الأستاذ عبد الحميد العبادي (1892 ـ 1956) هو عميد أساتذة تاريخ العصور الإسلامية في الجامعات المصرية، وهو العميد المؤسس لثاني كليات الآداب في الجامعات المصرية (آداب جامعة الإسكندرية)، وقد تميز منهجه التاريخي ببعدين فلسفي وقومي، وكان حريصا منذ فترة مبكرة على فلسفة التاريخ وربطه بحقائق الحياة والحضارة، وإضفاء الطابع العلمي والفكري عليه، مؤكدا في كل ما قاله أو كتبه على أن هناك حضارة قائمة ومتوثبة للإسلام، وأن لها مقوماتها ودعائمها وأن من واجبنا كورثة لهذه الحضارة أن نعرف عنها الكثير.
عُرف الأستاذ عبد الحميد العبادي مبكرا بتلاميذه المخلصين للحقيقة، وبمحاضراته، ومذكراته، وبآرائه القيمة في التاريخ الإسلامي وفتراته المتعاقبة، وقد تعاهد في بداية حياته الأكاديمية مع زميليه طه حسين وأحمد أمين على كتابة تاريخ الأمة الإسلامية بأسلوب علمي وعصري في مشروع متكامل يتناول التأريخ للحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية، وقد أثمرت محاولتهم عدة مراجع متميزة على نحو ما ذكرنا منذ 30 عاما في كتابنا “أدباء التنوير والتاريخ الإسلامي”.
تكوين ناضج ومتعدد الروافد
تلقى الأستاذ عبد الحميد العبادي تعليماً عاليا متميزا تعددت روافده: في مدرسة المعلمين العليا، وفي الجامعة المصرية القديمة، وفي محاضرات تلك الجامعة وعلى يد عدد من العلماء والمستشرقين، وكان بمثابة الباحث المثالي الذي استكمل للبحث وسيلته، والذي فهم النصوص العربية وانتفع باللغات الأوروبية، ورفع ذلك من قدره في أعين زملائه، وقربه إلى أساتذته، ومنحه مجدا مبكرا جعله صاحب مكانة مرموقة في كل الفعاليات الحكومية وغير الحكومية (كلجنة التأليف والترجمة والنشر).
حصوله على ليسانس الحقوق
وفيما بعد تخرجه وتوظفه نال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، فكان هذا دليلا على حب العلم وتأصيله، وعلى سعة الأفق والميل إلى المعرفة المنهجية.
نشأته وشبابه
ولد الأستاذ عبد الحميد العبادي بالإسكندرية في 21 مارس/آذار 1892، ودرس في مدارسها المدنية، ومنها حصل على شهادة الثانوية، وكانت منتديات الإسكندرية الأدبية تشهد نشاطه مع عدد من معاصريه من أدباء الثغر وشعرائه، وكان من هؤلاء الشاعر عبد الرحمن شكري (1886- 1958)، والنحوي الكبير إبراهيم مصطفى (1888- 1962)، وخليل شيبوب (1892- 1951) والشاعر عبد اللطيف النشار (1895- 1972)، وكان العبادي في هذه الفترة المبكرة شاعرا له في ميدان الشعر جولات.
التحق الأستاذ عبد الحميد العبادي بمدرسة المعلمين العليا وتخرج فيها (عام 1914) في الدفعة التي ضمت عددا من زملائه من أعلام الفكر والتربية والثقافة كان منهم أحمد زكي (1894- 1975)، ومحمد فريد أبو حديد (1893- 1967)، ومحمد شفيق غربال (1894- 1961)، ومحمد بدران (1894- 1960).
أستاذيته بمدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم
عقب تخرجه عمل الأستاذ عبد الحميد العبادي مدرسا بالتعليم الثانوي في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا (1914 ـ 1920). واختير مدرسا للتاريخ الإسلامي بمدرسة القضاء الشرعي (1920)، وتتلمذ عليه فيها عدد ممن تولوا قيادة الفكر في مصر بعد هذا منهم الدكتور عبد الوهاب عزام، والأستاذ أمين الخولي.
وكذلك عمل الأستاذ عبد الحميد العبادي مدرسا للتاريخ الإسلامي في دار العلوم.
انتقاله للجامعة المصرية
وعند افتتاح الجامعة المصرية (1925) انتقل الأستاذ عبد الحميد العبادي إليها، وأصبح بهذا من أوائل أساتذة التاريخ في الجامعة المصرية.
في قسم التخصص العالي بالأزهر
انتدب الأستاذ عبد الحميد العبادي لتدريس التاريخ الإسلامي في قسم التخصص العالي بالأزهر (الدراسات العليا لأعلى شهادة أزهرية) عند إنشاء هذا القسم في عهد الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي.
دوره في تأسيس جامعة الإسكندرية
عند إنشاء جامعة الإسكندرية كان الأستاذ عبد الحميد العبادي من الذين انتقلوا إليها (1942)، وتولى تأسيس وعمادة كلية الآداب فيها، وقد ظل يعمل في جامعة الإسكندرية حتى بلغ سن التقاعد (1952)، وهو الذي أشرف على أول رسالة نالت الماجستير في الكلية الجديدة (1945)، وعلى أول رسالة نالت الدكتوراه (1948)، وعمل بعد ذلك (منذ 1952) أستاذا بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية حتى وفاته.
أستاذيته في دار المعلمين العليا ببغداد
وفي أثناء حياته الأكاديمية اختير الأستاذ عبد الحميد العبادي أستاذا منتدبا في دار المعلمين العليا ببغداد.
زيارته المثمرة لمكتبات إسطنبول وإسبانيا
ندب الأستاذ عبد الحميد العبادي مع الأستاذين أحمد أمين وعبد الوهاب عزام في بعثة علمية إلي إسطنبول لاختيار بعض نفائس الكتب، وقد فتحت لهذه البعثة الأقباء التي قبرت فيها الكتب الإسلامية، ونشروا منها آثارا عظيمة القيمة.
أدخل دراسة تاريخ الأندلس في الجامعات المصرية
كان الأستاذ العبادي أول مَنْ أدخل دراسة تاريخ المغرب والأندلس في الجامعات المصرية. وقد زار إسبانيا لدراسة الآثار الأندلسية.
لجنة التأليف والترجمة والنشر
كان الأستاذ العبادي عضوا مؤسسا وبارزا في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وقد أسهم في نشاطها الفكري بعدد من الكتب من مطبوعات هذه اللجنة، في مقدمتها كتاب “علم التاريخ” ولما صدرت مجلة “الثقافة” عن هذه اللجنة كان من الطبيعي أن يكون من كُتابها.
انتخابه عضوا في مجامع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق
انتخب الأستاذ عبد الحميد العبادي عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية (1951) وكان من أوائل الأعضاء المنتخبين في هذا المجمع، وقد فاز بثقة عالية، وشغل الكرسي الـ28 خلفا للدكتور محمد شرف أول من شغل هذا الكرسي.
قدرته على إدراك عناصر الصراع ومشكلة السرد التاريخي
عُرف الأستاذ عبد الحميد العبادي بطريقته الخاصة في “مشكلة السرد التاريخي” أي تحويل المادة التاريخية إلى مواقف وقضايا ومشكلات يعرضها على طلابه، ويناقشها ويحاورها، ويقدم ما يمكن أن تحتمله، وما لا يمكن أن تحتمله من تفسيرات، وفي أثناء ذلك كان يتخذ من الأحداث والظروف والتفاصيل شواهد على التفسير الذي يستقر عليه، وكانت خلاصة التاريخ في رأيه: تطور مجتمع، وظروف، ولحظات تاريخية حاسمة، يكسب مَنْ ينتهزها، ويخسر مَنْ يتقاعس عنها.
مزاياه النفسية والعقلية
كان الأستاذ عبد الحميد العبادي يجمع إلى قوة النقد وطرافة الاستنباط، فطرة سليمة ذات فضول علمي جعلته يسعى إلى فهم كل شيء، كما كان يتمتع بقدرة ممتازة على فهم النصوص، وإدراك أساليب اللغة، وفهم معانيها، وكان واسع المعرفة، دقيق الفهم، متمرسا بالنحو، كثير الرواية للشعر، والمأثور.
مدرسته الأكاديمية
أسس الأستاذ عبد الحميد العبادي للتاريخ الإسلامي مدرسة متميزة في الجامعات المصرية وكان من القائلين إن التاريخ ينبغي أن تتصل دراسته بالأدب والشريعة، وبموجات الحياة العربية والإسلامية، وبواعث هذه الموجات من عقيدة ورأي وأدب.
وقد قيل إن العبادي عرف بإنتاجه الفكري الأكبر والأهم من التأليف، وهو ذلك الإنتاج غير المباشر الذي تركه في نفوس تلاميذه ومدرسته التاريخية من بعده. وقد كان من حسن حظ علم التاريخ الإسلامي في جامعاتنا المصرية أن تجسدت في العبادي شخصية المؤرخ القادر على معالجة علم التاريخ مع غرامه بالكتب والشعر واللغة، ومن استكمال ثقافته بدراسة القانون وحصوله على ليسانس الحقوق.
أبرز تلاميذه
وقد تأثر به تأثرا مباشرا عدد من أساتذة التاريخ الإسلامي في جامعاتنا، الدكاترة: محمد مصطفى زيادة (1900-1968)، وجمال الدين الشيال (1911-1967) (وهو أبرز تلاميذه)، ومحمد عبد الهادي شعيرة، وإبراهيم أحمد العدوي. ومن الجدير بالذكر أن ابنه العلامة الدكتور مصطفى، وابن أخيه الأستاذ الدكتور أحمد مختار أصبحا من كبار أساتذة التاريخ في العالم العربي.
حديث الدكتور زيادة عن أستاذيته
ضمّن الدكتور محمد مصطفى زيادة مقدمة كتاب “الدولة الإسلامية.. تاريخها وحضارتها” حديثا مستفيضا عن أستاذية العبادي لجيله من المؤرخين.
شهادة الدكتور الشيال عن أثره في علم التاريخ
تحدث الدكتور جمال الدين الشيال عن أثر أستاذه العبادي في علم التاريخ فقال: “لقد كان التاريخ الإسلامي قبله (أي قبل العبادي) رواية تروى، أو قصيدة تحكى، أو نكتة تقال، أو بيتا من الشعر ينشد، وكان العبادي أول مَنْ ارتفع به إلى مرتبة العلم، فجعله فكرة تمحص، وتحليلا، ونقدا ومقارنة، ودراسة دقيقة على أسس ومذاهب علمية ثابتة، فإذا كان في مصر اليوم مَنْ يفهم التاريخ الإسلامي حق فهمه، ومَنْ يجيد بحثه ودراسته، فإن الفضل الأكبر في هذا إنما يرجع إلى العبادي وطريقته وجهوده”.