الشيخ محمد رشيد رضا (1865 ـ 1935) اسم كبير في تاريخ النهضة الإسلامية، وفي تاريخ حركة الإصلاح التي قادها الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده 1849- 1905، وهو في المقام الأسمى لإنتاجه مفسر متميز وموفق للقرآن الكريم، كما أنه كاتب مقال وتاريخ وأدب وإصلاح وصحافة، وهو أبرز مؤسسي ما يمكن تسميته بالدوريات الموسوعية أو الموسوعات الدورية أي المجلات الموسوعية التي تتكون من بعض موادها المسلسلة أعمال موسوعية مكتملة الطابع، وهو بعض ما أنجزه من خلال أعداد مجلة المنار التي عاشت سنوات طويلة (1898 ـ 1935)، والتي كان لها دورها المرموق في النهضة الإسلامية في العصر الحديث، وقد غطى مجده القاهري على أمجاده العليا في لبنان و سوريا.
عاش الشيخ محمد رشيد رضا سبعين عاما نصفها في القرن التاسع عشر ونصفها في القرن العشرين ويشترك في هذه الخضرمة مع أمير الشعراء أحمد شوقي 1868-1932 ومع مصطفى لطفي المنفلوطي 1876- 1924 ومع أحمد شفيق باشا 1860- 1940 وإلى حد معا مع أحمد تيمور باشا 1871- 1930. ولد الشيخ في 18 أكتوبر سنة 1865 بالقلمون التابعة لطرابلس الشام، ونشأ فيها، وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وتنسك في صباه، كما نظم الشعر.
تخرجه في المدرسة الوطنية الإسلامية في طرابلس
أتم الشيخ محمد رشيد رضا دراسته وتعليمه العالي في أكبر مدرسة للدراسات الإسلامية في الإقليم الذي عاش فيه، وهي المدرسة الوطنية الإسلامية في طرابلس. وكان شيخ هذه المدرسة في ذلك الوقت هو الشيخ حسين الجسر 1845-1909 وهو كما يلاحظ القارئ معاصر تماما للأستاذ الامام محمد عبده، و كان من الطبيعي أن ينتقل محمد رشيد رضا من مدرسة صغيرة إلى مدرسة كبيرة، ومن عاصمة متميزة إلى عاصمة أكبر، ومن مكانة إلى مكانة أعلى، ومن ميدان للنجاح إلى ميدان أكبر للنجاح، وعلى سبيل المثال فإنه رأس وهو لا يزال في وطنه الأول صحيفة شامية تسمى (ثمرات الفنون) لصاحبها عبد القادر القباني 1855-1935 بيد أن مدى الحرية والفكر في بيروت كان أصغر من آماله.
السبب المباشر الذي حثه على الإسراع بلقاء الأستاذ الإمام
كان الشيخ محمد رشيد رضا قد اتصل بالإمام الشيخ محمد عبده، وهو في بيروت ، ثم وفد إلي مصر (1898) ، وأصبح تلميذا وفيا له، وتلقى عنه رسالته بأبعادها الثلاثة: الدعوة إلي تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين علي طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والدعوة إلى إصلاح أساليب اللغة العربية في الكتابة والحديث على حد سواء. من الطريف أن السبب المباشر الذي دفع محمد رشيد رضا إلى الإسراع بلقاء الأستاذ الإمام محمد عبده كان هو وفاة جمال الدين الأفغاني، فرأى أن يدرك من بقي ممن كان يتمنى التلمذة عليهم.
أبرز العوامل التي شكلت وعيه الفكري
إذا ما أردنا الحديث عن أبرز العوامل التي شكلت وعي محمد رشيد رضا فإننا نستطيع ان نقول باختصار شديد، إنه نشأ على طاعة الله وعلى حب العلم وعلى حب الاطلاع، وكان من الذين تأثروا بقراءة الإمام الغزالي فساعدتهم هذه القراءة على النجاة من المُضي في الطرق الفلسفية المفتوحة على الفراغ وربما على التيه، ثم صادفته أعداد أو صفحات من مجلة العروة الوثقى فرأى أن الإصلاح الذي ينشده كلّ وطني متحمس يمكن أن يتم من خلال الإسلام وتراثه وعباراته ومراجعه ومصادره، وفهم أن هناك طريقاً أصيلاً للإصلاح يملك هو بحكم ثقافته الدينية المحافظة كثيراً من أدواته، بل يملك القدرة على العمل به وعلى العمل من أجله.
لا يمكن لنا أن نتغافل عن إشارة مهمة إلى أن قطاعا عريضا من الكتابات المعاصرة عن الأستاذ الإمام محمد عبده 1849 ـ 1905 أصبحت تتعمّد القفز على دور الأستاذ محمد رشيد رضا في نشر فكر هذا الإمام العظيم، وهي ظاهرة لا تحتاج إلى إثبات، كما أنها تبدو للمتابعين بغير حاجة إلى بذل الجهد في التعليل، فببساطة شديدة وصراحة ووضوح فإن السبب في هذا يعود إلى أن السيد محمد رشيد رضا قد ارتبط برموز إحدى السلطات العربية ارتباطاً وثيقاً في السنوات الأخيرة من عمره، مع ما استتبعه هذا الارتباط من تلوين النظرة إليه سواء من مؤيدي هذه السلطة او من أصحاب الخصومة معها، أو من الجيل الجديد ممن اصبحوا يريدون التخلص من التزاماتها أو ارتباطاتها السابقة وما تستدعيه من استحقاقات.
من الانصاف أن نقول إن هذا الارتباط لم يكن إلا أمرا شبه عادي يمثل مرحلة من مراحل نشاطه السياسي، ومن العجيب أن بدايات الجانب السياسي في حياته أصبح غير معروف، بل أصبح مجهولا تماما.
عودته الأولى إلى دمشق
بعد عشر سنوات من هجرته إلى القاهرة، عاد الشيخ محمد رشيد رضا إلى دمشق (1908) عقب إعلان الدستور العثماني، الذي كان تمهيدا غير متوقع للانقلاب العسكري في 1909 لكنه لم يلبث أن رجع إلي مصر.
عاد الشيخ محمد رشيد رضا إلي القاهرة وأنشأ مدرسة الدعوة والإرشاد، ونجح منذ ذلك الحين في أن يؤسس بالثقافة الدينية المحافظة جيلا من العلماء حذوا حذوه، وقد رحل إلي الهند والحجاز، واتصل بالحكومة الهاشمية في الحجاز، وطاف ببعض بلاد أوربا.
عودته الثانية إلى دمشق وانتخابه رئيسا للمؤتمر السوري
ارتبطت هذه العودة بقيام المملكة السورية 1920، وتولي الملك فيصل بن الحسين 1883-1933 الحكم في سوريا، فقد كان رشيد رضا نفسه من المجاهدين لتحرير الشام في دولة واحدة هي سوريا الكبرى، وانتُخب هو نفسه رئيسا للمؤتمر السوري في 1920 الذي كان بمثابة استنساخ ثقافي لفكرة الكونغرس الأمريكي. وإذن فإن رشيد رضا يملك في تاريخه أنه كان أول من انتخب ليكون بمثابة السياسي السوري الأول، وكأنه كان متهيئا لأن يكون واحدا ممن يناظرون أبرز الآباء المؤسسين في حالة الولايات المتحدة الأمريكية.
رهانه السياسي لم ينل الفوز
لكن التجربة العربية في سوريا تعرضت للطغيان الفرنسي وواجهت القهر والتآمر الذي لم يسمح لها بالاستمرار في الحياة ولا في النمو، وهكذا فإنه اضطر لمغادرة دمشق (1920) علي إثر دخول جيوش الفرنسيين بالجبروت العسكري إليها.
فضله في تفسير المنار
كان محمد رشيد رضا هو من ألح على الأستاذ الإمام محمد عبده في كتابة تفسير عصري للقرآن الكريم، ثم كان هو من جمع دروس الشيخ محمد عبده وسجلها وأضاف إليها وعرضها على الأستاذ الإمام فراجعها وأقرّها ثم نشرها في المنار، وفيما بعد وفاة الأستاذ الإمام استكمل محمد رشيد رضا العمل بنجاح حتى كان من فضل الله عليه أنه وصل إلى تفسير قوله تعالى في سورة يوسف: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
كان له مجده الخاص بعيداً عن تلمذته للأستاذ الإمام
ننطلق بعد إثباتنا لهذه الحقيقة إلى إشارة أكثر أهمية وهي أن محمد رشيد رضا كان له مجده الخاص بعيداً عن تلمذته المخلصة للأستاذ الإمام، بل إننا سنفاجئ القارئ ونُثبت ما أشار إليه الدكتور محمد رجب البيومي بإنصافه المعروف [وهو أصلا أستاذ في الأدب والتفسير البياني للقران الكريم ] من أن محمد رشيد رضا تفوق على أستاذه الإمام محمد عبده فيما أنجزه من تفسير القرآن الكريم المسمى بتفسير المنار.
ذكاء الأستاذ الإمام في الحفاظ على محمد رشيد رضا
طلب الخديو عباس حلمي 1874- 1944 من الأستاذ الإمام عبر صديقهما المشترك الشيخ محمد شاكر 1866- 1939 أن يقصي عنه محمد رشيد رضا، فقال الأستاذ الإمام للشيخ شاكر قولته المشهورة : “كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار عني، وهو ترجمان أفكاري”، وقال له ما يمكن تلخيصه في قوله : “إن الله سبحانه وتعالى بعث لي بهذا الشاب ليكون مدداً لحياتي ومزيداً من عمري، إن في نفسي أموراً كثيرة أريد أن أقولها وأكتبها، وهو يقوم ببيانها كما أعتقد وأريد، فهو قد أنشأ لي أحباباً وأوجد لي تلاميذ وأصحابا”.
أثر تشارلس آدامز في تقييم الغربيين لمحمد رشيد رضا
نبدأ فنشير إلى أنه في بعض الأحيان [ وهي غير نادرة] تصل الرؤية المكتملة التي يقدمها كتاب (أو رسالة من رسائل الدكتوراه أو الماجستير ) إلى حد أن يصبح هذا الكتاب (أو الرسالة) بمثابة المرجع المعتمد الذي يقدم رؤية متزنة لموضوعه، بحيث يصعب [أو يستحيل] القفز على ما قدمه ذلك الكتاب المرجع، وإن كان من الممكن الإضافة إليه، وفي حالتنا فإن المستشرق الأمريكي تشارلس آدامز 1883- 1948 اكتسب صفة المستشرق الكبير بفضل كتابه [شبه الوحيد، بل الوحيد] عن “الإسلام والتجديد في مصر” الذي ألفه عن الأستاذ الإمام محمد عبده، والكتاب نفسه هو رسالته الجامعية، وفي الحقيقة فإن كل الذين كتبوا في الموضوعات التي تناولها الكتاب نقلوا عنه، بل إن بعضهم لم يفعل إلا النقل عنه .
وقد كان من حسن حظ السيد محمد رشيد رضا أن تشارلس آدامز اعتمد منهجاً ذكيا خصص فيه فصلين من كتابه للحديث عن جمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا وهكذا أصبح الحديث عن الإسلام والتجديد أو الإسلام في العصر الحديث مرتبطا كلّ الارتباط بهذه النظرية التي اعتمدت الحديث عن الروافد والثمار على هذين النحوين الفرديين.