كان من أدبيات السياسة الدولية المعروفة وغير المستترة (وغير المجاهر بها في الوقت ذاته) أن الإمبراطوريات الكبرى في عصر الاستعمار الجديد قادرة على أن توجه السياسات المحلية من خلال حركة المال الداعم للتوجهات السياسية، ودعاوى السياسة والتنمية والاستقلال، وليس سراً أن الرئيس جمال عبد الناصر قد صرّح في أحد خطاباته الشعبية بأنه سيظل يرفض الأحزاب لسبب واحد فقط هو أن كل حزب سيكون تابعاً لمن يموله من الخارج، وبالتالي فسوف يكون هناك صراع دولي وليس صراع أفكار.
بالطبع فإنه لم يقل هذه الجملة الأخيرة لكنه عبّر عنها بالعبارات الشعبية التي هي أبلغ في التعبير من مصطلحات عضو مجمع اللغة العربية. وقد بلور الرئيس جمال عبد الناصر بهذه الفقرة المستفيضة في الشرح فكرة شائعة وتقليدية من الأفكار المضادة لآلية الديمقراطية والنافية لها في الوقت نفسه.
ومن العجيب أن أساتذة التاريخ وأساتذة العلوم السياسية كانوا ينتقدون الرئيس جمال عبد الناصر بكل ما يمكنهم من اللطف والتهذيب متسائلين في الوقت ذاته: كيف يمكن لزعيم شعبي أو زعيم محبوب مثله أن يقرر مثل هذه الحقيقة بصفة مطلقة متجاوزاً أو قافزاً على ما يُفترض من أن الإدارة الشعبية وإرادة الجماهير قادرة على تحقيقه من إملاء إرادتها الذاتية، وفرض رؤيتها الوطنية؟ لكن هذا الانتقاد المهذب في واقع الأمر لم يتعد حدود الهمس الأكاديمي في صفحات الكتب أو البحوث الجامعية.
من غرائب القدر أنه بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر بثلاث سنوات ونصف كان خليفته وزميل شبابه الرئيس أنور السادات يجاهر علنا ومعه كل الحق بالتعبير الصريح عن اكتشافه لمولد قوة إقليمية ودولية جديدة، بناء على ما تحقق من نصر أكتوبر 1973 وما صحبه من النصر في المعركة الاقتصادية المرتبطة به، والتي ساعدت بصورة كبيرة على فرض الإرادة ودفع الغرب نفسه إلى التفاوض بدلا من الاستعلاء، وهي معركة النفط.
وفي واقع الأمر فإن الرئيس أنور السادات لم يكن مبالغاً، ولا حالما ولا مدعيا، وإنما كان يصدر عن تحليل عميق شاركه فيه وفي تأطيره مجموعة من أفضل العقول العربية التي تعلمت في عصر الليبرالية وعاشت المجتمع الغربي بإحباطاته وتطوراته في الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من إعادة توزيع الأدوار، وإعادة تقسيم الإمبراطوريات أيضاً.
كان التطور الطبيعي للذين يدرسون حركة التاريخ أن تعبير القوة الجديدة التي تحدث عنها الرئيس أنور السادات عن نفسها وعن قدرتها (حتى وإن لم تعترف بأنها قوة) ذلك أن القوة بطبعها لا تنتظر التسمية ولا الاعتراف لتفرض أثرها، وإنما هي تفرضه بحكم قوانين الفيزيقا أو بحكم طبائع الأشياء.
وقد كان من الطبيعي أيضاً (وليس من الوارد او المحتمل كما يقولون) أن تتعثر هذه القوة في تعبيرها عن نفسها وأن تخطئ التقدير، بل لقد كان من الطبيعي أيضاً أن يتم استغلالها على نحو أو آخر، ويتم خداع هذه القوة واستقطابها في اتجاهات مستنزفة لطاقتها أو لثروتها أو لتوجهاتها وربما لذاتيتها.
ومن الإنصاف للحقيقة أن نعترف بأن هذا كله حدث على أرض الواقع، وباختصار شديد فقد تم استنزاف الطاقة في حرب الخليج مع إيران، واستنزاف الثروة في حرب الخليج الثانية أو حرب تحرير الكويت، مع أن تكلفة هذه الحرب لم تستنزف الثروة لكن روح الإجراءات الاحترازية التالية والمتجددة ضد الوضع الذي فرضته هذه الحرب ظلت ولا تزال تستنزف جزءاً كبيراً من الثروة.
أما استنزاف التوجهات فتم من خلال إحياء نزعات المذاهب والتوجهات السياسية والعقدية، بما في ذلك بعض ما حدث في بعض معارك الربيع العربي بين الثورة والثورة المضادة.
وأخيرا فقد تم استنزاف الذات من خلال اللجوء القاسي إلى كراهية الذات، لأن هذه الكراهية أصبحت وسيلة فاعلة في التبرّؤ من تهمة الإرهاب التي باتت مسلّطة على رقاب الشعوب والحكومات العربية، وقد قدمنا الشعوب على الحكومات لأن السيف المهم بالإرهاب متوجه إلى الشعوب بأكثر مما هو متوجه إلى الحكومات.
وعلى نحو ما تقول الحقائق الفيزيقية إن الطاقة والمادة صورتان لشيء واحد وإن الإشعاع أيضا صورة للشيء نفسه فإن ما حدث في محاولة تحجيم القوة العربية التي بزغت بعد 1973 كان شبيها بهذا، وقد قادت تداعياته المتشابكة إلى حالة لا يمكن لأحد أن يصدق وجودها حتى الآن وهي أن المال العربي أصبح محدّداً من المحدّدات الحاكمة في السياسة الأميركية سواء في ذلك السياسة الخارجية والسياسة الداخلية.
غير أن الأمر الذي لم يتوقعه جهابذة الأساتذة المتخصصون هو أن الذي صنع هذا الدور للمال العربي في السياسة الأميركية لم يكن هم العرب، وإنما كانوا الأميركيين أنفسهم.