الرئيسية / المكتبة الصحفية / أحمد لطفي السيد

أحمد لطفي السيد

السيد الأستاذ الدكتور رئيس الجمعية الإسلامية

السادة الزملاء

الضيوف الكبار

يمتاز أحمد لطفي السيد عن أقرانه جميعًا بمكانة الأستاذ الأول، فقد حرك الفكر الوطني في اتجاهات كثيرة محددة، وظل يرعي التوجهات التي دعا إليها، في هدوء شديد كان مرجعه في الغالب ثقة شديدة في النفس وفي الأفكار التي دعا إليها؛ وقد اتضحت قيمة أفكار لطفي السيد وقيمة معالجته لها عندما توالت موجات من الفكر علي الحياة الفكرية المصرية، الحديثة والمعاصرة، ولكنها مع ما لقيت من ذيوع وانتشار وترحيب وحماس، لم تلق ما لقيته أفكار أستاذ الجيل من صمود للزمن ولعوامل التعرية علي حد تعبير علماء الطبيعة، ومن ثم بقيت للطفي السيد، مكانته علي مدي القرن العشرين كله.

ولعل أبرز ما كان من عوامل الخلود في فكر أحمد لطفي السيد، أنه لم يؤسس توجهاته علي أن يكون خصيمًا لأحد، وهكذا لم يحصر نفسه في أن يكون مجرد مضاد لاتجاه أو يكون بمثابة ترياق من اتجاه آخر، ومن ثم فإنه ظل موجودًا حتي بعد انتهاء العهود التي ازدهر فيه فكر مخالفيه.

ولست في حاجة إلي أن أضرب أمثلة علي أن صاحب الذكري لم يكن خصيمًا لأحد علي وجه التحديد، ولكني أستطيع أن أنتزع من حضراتكم، شبه موافقة علي هذا المعني حتي وإن كان هناك تحفظ علي جزئية أو أخري، ولكن مثل هذا التحفظ فيما أظن لا يغير من الحقيقة الكبري في هذا الموقف.

**

أساتذتي الأجلاء

نأتي بعد هذا إلي خاصة مهمة في فكر أحمد لطفي السيد، وهي إيمانه بفعل الزمن، ولعلي أزعم أنه لم يكن هناك من معاصري أستاذ الجيل واللاحقين به، من آمن مثله عن يقين بتأثير الزمن، ولعلي أزعم أيضًا أنه لم يكن هناك من معاصري أستاذ الجيل واللاحقين به، من آمن مثله بتأثير الزمن كما آمن هو، ولربما كان العمر الطويل الذي منحه ا&# مكافأة منه سبحانه وتعالي علي إيمانه بدور الزمن.

ونحن جميعًا نعترف بالزمن، بدرجة أو بأخري، وإن كان بعضنا يكابر أو يحاول أن يكابر، ولكننا لا نؤمن به علي نحو ما آمن لطفي السيد، ولو أننا آمنا به علي نحو ما آمن، لأسقطنا من تعبيراتنا وصياغاتنا كل الجمل التي تقول بالحتمية وبالضرورة الزمنية، ولأسقطنا من أوصافنا كل ما يعبر عن الظن بأن الفترة التي نعيشها هي بمثابة أحلك الفترات أو أمجدها أو أحفلها بالتحول التاريخي. وهي تعبيرات درجنا علي استعمالها حتي فقدت كل ما فيها من معني، ولو أننا نهلنا من لطفي السيد حقيقة، لأدركنا أننا جميعًا لسنا إلا حلقات من حلقات ممتدة قبلنا وبعدنا، وأن التطور سائر وصائر إلي الأفضل بكل تأكيد، وقد كان لطفي السيد يؤكد رغم استنكار مستمعيه أن الأجيال تمضي إلي الأفضل، وأن الجيل الحالي أفضل من الذي سبقه، وأن الجيل التالي سيكون حتمًا أفضل من الحالي.. ومع أنه كان في وسع أستاذنا لطفي السيد أن يؤسس من أقواله هذه مذهبًا أو نظرية في ارتقاء الجنس البشري بفعل الزمن، إلا أنه ـ وهذا مكمن من مكامن عظمته ـ آثر أن يترك نظراته علي أنها أقوال مرسلة فحسب.

**

من ناحية ثالثة فإن أحمد لطفي السيد لم يعن أبدًا بالتدوين، وظني أنه كان حريصًا علي المرونة الفكرية التي لابد وأن تفقد بعض خصائصها، بل بعض هويتها عندما يصبح هناك نص واضح مقيد وملزم، لأنه مكتوب ومحدد ومؤطر، ويصبح ما عداه بالتالي خارجًا عن الإطار الفكري لصاحبه.

كأني بأستاذ الجيل كان يستشرف تجارب الإنسانية كلها، ولهذا آثر أن تأخذ أستاذيته طريقها إلي تلاميذه عن طريق التشرب والامتصاص، وأن يكون في سلوكه وأدائه وتعليقاته بمثابة الإشعاع، محققًا بهذا صورة عصرية من صور القدوة، ومحققًا أيضًا صورة جديدة من صور «القطب»، وظني أنه في تحقيقه لهذه الصورة ولتلك كان نموذجًا للتجسيد الذي يتمتع بخفة الظل.. ويستبدلها بصورة التجسيد كثيف الوجود.. وظني أيضًا أن الرجل قد نجح في هذا التجسيد نجاحًا منقطع النظير.

من ناحية رابعة فإن أحمد لطفي السيد كان يؤمن بأن في الامكان تحقيق الأهداف النبيلة دون إعلان للحرب، وقد نجح من خلال إدارته للجامعة في فرض كثير من مظاهر الروح الليبرالية علي الحياة العقلية في مصر دون أن ينتبه أعداء الليبرالية لنار المعرفة التي جعلها تسري بهدوء في هشيم متراكم من عصور سادتها جهالات لم تجد من يطهر منها الفكر المصري الحديث (برافديه الإسلامي والإنساني، وهما بريئان مما تراكم بفعل الزمن) وعندي أن هذا الجهد الحثيث الذي بذله أحمد لطفي السيد في هذا الصدد سيظل أخلد أعماله علي الرغم مما حدث من طغيان اتجاهات شمولية قاتلة بدأت منذ أواخر عهد الملكية واستمرت طيلة عهد الثورة..

ولست أحب أن أفيض في ذكر كثير من الأمثلة لتوجهات أحمد لطفي السيد الحكيمة في إدارته الجامعة ولكن يكفيني من هذا أن أشير مجرد إشارة إلي أسلوبه الهادئ في قبول الفتيات في الجامعة.

**

أساتذتي الأجلاء

أوتي أحمد لطفي السيد حظًا  لم يؤته غيره في اختيار تلاميذه ومريديه، ولست أحب أن أكرر علي أسماعكم أنه كان أستاذًا مباشرًا أو شبه مباشر لكل من تعرفون من كل قمم الحياة السياسية والأدبية والفكرية والفلسفية والصحفية المعاصرين له والتالين، ولكني سأذكر لكم أمرًا آخر وهو أنه كان يصطفي ويحتضن من أساتذة العلوم الطبيعية والطبية أسماء أثبت الزمن مدي قيمتها الفكرية علي مدي العقود التالية، ومن العجيب أيصًا أنه قدمهم للمجتمع الارستقراطي في مصر في مرحلة مبكرة من عمرهم، بل وزكاهم لعضوية المجامع اللغوية والعلمية والفكرية، وهكذا كرس  لطفي السيد أستاذيته الحقيقة للجيل.

وليس أدل علي ذلك من أن نذكر أنه كان من أبرز مريديه كل من : المفكر المصري الكبير محمد كامل حسين جراح العظام الكبير والمدير الأول لجامعة عين شمس، والعالم الكبير العظيم أحمد زكي مدير جامعة القاهرة ومؤسس ورئيس تحرير مجلة العربي، وعالم النبات الأشهر عبدالحليم منتصر نقيب العلميين ومؤسس جامعة الكويت، وقبل هؤلاء جميعًا فقد كان وكيله في الجامعة المصرية هو عميد الطب العظيم علي باشا إبراهيم، وكذلك كان عميد العلوم العظيم علي مصطفي مشرفة باشا.

ولن أفيض في ذكر أسماء كثيرة من طراز هؤلاء، ولكني أظن أن هذه العينة تكفيكم للدلالة علي القيمة الفكرية لهذا الأستاذ الذي كان رأسًا ورئيسًا حقيقيًا للجامعة، بكل ما تعنيه الجامعة من معارف، وأنا أقول هذا وفي ذهني ما حدث في مؤتمر ضخم اجتمع وانعقد في القاهرة منذ أسابيع قليلة وجمع مئات من السيدات والرجال من العالم العربي كله، ولكنه، أي المؤتمر، ظن أن إنجاز المرأة لا يتعدي حقول الأدب والاجتماع، علي حين أن المرأة المصرية قد أنجزت بفضل لطفي السيد في الطب والتمريض والعلوم والهندسة والاقتصاد أكثر وأعظم مما أنجزته في أدب يري كثيرون أنه لا يزال في مراحله الأولي ولا يزال في مجمله مشكوكًا في قيمته.. وقد بقيت أعاود النظر في هذا الذي رأيت من إنحياز سافر وغير مبرر إلي جانب من المعرفة والسلوك الإنساني وأنا أتعجب لما أري ولا أستطيع أن أبتسم، وعندئذ اتضحت لي قيمة لطفي السيد مكبرة مضخمة حين رأيت الذين يظنون أنفسهم أحاطوا علمًا وقد انعزلوا في مجالات ضيقة.. وعجبت كيف كان لطفي السيد منذ تسعين عامًا أرحب فكرًا، وأحد نظرًا، وأذكي قريحة.. ولهذا ظل دوره الفكري حتي هذا اليوم شاغرًا لأن أحدًا من الذين جاءوا من بعده، لم يؤمن بالمعرفة والعقل كما آمن، ولم يتيقن منهما كما تيقن لطفي السيد.

فما بالنا وقد أضاف لطفي السيد إلي إيمانه بالمعرفة وبالعقل إيمانًا آخر بالزمن، وما بالنا ولطفي السيد كان قبل هذا كله تعبيرًا حيًا عن إنسان عظيم ارتسم في ملامحه كل ما يدل علي أنه سليل حضارة عظيمة أعطت للإنسان من قيمة ما لم تعطه حضارة أخري !!

أساتذتي الأجلاء

يدعوني الموقف إلي حديث سريع عن أسلوب لطفي السيد حين كتب مذكراته وهو في مرحلة متقدمة من العمر، والواقع أن مذكرات لطفي السيد تبدو عجيبة إلي حد بعيد، وربما تبدو عسيرة الفهم في إطارها العام، ذلك أنها لا تعبر عن حياة عريضة إلا بلمحات خاطفة، كما أنها لمحات خالية من جرأة متوقعة، لكننا لا نستطيع أن نفهمها إلا علي نحو ما ألفت، أو كوّنت.. وقد كونها كاتبها (أيًا من كان) باقتدار شديد من موضوعات كتبها صاحب الحياة قبل هذا، ولم يبخل عليها الكاتب ببعض فقرات ربط تلقي الضوء علي المراحل المختلفة من حياة صاحبها.

وربما يصدق علي مذكرات لطفي السيد التي نشرتها دار الهلال القول القائل بأن بعض أصحاب المذكرات لم يكتب من أجلها أكثر من عشر صفحات علي أكثر تقدير، واستعان بأرشيف مقالاته القديمة ليكمل بها المذكرات.. وعلي الرغم من هذا الطابع الواضح في بنية المذكرات فإن المذكرات تبدو متكاملة ومتماسكة ومعبرة عن مجمل حياة الرجل، وإن كان الرجل في تصورنا أكبر بكثير جدًا من هذه المذكرات، وإن كانت حياته أيضًا أكبر بكثير جدًا من هذه المذكرات.

لكني مع هذا أحب أن أشير إلي أن هذه المذكرات تتميز بكثرة الشخصيات التي أفرد صاحبها صفحات خاصة للحديث عنها، ومن هؤلاء: الخديو عباس حلمي، وحسن عاصم، ومصطفي كامل، وقاسم أمين، وأحمد عرابي، وسعد زغلول، وتولستوي.

وعلي الرغم من أن حديث لطفي السيد عن هذه الشخصيات مختصر إلي أبعد حدود الاختصار، فإنه ليس مبتسرًا بل إنه يصل إلي قمة التوفيق بوصوله مباشرة إلي الجوهر الذي يريد أن يتحدث عن الشخصية من خلاله، وهو يفعل هذا دون أن يلجأ إلي نظريات جميلة من قبيل نظرية «مفتاح الشخصية» ودون أن ينتصر لرؤيته الشخصية أو السياسية علي الوقائع التي أمامه، بل إنه يظل في تصويره للآخرين أقرب ما يكون إلي المريد الذي يريد أن يتعلم، ومع هذا فإنه يفرض في سهولة ويسر أستاذيته وقدراته النقدية بكل ثقة وتمكن، وهو لا يجهد نفسه في هذا السبيل، وإنما يتصرف بأقصي قدر ممكن من هدوء النفس، وهدوء البال، وراحة الضمير.

**

ولعل أفضل ما أختم به حديثي هو أن أشير إلي أن أحمد لطفي السيد كان أكبر من مناصبيه وأكبر من خطوات تاريخه ومن معارك هذا التاريخ وهي سمة لا تتأتي إلا للعظماء، ونحن نعرف علي سبيل المثال أن أحمد لطفي السيد شارك في الحركة الوطنية مع مصطفي كامل باشا، وشارك في تأسيس حزب الأمة، وفي إصدار الجريدة عام 1907 وحتي 1917.

ونعرف كذلك أنه لقي معارضة شديدة لبعض آرائه وإتهم في دينه وخلقه، لكنه صمد لهذه الاتهامات العابرة ولم ينفعل بها وحافظ علي الدوام علي ثقته بنفسه.

ونعرف كذلك أنه عمل مديرًا لدار الكتب، ورئيسًا للجامعة كما انتخب رئيسًا لمجمع اللغة العربية منذ 1945 وحتي وفاته في 1963، ونعرف أيضًا أنه قد عرضت عليه رئاسة الجمهورية بعد قيام الثورة فاعتذر.

وعلي الرغم من وجود لطفي السيد المبكر في الحياة العامة فإن أول منصب وزاري تولاه كان في عام 1928 وقد كان آخر منصب وزاري تولاه في 1946. ومع هذا فقد ظلت مكانته المتقدمة في السياسة المصرية ملحوظة منذ بداية القرن وحتي ما بعد قيام الثورة.

 

من كتاب “كيف أصبحوا عظماء”، مؤلفات الدكتور محمد الجوادي، الطبعة ٢ الهئة المصرية العامة للكتاب 2008

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com