الأستاذ الجندي يقول :

“…… في خطاب من الأديب عبد اللطيف فايد يقول إن الأستاذ محمود عبد المنعم مراد كتب في جريدة المصري في 28 نوفمبر سنة 1952 بعنوان (في الأدب والحياة) تعرض فيه لمؤلفات الدكتور حسين فوزي، وقد دفعه مديح المؤلفات وصاحبها إلى اتهام الدكتور طه حسين بما هو منه بريء. إذ قال في معرض الحديث مخاطبا الدكتور حسين فوزي (أصدقاؤك الذين احترفوا الأدب وزاولوا السياسة، وجعلوا الأدب وسيلة لتلهية الفارغين ليزيدوا كتبهم انتشارا، كما اضطروا إلى مداراة الحاكمين والمحكومين ليصلوا إلى كراسي الحكم. ومن هؤلاء صديقك الذي أهديت إليه كتابك الجديد الدكتور طه حسين). ويبدأ الأديب عبد اللطيف فايد في التعقيب فيقول :  “…… وإن القارئ ليقف أمام هذا الاتهام وقد استولى عليه العجب من كل جانب، لأنه إن جاز هذا على بعض الأدباء، فلن يجوز على أستاذنا العميد، وأدب العميد ليس في حاجة إلى التعريف فنقول للكاتب الفاضل إن الدكتور طه حسين لم يجعل الأدب وسيلة لتلهية الفارغين كي يضمن لكتبه الذيوع والانتشار. وأينما قرأت له وجدت الإيمان بالفكرة، والأدب الرفيع الذي يستعصي العثور على مثله ثم أعود فأسأل الأستاذ مراد: ألم يقرأ الأيام ومستقبل الثقافة وحديث الأربعاء وعلى هامش السيرة والوعد الحق وغيرها مما تفخر به المكتبة العربية من مؤلفات العميد، وهل كانت هذه الكتب وسيلة لتلهية الفارغين!!

” وأود أن أقول للكاتب إن الدكتور طه حسين لم يصل إلى كرسي الوزارة عن طريق التملق ومداراة الحاكمين والمحكومين. . لأننا لم نعثر على أديب شق طريقه بكفاحه وجهاده وإنتاجه حتى وصل مرتبة سامية كالدكتور طه. ثم ما عيب الأديب إذا اشتغل بالسياسة وحافظ على مبادئ أدبه ولم يجعل منها طريقا للإثراء والغنى. والحق أن السياسة كانت دائما في حاجة إلى جبهة من الأدباء ليهذبوا حواشيها وليسخروها لإسعاد الناس”.

أنور الجندي يرى أن طه حسين  مجاهد وهب نفسه للأدب

وقد عقب الأستاذ الجندي على رسالة الأستاذ عبد اللطيف فايد فقال  : ” وبعد….  فهذه كلمات اقتطفتها من رسالة الأديب عن طه حسين وليس لي بعد ذلك أن أقول  شيئا، فطه حسين كاتب وهب نفسه للأدب خالصا مجردا، وقد عاش لفنه مجاهدا، باذلا من أعصابه ودمه وروحه ، وكان في كل وقت المناضل المكافح، الذي يحارب الظلم والطغيان. ويكفي أن يكون طه حسين قد اختير من بين 150 عظيما في العالم، كأعظم شخصية في الشرق، ويكفي أن نقدم هذا للأستاذ مراد. . والحق أنني لست أدري ما هو وجه الشبه بين طه حسين وحسين فوزي مما يدعو إلى أن يقحم الأستاذ مراد الدكتور العميد عند الحديث عن مؤلفات حسين فوزي؟ والعجيب أن أقرأ هذا في الوقت الذي أستمع فيه إلى حوار مع طلبة إحدى الجامعات في راديو الشرق الأدنى وقد أخذ المذيع يسأل الطلبة عن الكتب التي يقرأونها  فأجاب ثمانية  من عشرة منهم بأنهم يقرأون كتب طه حسين. . .

حديثه المبجل عن طه حسين عند افتتاحه للموسم الثقافي

في هذا السياق نفسه كتب الأستاذ أنور الجندي في الرسالة في 1 ديسمبر 1952  محتفيا بالمحاضرة التي القاها الدكتور طه حسين في افتتاح الموسم الثقافي لنادي الخريجين المصري  :

” ومرة أخرى يفتتح طه حسين الموسم الثقافي لنادي الخريجين المصري بمحاضرة عن (الثقافة الوطنية، والثقافة العالمية). ولنا قبل أن نلخص المحاضرة عتاب على نادي الخريجين الذي يرأسه الدكتور العميد، لأنه لم يوفر للعدد الضخم الذي حضر ليسمع طه حسين الأماكن. . وإذا كان النادي لا يتسع، فقد كان في الإمكان أن يختار أي قاعة من القاعات الواسعة: نقابة الصحفيين، أو يورت، أو الشبان المسلمين. . لقد ذهبنا قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة فلم نجد مكاناً واضطررنا أن نقف في تلك الطرقة العتيقة محشورين على وجه غاية في القسوة، فترة تزيد على ساعة ونصف الساعة.

تلخيصه الذكي لحديث الدكتور طه حسين عن الثقافة العالمية  

“……. تحدث الدكتور عن الثقافة، وقال أنها ليست شيئا يمكن تحديده، وأنها وسيلة من وسائل التقارب بين الناس والأجناس، وأنها الأداة الوحيدة لمنع الحرب ونشر السلم، رسم العميد صورة للمثقف في العصر القديم، قبل الإسلام وبعد الإسلام، وكيف كان الشاعر يسعى من باديته إلى الحاضرة، يحمل قصيدة يمتدح بها الخليفة أو الأمير، فإذا وصل إلى الحاضرة أعجبته ورضي عنها فاستقر بها طويلاً. . وأفاد من اتصاله بالناس في خلال رحلته الطويلة وفي خلال مقامه في الحاضرة، فإذا عاد بعد ذلك إلى البادية، عاد ومعه ثقافة واسعة جديدة. .

“…. وقال الدكتور طه حسين إنه ليس هناك ثقافة وطنية وثقافة عالمية، وإن التفريق بينهما خطأ واضح، إذ أن الثقافة عالمية قطعا، وإنه لا سبيل لأمة الآن أن تعيش منفصلة عن غيرها، ولا أن يعيش شعب على الثقافة العربية وحدها، ، وليست مصر وحدها هي التي تستطيع أن تتخلف عن الثقافة العالمية، بل إن الأدب الفرنسي والأدباء الفرنسيين، لا يستطيعون أن يقولوا إنهم عاشوا دون أن يقرأوا الأدب الإنجليزي أو الألماني أو الروسي أو اليوناني. . وكذلك الشأن في الآداب الأخرى.”

“….  غير أن الأدب في كل وطن يصور البيئة وروحها، ذلك أن الثقافة بالرغم من عالميتها فأنها تتأقلم وتتبلور في صور النفس التي تكتبها. . ورسم الدكتور صورة المثقف، فقال إنه ليس ذلك الذي يحفظ النصوص ويلقيها في كل مناسبة أو غير مناسبة، إنما هو القادر على أن يهضم كل ما يقرأ من فنون الأدب والثقافة، ويحولها في كيانه إلى قوة تصنع فنونا جديدة. وقال إن المثقف في عصرنا الحديث لا يستطيع أن يعد نفسه مثقفاً، إلا إذا ألم إلماماً وافياً بكل الآثار التي تنتجها القرائح في عصره. . وأن يواصل دائماً هذه القراءة، ويدأب على الدرس الدائم! .

وفي نهاية المحاضرة تحدث د. طه حسين عن التعليم، وهاجم الرأي القائل بالتحفظ في إذاعته وتيسيره للناس جميعاً، وحمل على نظرية التعليم للتوظف، هذه النظرية التي قامت في العهد البائد ويجب أن يقضي عليها العهد الجديد، واستقبل المستمعون حملته هذه بالإعجاب والتصفيق. .ومع الأسف فإن الصحف اليومية لم تذكر شيئاً عن هذه العاصفة الضخمة التي أثارها عميد الأدب!

كيف توالت التحولات المضيئة في كتابته

عاش الاستاذ أنور الجندي مرحلة ما قبل 1952 بتفاعل ذكي دائب شاركه فيه عدد من أنداده من اقطاب هذه الفقرة ثم كان من الذين بنوا آمالا عريضة على حركة الجيش في 1952 و أسرف فيما كان يؤمله من هذه الحركة وفي المرحلة ما بين 1952 و1962 تناول قضايا الوطنية والقومية من خلال مواقع الفكر النشطة التي ارتبطت بتشجيع الدولة من خلال فتحي رضوان وكمال الدين حسين ، ثم أفسحت له مجلة «منبر الإسلام»  التي بدأت تصدر عن  المجلس الأعلى للشئون الإسلامية صدرها (1963)، وأتاحت له فرصة الكتابة و النشر لكنه سرعان ما أصابه الإحباط المتكرر و انصرف لما اسماه تصحيح المفاهيم ،  بل انه قدر له في العام التالي مباشرة أن يدخل مرحلة من الاغتراب مع سيطرة التوجهات الشيوعية علي الثقافة في الدولة الشمولية  1964.

من الجدير بالذكر ان الاستاذ أنور الجندي قد اعتقل عاما كاملا قبيل ثورة 1952، كما اعتقل بعد 1952 .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com