هذا هو عنوان الكتاب الثاني الذي صدر عن سلسلة كتاب الجمهورية للدكتور أحمد مرسي أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، وهو يتناول دور الخرافة في الحياة من زاوية علمية مستعيناً بخلفيته الثقافية والأكاديمية كدارس للفولكلور وأستاذ له علي مدي سنوات طويلة.
ولابد لي أن أبدأ الحديث عن هذا الكتاب بالثناء علي شجاعة مؤلفه الذي لم يجد حرجاً وهو الأستاذ الكبير والرئيس المتميز لقسم اللغة العربية في كلية آداب القاهرة أن يتناول مثل هذا الموضوع علي هذا النحو الشجاع في كتاب من كتب الثقافة العامة دون أن يتحوط فيما يعرضه من ناحية ودون أن يشتط في أحكامه من ناحية أخري .
وليس من شك أن المستوي المتميز من الوعي الفكري والسياسي والثقافي الذي يتمتع به الدكتور أحمد مرسي كان كفيلاً بأن يجعله يحيط بهذا الموضوع من كافة الزوايا الفلسفية والاجتماعية والتاريخية التي تصوغ كيانه، سواء في العلم النظري أو في الحقيقة الواقعة بالفعل.
ونحن نعرف أن العلاقة بين الأسطورة والخرافة والعلم قد شغلت بالفعل كثيراً من الدارسين والباحثين في مختلف العلوم الإنسانية، ونعرف كذلك أن معظمهم قد وقف موقفاً معادياً شديد العداء للخرافة ولكل أنماط التفكير والسلوك المرتبطة بها، مقررين أنها مناقضة للعلم والعقل، ناسبين إياها للمتخلفين حضارياً الذين لا يأخذون بالعلم وأسبابه. مع إدراكنا لهذه الحقيقة فإننا لا نستطيع أن ننكر حقيقة أن الخرافة تشترك مع العلم، رغم تناقضهما، في تحقيق مجموعة من الوظائف الهامة التي يحتاجها الإنسان.
إنهما يشتركان في تفسير الظواهر والأشياء الغامضة التي تقلق الإنسان وتحيّره، وتقض مضجعه، وتفقده الشعور بالراحة والأمن والطمأنينة حتي يستطيع أن يمضي في الحياة، وأن يكون مهيئاً دائماً لتقبل ما لا يستطيع فهمه أو إدراكه أو التعامل معه في اللحظة الراهنة التي قد لا توفر له الأسباب الكافية والمقنعة للفهم.
كما يشتركان أيضاً في إيمان الإنسان أنه عن طريقهما يمكنه أن يحقق حاجاته الإنسانية الطبيعية، فإذا لم ينجح بواحد منهما، ربما نجح بالآخر، وأن يحقق النفع لنفسه، ويجلب الخير له ولأهله بنفس القدر الذي يمنع به عن نفسه وأهله الضرر، ويدرأ الخطر.
وقد جمحت الإنسانية دائما ـ كما أشار الدكتور فتحي عبد الفتاح في مقدمته الضافية للكتاب ـ إلي الرغبة والحاجة إلي «معرفة علة الكائنات والأشياء، وإذا لم يسعفها العقل والمنطق فهي تلجأ إلي الخيال، وينطبق ذلك علي الحضارات القديمة مثلما ينطبق علي الحضارة المعاصرة.. ولقد كان للأسطورة والخرافة دائماً سحرها الخاص النابع من عالمها الحافل بالخوارق والأعاجيب حيث تتلاشي خطوط الواقع القائم، ولكنها، وفي نفس الوقت، توجد واقعاً آخر، ولذلك كان [وسيظل] للأسطورة والخرافة أثر باق علي الأدب والفن و الفكر والعلم والسياسة».
«وليس من الصعب أن نكتشف أن الكثير من الأيديولوجيات والأفكار التي تزعم لنفسها أسساً مادية، هي في الواقع امتداد لأساطير وخرافات شاعت في أزمنة مختلفة، وهل يمكن أن نفصل بين أيديولوجية قائمة علي التفوق الجنسي والعنصري مثل النازية الهتلرية وبين أساسها الأسطوري القائم علي خرافة أبطال الآري «سيجفريد»، الذي قتل التنين وشرب من دمه فاكتسب صفة الخلود والتفوق.. والسيادة والهيمنة علي الأرض».
والأمر ينطبق تماماً علي الأيديولوجية الفاشية التي قامت علي أساس إحياء الماضي وبعث أشباحه الممثلة في الإمبراطورية الرومانية بكل أساطيرها ومصادر قوتها الخرافية.
بل إن الصهيونية نفسها ارتبطت ونشأت علي مجموعة من الخرافات والأساطير القديمة التي يرجع تاريخها إلي أكثر من ألفي عام وشكلت منها مشروعاً قومياً لإقامة وطن لليهود علي حساب الغير.
ومن ناحية أخري فقد استندت الكثير من الإبداعات الأدبية والفلسفية والفنية في مقوماتها علي أساس واضح من الأساطير والخرافة، ففي عصر النهضة الأوروبية وسقوط النظام الكنسي القديم ومحاولة اكتشاف العالم مرة أخري بعيداً عن مقولات البابا ورجال الدين، خرجت أسطورة الدكتور «فاوست» العالم الذي يمتلئ شوقاً إلي المعرفة والاكتشاف حتي إنه أبرم حلفاً مع الشيطان لكي يطلعه علي أسرار الحياة ثم يقبض روحه بعد ذلك.
ويلفت الكتاب الذي بين أيدينا نظرنا إلي أن غالبية أعمال شكسبير الخالدة هي في جوهرها حواديت لأساطير، وكذلك الكوميديا الإلهية وجحيم الشاعر الإيطالي دانتى، بل إننا نري في كثير من الإبداعات الأوروبية والفكرية المعاصرة لأندريه جيد وجان بول سارتر وطه حسين موضوعات تتناول بعض الأساطير والخرافات في محاولة لتقديم مجموعة من القيم والأفكار الجديدة، تأكيداً لبعض الأيديولوجيات أو نفياً لها وهجوماً عليها.
ومن الطريف أن تشير مقدمة الكتاب إلي إمكان القول بإن الأيديولوجيات الاشتراكية «نفسها» قد انبعثت من عالم الأسطورة حين كتب توماس مور الراهب الإنجليزي «اليوتوبيا» عن العالم المثالي الذي يتخيله وهو عالم يسوده العدل والإخاء وينتفي فيه الظلم والطغيان.
وتمضي المقدمة لتؤكد لنا علي ما تعتقده من أن «يوتوبيا توماس مور » كانت بمثابة المنبع الرئيسي لتدفق كل الأفكار والنظريات الاشتراكية التي خرجت بعد ذلك وأطلق عليها الاشتراكية التوباوية:
«ويصف ماركس يوتوبيا توماس بأنها أسطورة إنسانية تتجاوز قدرة العقل والحلم النبيل لكي يصبح تحقيقها مستحيلاً، وربما لم يدرك ماركس أن نظرياته التي حاول فيها أن يكون واقعياً ومنطقياً وقابلاً للتحقيق، قد تحولت هي الأخري إلي شكل من أشكال اليوتوبيا التي يصعب تحقيقها وتطبيقها».
«وسنجد هذا التداخل الواضح بين الخيال والخرافة من ناحية، وبين العلم والتطبيق من ناحية أخرى، في أعمال مفكرين وعلماء كبار من أمثال هيجل وفرويد وابن سينا وابن رشد وجابر بن حيان وغيرهم. فلقد اعتمدوا في الكثير من كتاباتهم ونظرياتهم علي بعض الأساطير والخرافات الشائعة، وحاولوا تفسيرها في إطار منطقي يعتمد علي العقل والديالكتيك».
ويستشهد الكتاب في هذا الصدد بما قاله الفيلسوف والمفكر والعالم البريطاني الكبير برتراند رسل في كتابه « العلم والدين » إن الخرافة ليست سوي تعبير عن رغبة دفينة في المعرفة تستخدم أساليبها ووسائلها الخاصة.
ويضيف رئيس تحرير السلسلة الدكتور فتحي عبدالفتاح في مقدمته للكتاب:
« إن كثيراً من شطحات الخيال العلمي التي امتلأت بها روايات «ويلز » حول آلة الزمن وحرب الكواكب، كذلك روايات جول فيرن عن أعماق المحيطات لم تعد خرافة أو خيالا جامحا بعد أن نزل الإنسان علي القمر وتطورت صناعة الصواريخ والأقمار الصناعية وأمكن الوصول إلي سرعة الصوت والاقتراب من سرعة الضوء».
«ثم هناك الاستنساخ وثورة الهندسة الوراثية وعلوم الجينات وثورة الاتصالات التي قدمت منجزات فاقت كل تصور خيالي جامح في الماضى».
«ولعله وبعد سقوط عدد من الأفكار والأيديولوجيات والنظريات القديمة التي لم تعد قادرة علي تفسير الواقع الجديد فإن هناك محاولات كثيرة للبحث عن أسس جديدة للمعرفة والتفسير بعضها ينطلق من مفاهيم وأسس إنسانية بحثاً عن العدالة وتعميق إنسانية الإنسان وبعضها ينطلق من مفاهيم عدوانية تسعي إلي السيطرة والهيمنة وتحت رايات عرقية أو اثنية أو دينية».
«ولعل أشهر هذه النظريات الجديدة التي تنطلق من أسس عرقية وإثنية هي نظرية صراع وحروب الحضارات التي خرج علينا بها المنظر الأمريكي صموئيل هنجتون الذي يقسم العالم إلي مجموعات ثقافية متصارعة علي أساس التاريخ والتراث والعقائد والأساطير المشكلة للوجدان».
«وهذه النظرية وغيرها التي ترفض وحدة التطور الحضاري والثقافي للإنسانية وتسعي لسيادة النمط الثقافي الغربي والأمريكي تقدم في حد ذاتها تجسيداً علمياً معاصراً يمكن أن نسميه بأيديولوجيات الخرافة».
«وهي تكرار لأنماط أيديولوجية تخرج بين الحين والآخر من أرضية عرقية أو دينية.. ولقد كانت الفاشية تعتمد علي خرافة إحياء الإمبراطورية الرومانية القديمة، كما أن النازية كانت حلماً مزعجاً بأسطورة تفرد الجيش الآرى. تماماً مثلما يفكر المتطرفون القوميون والدينيون مثل جماعات الحقيقة المطلقة في اليابان، وميليشيات ميتشجان في الولايات المتحدة وجماعات الاسكتهيد والنازيون الجدد».
وهكذا تصل مقدمة الكتاب إلي أن تقرر: «…..لذلك فلن نكون متجاوزين للحقيقة إذا قلنا إن مثل هذه الأفكار والأيديولوجيات هي في الحقيقة تتويج للمعني الحرفي لأيديولوجيا الخرافة».
ولعل حكاية «الصياد والعفريت» في ألف ليلة و ليلة تصلح كما يري الدكتور أحمد مرسي في كتابه نموذجاً لما يذهب إليه الكتاب، بل تصلح مدخلاً لما نريد التأكيد عليه، علي الرغم مما قد يثور هنا من سؤال عن علاقة مثل هذه الحكاية بالموضوع، فهي لم تعد تُحكى، ولم يعد لها ولا لمثلها التأثير الذي كان من قبل. لكننا إذا كان قد أتيح لنا أن نري مع أطفالنا بعضاً من أفلام الرسوم المتحركة التي تنتجها مؤسسة والت ديزني الأمريكية للأطفال، فسنري أن مثل هذه الحكاية يظل يحُكى، ولكن بأسلوب آخر، يتناسب مع العصر.
ويلخص الدكتور أحمد مرسي حكاية «الصياد والعفريت» علي نحو ما هي موجودة في الفولكلور الشعبى، وبعد أن يستعرض القصة كلها يعلق عليها فيقول:
« وأكثر ما يهمنا من هذه الحكاية، وهو سبب استشهادنا بها هو ذلك الجزء الذي يحدث فيه الصياد نفسه بعد أن تأكد له أن العفريت قاتله لا محال.. فقال الصياد، هذا جنى، وأنا إنسى، وقد أعطاني الله عقلا كاملا، وها أنا أدبر أمرا فيه هلاكه بحيلتي وعقلى، وهو يدبر بمكره وخبثه.. إلي آخر ما انتهي إليه الصياد عندما نجح في السيطرة علي العفريت، وإخضاعه لإرادته ».
لقد استخدم الصياد عقله في مقابل قوة العفريت، وذكاءه في مقابل خبث العفريت ومكره، لينتصر بالعقل والتفكير علي القوة الخارقة التي تريد أن تعصف به، وتقضي عليه.