عرف عصر الرئيس جمال عبد الناصر على أنه عصر التقارير السرية، وكان السبب الرئيسي في إضفاء هذا الطابع على ذلك العصر أن الرئيس نفسه كان مُغرماً بمتابعة هذه التقارير، ومع أن كيان التقارير تضخم حتى أصبح أكثر من 90% منه بلا جدوى حقيقية ولا مفيدة للرئيس فإن الآلية كانت قد فرضت نفسها وبطريقة عملية أو بحكم الامر الواقعي فلم يعد الحصول على ما هو أقل من 10% من المهم والخطر والمستحق للقراءة ممكنا إلا من خلال التقليب في الكتلة الضخمة التي تضم ما هو أكثر من 90% من الغث والهراء.
وإذا أردنا بداية إيجابية تدافع عن فكرة التقارير وعن أهميتها فإننا نستطيع أن نقول إن بعض هذه التقارير كان يتعلق بأمور مشروعة بل واجبة ، أو أنها كانت من قبيل استطلاعات الرأي، لكننا نعرف أن لاستطلاعات الرأي أيضاً قواعدها وضوابطها ، وأن تقارير استطلاعات الرأي إذا افتقدت للقواعد والضوابط فإنها تتحول تلقائيا إلى خناجر يُصوبها صاحبها إلى من يكرههم، أو ربما تتحول إلى سوائل “مشحمة” أو “ملينة” أو بالتعبير الدارج عند التكنولوجيين “مزيتة” تيسر الحركة (لمن تُعني بهم أو تلمعهم) و تسهل لهم الدوران في النظام والصعود في مدارجه.
الوقوع في أسر التشريب الخارجي
كذلك فإننا لا نستطيع أن نغفل أن بعض هذه التقارير كانت تكّمل الصورة المتاحة في علاقاتنا الخارجية من خلال الاتصال المباشر بغير المصريين ، لكننا نجد أنفسنا أيضاً نواجه بحقيقة خطرة وهي أن استقاء المعلومات عن الخارج من الخارج نفسه (أيا ما كان وضعه ) يقتضي إحاطة من درجة جيدة جدا و لا نقول ممتازة بالخارج، وإلا تحولت عملية الاستقصاء إلى عملية [تشرب] لما يريد أن يسقيه لنا الخارج أو على أقصى تقدير[استحضار] للمشروب الذي يجهزه لنا من أجل مصالحه هو، ومن العجيب أن الأغلب الأعم من تقارير عصر الرئيس جمال عبد الناصر قد وقعت في هذا المأزق من حيث لا تدري ، وبخاصة مع الجبهات المعادية حتى إن أصدق وصف لها كان أنها ترقص على أنغام العدو.
لماذا كان التنبؤ ضعيفا
البعد الثالث في التقارير يتعلق بالتنبؤ، ومن المؤسف أنه كان ينبني أيضا على الرؤى النفسية القاصرة وعلى التوقع البسيط للاستجابات الشرطية التي ليست بحاجة إلى تقارير، لكن ذكاء البيروقراطية المتمرسة بالسلطة والتسلط (حتى على الزعيم نفسه) كان يكمن في أنها تلجأ إلى التقارير لدعم رؤيتها المناهضة للتطوير أو المناوئة لإعادة الحق إلى صاحبه.. وهكذا وقعت التقارير من حيث لا تدري في قصور الرؤية بعيدا عما يتيحه العقل من آفاق التفكير و ما تتيحه الخبرة من آفاق البدائل والتجارب.
عصر التقارير السرية وأزمة القيم
ربما كان البعد الأكثر اتصالا بالحياة السياسية في تجربة عصر التقارير التي تميز بها عهد الرئيس جمال عبد الناصر هو البعد المتعلق بالقيمة من حيث هي معنى محدد له تقييم و تقوم ، وهذا البعد أقرب ما يكون إلى ما نعرفه في الأدب على أنه نقد، وفي الفن أيضا على أنه نقد ، وفي التاريخ على أنه تحقيق ودراسة، وفي الطب على أنه مناظرة قائمة على مزج الخبرة بالتحليل ، وفي أمور الاقتصاد على أنه تطبيق أو دراسة للمعدلات من أجل قياسات تنبؤية .
وربما نبدأ الحديث في هذه الجزئية بداية إبستمولوجية الطابع ، فنقول إن النقد (على وجه العموم) يمثل ضرورة لازدهار الأدب ، وأنه لولا النقد ما عُرف الأدب الحق، وليس معنى هذا أن الأدب ينتظر النقد لينشأ، ولكنه ينتظر النقد ليُعرف، وهنا فإن التعريف “البيولوجي” للنقد لا يقف عند حدود النصوص التي يكتبها النقاد الهواة أو المحترفون، ولا يقف عند حدود النقد الذي يضمه كتاب أو مقال لكنه يتسع ليشمل آراء المتلقي (القارئ أو المشاهد) العادي، فمن مجموع هذه الآراء الانطباعية للمتلقين العاديين ينشأ رأي نقدي عام أو رأي عام نقدي.
رؤية التاريخ الطبيعي
وننطلق من هذه النظرة البيولوجية إلى نظرة طبية ( بيولوجية و سيكولوجية أيضا) تقول إن بإمكان دارس الأدب المتمرس أن يتنبأ بكثير من عناصر رؤية النقد، بناء على ما نسميه في الطب بالتاريخ الطبيعي، ذلك أن قواعد الاستجابة والتفاعل مع الأفكار تكاد تكون في مجملها معروفة و متوقعة ، وهكذا فإننا نستطيع أن نقول مثلا عن فكرة جديدة : إن هذه الفكرة ستكون صادمة للمجتمع، أو مبهرة له ، ومن ثم فإننا نستطيع أن نتنبأ بنقدها على انه نوع من التنبؤ برد الفعل على نحو ما هو معروف في ثنائية الفعل و رد الفعل في الميكانيكا التي صاغها نيوتن في قانونه القائل بأن لكل فعل رد فعل.
كيف ساعدت التقارير على مزيد من الإغراق الناصري
في هذه الجزئية التي تناولناها لتونا فإن تقارير الرئيس جمال عبد الناصر غرقت تماما وأغرقت الرئيس نفسه معها:
فماذا تنتظر من صاحب نشأة دينية ملتزمة حين يكتب تقريراً عن انحراف خلقي؟
وماذا تنتظر ممن كان حظه أن يكون صاحب نشأة ضائعة وهو يرى زميله الداعي إلى الفضيلة وقد نجح في تكوين فريق أو تيار أو توجه؟
وماذا تنتظر من صاحب شخصية عدمية حين يرى بعض الناس وقد بدأوا يقتنعون في جدوى الحلول الجزئية، أو يصفقون لمن يمارسها؟
وهكذا كانت هذه الجزئية كفيلة بأن تعيد إنتاج الوساوس والهواجس على هيئة تقارير ، وأن تحول بعض الهواجس إلى توجهات، وأن تخلق عداوة مبكرة أو متحسبة لمعارضة ممكنة أو محتملة أو حتى طبيعية ، وأن تواصل التنكيل السلطوي بأنشطة تستحق التبجيل لا التنكيل.
ولهذا فإننا على سبيل المثال نستطيع أن نقرأ القائمة المتاحة على نطاق واسع وهي التي ضرب بها الوزير سامي شرف المثل على أهمية التقارير قراءة موضوعية دالة بعد أن نعيد ترتيب عناصرها في مجموعات متجانسة من الأهداف أو الآليات سواء في ذلك تصفية الحسابات أو الخضوع للانتماءات السابقة أو محاولات الانتقام والظهور وإثبات الولاء وما إلى هذا كله.