1
لا يمكن لشعب عريق مثل الشعب المصري أن ينظر إلي مسلسل تليفزيوني يتناول فترة من تاريخه القومي إلا في إطار وعي أكبر بالوطنية، وبالتاريخ علي حد سواء، ويتجلي هذا الوعي فيما يثيره المسلسل من ردود فعل فورية ولاحقة، علي أن الأهم من ردود الفعل هو الانتباه إلي ضرورة الفعل الغائب الذي ينبغي علينا أن نمارسه من أجل تاريخنا .
ولما كانت العواصف التي أثارها عرض مسلسل «الملك فاروق» قد بدأت تهدأ، فقد آن الأوان لمناقشة موضوعية حولها ، وحول ما تعكسه هذه العواصف من تفاعلات الرأي في نفسيات كثير من المصريين، وفي عقلهم الجمعي علي حد سواء
وقد دلتنا التجارب الدرامية الماضية علي أن الجماهير تريد أن ترى، وأن تشاهد، وأن تسمع، وأن تتأمل، كما أن هذه الجماهير بطول الوطن العربي وعرضه ومهجره ، وليس في مصر وحدها ، تتشوق حقيقة إلي كل ما يشكل وجدانها، ويصور تاريخها، وهي تنفق علي هذا الاهتمام من وقتها، ومن أعصابها، ومن مالها، ومن مواردها الأخري بما لا يقل عن أي جماهير أخري في مجتمعات متقدمة، بل ربما تتفوق.
2
ومع هذا الترحيب الجماهيري منقطع النظير للأعمال الدرامية التي تتناول تاريخ الوطن فإن القنوات التليفزيونية ( فضائية وأرضية، محلية وقومية ) لاتزال متأخرة عن طموح الجماهير بمراحل، علي الرغم من أرقام الإنتاج التي تصور مرتفعة، وما هي كذلك، وعلي الرغم من أجور المؤدين التي تصور أيضا مرتفعة ، وهي كذلك بالفعل !!
لاتزال الأرض المتاحة للكتابة عن تاريخنا أرضا بكرا تتطلب عناية، وتؤتي ثماراً، وهي بسبب هذه البكورية قادرة علي أن تؤتي ثماراً مهما كانت العناية ضعيفة،
وربما كان مسلسل «فاروق» نفسه دليلاً واضحاً علي هذا، ومع الاعتراف بأن هذا المسلسل عرض ما عرض، وقال ما قال، وأثار ما أثار إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن حديث هذا المسلسل عن موضوعه كان حديثاً كاريكاتيرياً مثله في ذلك مثل ما تدل عليه القصة القديمة التي كان بطلها جندي طلب منه قائده أن يأتي بصورة شخصية يظهر فيها الوجه كاملاً
فسأله : إلي أي حد؟
فقال: بحيث تظهر أذناك كلتاهما، وحذره من أن يأتي بصورة من صور النجوم «البروفيل» التي تظهر جانب الوجه فحسب، وفي سبيل حرص الجندي الأمي علي تعليمات قائده فإنه اختصر القضية إلي قضية الأذنين، وهكذا حدد طلبه للمصور الذي كان يعاني من ضعف إمكانات الكاميرا التي كان يستعملها، ومن ثم فإنه لم يجد بداً من أن يصور رأسه من مؤخرتها مظهرآً الأذنين فحسب،.
3
ويبدو لي أن هذا ما حدث في أثناء الصياغة الدرامية لمسلسل «فاروق» الذي يمكن أن يصفه في اختصار بأنه صور حلقات كثيرة عن أحداث كان يمكن دمجها في حلقة واحدة، وفي المقابل فإنه صورة حلقة واحدة من أحداث كان ينبغي الحديث عنها في حلقات كثيرة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لكن المسلسل حرص علي إظهار بعض صفات فاروق الشخصية الجيدة، وحرص علي إظهار بعض ملامح الوطنية عنده، لكنه في سبيل ذلك أهمل تصوير العصر تصويراً دقيقاً، كما أهمل المسلسل تصوير الصراع التاريخي الممتد الذي كان فاروق جزءاً منه، لا صانعاً له، ولا متحكماً فيه.
وأهمل المسلسل تصوير الصراع الاجتماعي الذي صاغ التحول التاريخي الذي حدث بنهاية عهد فاروق، وأهمل المسلسل تصوير ملامح الصراع الاقتصادي الذي فشل فاروق في لعب دور محدد فيه من ثلاث نواحي : باعتباره ملكاً، وباعتباره رئيس دولة كان مفرطاً في التدخل في شئون الحكومة، وباعتباره هو نفسه واحداً من قوي الرأسمالية بثروته أولا وبمخصصات الأوقاف التي كانت نظارة كثير منها مرتبطة بمنصبه وبأموال الخاصة الملكية ، وعائلته التي كان هو نفسه قيما علي بعض أفرادها لأسباب متعددة
4
فشل المسلسل أيضاً في تصوير النهضة العلمية والحضارية التي عاشها عهد فاروق نتيجة لنجاح ثورة 1919من قبل، وفشل المسلسل أيضاً في تصوير الدور الخارجي النشط الذي قامت به مصر وساستها مختلفو الأهواء والمشارب، والدور الذي قام به فاروق نفسه في عديد من الأزمات الدولية التي تلاحقت قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.
وأهمل المسلسل الحديث عن مصر التي كانت في ذلك الوقت بمثابة الملاذ الآمن علي مستوي العالم كله والتي كانت في هذا الإطار ملجأ الساسة الأوروبيين البارزين، ملوكا سابقين، وأولياء عهود،، وأمراء، بل وزعيم فرنسا الحرة الرئيس ديجول نفسه ، هذا فضلاً عن زعماء الحركة الوطنية العربية من أمثال محمد عبد الكريم الخطابى، واللاجئين السياسيين الكثيرين .
فشل المسلسل في أن يقدم صورة كل هذا وانشغل انشغالا تاما بمحاولة إعطاء دور بطولة ملكية لبعض الفنانات من خلال قيامهن بأدوار الملكات والأميرات، وقد رسم المسلسل لهن أدوارا سطحية تافهة تعني بلمعان الفساتين، وبارتفاع الصوت، وبسوقية الألفاظ إلي الحد الذي أجاد وصفه الأستاذ أنيس منصور حين علق علي المسلسل بأنه كتب بشيء آخر غير القلم .
5
والواقع أن المسلسل كان بمثابة جرس إنذار منبه إلي خطورة رؤيتنا إلي تاريخنا، فإذا كان الأمر في التعامل مع تاريخنا علي النحو الذي عبر عنه المسلسل فما أسهل أن يقرأ كل مَنْ تسول له نفسه ملايين الصفحات أو عشرات الصفحات ، وليس هناك فارق كبير بسبب هذا العدد إذا كانت الرؤية التاريخية قاصرة إلي هذا الحد مادام الأمر أمر اقتناص وقائع مروية بأي طريقة لتكون سلسلة من وقائع متتالية تصنع مسلسلا .
6
أما إذا كان الأمر أمر تصوير شخصية اعتلت العرش في السادسة عشرة، ومارست الحكم في السابعة عشرة ونصف، واستطاعت تسيير الأمور بقدر كبير من السيطرة طوال هذه المدة متمكنة من اللعب علي تناقضات مصالح الوفد، والحركة الوطنية، والأحزاب المعارضة الصغيرة، والمحتل الأجنبي، والقوي الخارجية المتعددة الغاربة و الصاعدة علي حد سواء، فإننا نصبح أمام شخصية جديرة حقاً بالدراسة والتقييم الصحيح، لا بمجرد التعاطف مع وطنيته التي شوهت صورتها كثيرا من قبل ، أو مع كراهيته للإنجليز، أو التعاطف مع عدم شربه للخمر، أو التعاطف مع مصيره القاسى..
ولست أيضا من الذين يتبنون وجهة النظر القائلة بأن فاروق قد تحول فجأة أو مرّ بتحولات فجائية، وإنما كان تاريخه كله تعبيراً عن نمو طبيعي ، وكما أنه في بعض الأحيان كان ارتقاء، فإنه في بعض الأحوال الأخرى كان الأمر أمر شيخوخة مبكرة، أو يأسا دافعا إلي ترك المواجهة، أو استعجالها ، أو نقلها إلي ميدان آخر .
ولست أيضا من الذين يبالغون في أدوار شخصيات مؤثرة عليه، لا في حضورها، ولا في غيابها، ودليلي علي هذا أن بعض الشخصيات البارزة جداً قد غابت عن فاروق أكثر من عشر سنوات دون أن تظهر حاجته إليها، والأمر طبيعى، فقد كانت مصر حافلة بالكفاءات، وكانت كل مواقعها المتقدمة لحسن حظها مشغولة بالكفاءات، وكان كثيرون قادرون علي أداء الأدوار التي نسبت لهم، فهي في واقع الأمر أدوار نفسية وتاريخية تتكرر في كل عصر، وليست أدواراً خاصة بفاروق، ولا بعهد فاروق.
ومن الظلم لمصر في عهد فاروق أن نسقط عليها إحساسنا ببعض القصور الفادح في بعض الكفاءات في الوقت الراهن، أو بوصول شخصيات هلامية إلي مواقع متقدمة من دولاب العمل الحكومي .
7
وإني ألخص هنا مأزق هذا المسلسل في قصة شهدتها بعيني لسيدة كانت تكتب مسلسلاً تاريخياً، وكان كل الناس يعرفون ذلك من كثرة حديثها في كل صالون عن جهدها، وجلست قريباً منها وهي تتحدث إلي أساطين في العلم والفكر، وهي تتصور نفسها مرجعاً، ويحاول بعض هؤلاء أن يعلموها، فتسارع بالرد بما قرأته من معلومات تافهة، وروايات متهافتة، مستندة إلي إطار عمومي يبدو متماسكا.
وسرعان ما غير الحاضرون في ذلك الصالون موضوع الحديث إلي شىء آخر يخلو من الادعاء، وسألني صاحب البيت في ذلك اليوم برفق شديد : لماذا لم تعط هذه السيدة درسا علي طريقتك الحاسمة المهذبة؟
قلت : يا سيدي إنما يستحق الدروس الذين ينتظمون في الدراسة أياً كان موضعها في مدرسة أو بيت، لا الذين يرفعون في وجهك شهادة مختومة بأنهم راجعوا معلوماتهم القاصرة !!
8
وعن خبرة شخصية فإنني أستطيع أن أقول إن كل النتائج التي انتهي إليها المسلسل في تصويره للشخصيات لم تصدر إلا عن قصور الرؤية التاريخية لكاتبته، والمجال متسع لضرب أمثلة علي هذا القصور، وليس هذا المقال مجالاً لاستعراض رؤيتي المتواضعة لهذه الأمور، وقد قدمتها بتوسع شديد كما قدمتها بتفصيل ، ودقة، واستشهادات كثيرة ومتنوعة في كتابي «علي مشارف الثورة»، و«في كواليس الملكية».
وفي هذين الكتابين أوردت ما وصل إليه السابقون من أحكام متزنة قامت علي دراسات مقارنة للنصوص المتاحة عن هذه الفترة التي أجادت تصوير فاروق ملكا يعيش في مصر بوجدانه علي الدوام، بل وبجسده أيضاً، وهو الذي لم يتركها طيلة حكمه إلا في زيارات خارجية محدودة لم يستغرق مجموعها كلها شهورا قليلة، ولم تجنح هذه الكتابات إلي تصوير فاروق موظفا كبيرا يتحكم فيه المندوب السامى، ولا طفلا صغيرا يتحكم فيه رئيس ديوانه .
9
والواقع أن فاروق كان يسمع الهتافات ويتصور نفسه بالحق أو بالباطل رجل دولة، فضلا عن أنه ملك.
ومع أني لا أنكر أن في المسلسل إيجابيات إخراجية وتمثيلية كثيرة جدا، وأن فيه أداء متميزا، وروحا لا تخلو من وطنية وقومية نفخر بهما، لكني لا أنكر أيضا أنه كان من الممكن أن يكون العمل أفضل من هذا بكثير لو احتشد له معدوه .
بيد أن لغة المسلسل كانت مزعجة لي إلي أبعد الحدود، وقد كنت في وقت من الأوقات في انزعاج شديد من عبارة قرأتها لجان نويل جانيني مدير المكتبة الوطنية الفرنسية علق فيها علي بعض المشاهد التي أداها الممثل الكوميدي بوب هوب علي مسرح الشانزليزيه لحساب التليفزيون الأمريكي في الاحتفالات بمرور قرنين علي الثورة الفرنسية حيث وصفها بقوله «انطوت السوقية البادية فيها علي أكثر العبارات فظاظة وابتذالا».
ولازلت أذكر أنني صعقت لعبارة كهذه ترد في مقال هكذا.
و لما شاهدت «فاروق» عرفت كم كان يجب علي أن أصعق لكثير من اللقطات، ومنها لقطة الملك فاروق وهو في العشرين يخاطب والدته عن شائعة سمعها عنها كما لو كان قوادا محترفا، وكما لو كانت والدته عاهرة تعمل لحسابه، ولا ينبغي لها أن تمارس شيئاً من وراء ظهره فحسب، وكأن الجرم في غياب الاستئذان لا في الفعل نفسه.
10
وعلي هذا النحو كانت تدور مناقشات فاروق مع أسرته الملكية، وهو الأمر الذي يدلنا التاريخ الاجتماعي والخلقي الذي لايزال شهوده علي قيد الحياة أنه لم يكن من الممكن أن يحدث في أي بيت مصري في تلك الحقبة، وإن كان من السهل الآن أن نتصور أنه يمكن حدوثه الآن بين زوج وزوجة، لا بين ابن وأم .