فقدت مصر بوفاة الأستاذ محمود عبد المنعم مراد علما من أعلام الوطنية والصحافة، ورمزا من رموز حرية الوطن والإخلاص للشعب.
كان إحساس محمود عبد المنعم مراد بالتاريخ عاليا وصادقا، لكن إحساسه بالمجتمع كان أكثر منه علوا وصدقا،
وكان إيمانه بالشعب هادرا وقويا، لكن إيمانه بالعمل كان أهدر وأقوي،
وكان حبه للتقدم متأججا، لكن إيمانه بالارتقاء كان أكثر ظهورا من حبه للتقدم..
وهكذا تكونت في شخصيته عوامل اتزان قلَّ أن تتلاقي علي هذا النحو في شخصية عاشت وعانت، وأحبت واستعذبت، وجادت وجودت.
بدأ محمود عبد المنعم مراد حياته الصحفية بعد فترة من التقلب في وظائف التدريس والعمل الإداري، ولم يكن من الصعب عليه أن يكتشف أنه خلق للصحافة، فقد كان رجلا معنيا بالحقيقة في المقام الأول والأخير، وكان حتي أخريات حياته يبدأ زواره بالسؤال عما وراء الأخبار، وعلي الرغم من أنه كان يعرف الكثير فإنه كان يستزيد من معارف غيره، وكان يصرح بهذا مبتعدا عن التعالم وعن التخابث في الوقت نفسه.
كانت عظمته واضحة للعيان، وقد قادته إلي البساطة في التعبير والتصوير، وكان مع عنايته بوضوح الفكرة حريصا علي وضوح العبارة، ولم يكن يدور بخلده أن “يتفذلك” ولا أن “يتحذلق” . ومن الغريب أن أسلوبه ظل بعد الثمانين أقرب ما يكون إلي أسلوب أبناء الثلاثين، وقد ظل قادرا علي أن يفيض في كتابته اليومية وغير اليومية كما لا يفيض نهر النيل إلا في موسمه..
كانت الأفكار تتدافع علي قلمه، وكان يمسك بها إمساك المقتدر القادر عليها، وكان صدقه يحميه من اللجوء إلي النظريات كوسيلة للتبرير، وكأنه كان يقول في كل مقال من مقالاته إن الحقيقة المدركة أقوي من كل تصوير.
وكان منحازا للشعب في مجموعه، وللمستضعفين بلا استثناء، وكان مع هذا الانحياز متشبثا بالمستقبل، يطالب بالعمل من أجله حتي لو أن هذا العمل اقتضي التضحيات الجسام، كان من أنصار الحرية وقد دفع ثمنها عن حب وطواعية ورضا من حياته ومن حريته ومن قوته ومن راحة باله، ومع هذا فإنه كان يتفهم دواعي السياسيين والعسكريين الذين لا يؤمنون بالحرية المطلقة.
كان يراهن علي الحرية وعلي جدواها، لكنه كان يعذر الذين لا يؤمنون بها ولا بجدواها، كان يتمني لهم الهداية لكنه كان موقنا بأن هذا ضد طبائع الأشياء.
يذكر التاريخ القومي المعاصر لمحمود عبد المنعم مراد بكل إنصاف موقفه في أزمة مارس 1954 وما انطلق منه هذا الموقف الشجاع الجبار وما دلّ عليه من وطنية صادقة، وتمسك بالمبدأ ودفاع عن الديمقراطية، وتوظيف للصحافة وللكلمة من أجل الشعب ومستقبله، ويذكر التاريخ لمحمود عبد المنعم مراد أنه انحاز إلي الحق وكان انحيازه إلي الحق بقوة في الوقت الذي انحاز فيه آخرون إلي المصالح قصيرة النظر وإلي السلطة،
ويذكر التاريخ لمحمود عبد المنعم مراد أنه لم يتوقف لحظة واحدة للتفكير في اللعب علي الحبلين، ولا في المناورة، ولا في فتح الباب أمام نفسه للتراجع، كما أنه في الوقت ذاته، وكان مديرا لتحرير أكبر جريدة مصرية في ذلك الوقت، انحاز كلية إلي الرهان علي الديمقراطية علي الرغم من أن الظروف لم تكن في صف رهانه، لكنه فيما يبدو كان قد رزق التوفيق في أن يحفر لنفسه تاريخا بارزا في لوحة الشرف التي يحتفظ الوطن فيها لأبنائه المخلصين بمكانتهم مهما سبقهم إلي متاع الدنيا غيرهم من الأفاقين والعملاء وقصار النظر.
بدأ محمود عبد المنعم مراد حياته الصحفية من مكانة متقدمة أتاحتها له دراساته وتجاربه الثقافية، وقد كان (1940) من طلائع خريجي قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة حين كان التخرج في هذا القسم يدفع أبناءه إلي اقتحام مجالات الترجمة والكتابة والتأليف موظفين ما نمي فيهم من فهم جيد للغة وللكلمة والحضارة، وقدرات عالية علي التحرير والتعبير.
ويذكر تاريخنا الأدبي أن محمود عبد المنعم مراد ترجم عن الإنجليزية «الحب الأول» للكاتب الروسي تورجنيف، وقد نشرت دار الكاتب المصري التي كان طه حسين يتولي أمرها هذه الترجمة لمحمود عبد المنعم مراد في طبعة فاخرة، ومن العجيب أن هذا الرجل في ظل ظروف الاعتقال والشتات لم يكن يملك نسخة من عمله هذا مع أنه ناشر وصاحب مكتبة، وقد كان لي الشرف أن أهديه منذ سنوات نسختي من عمله هذا الرائع الذي كان ينطق بالقدرة علي التجويد كنتيجة حتمية للإخلاص للفكرة وللعمل، ومع أن سلاسل كثيرة معروفة كانت تبحث عما تنشره لمن هم أقل منه كيما تكسب أقلامهم إلا أنه بشخصه وأخلاقه لم يشأ أن يدفع بهذا الكتاب إلي أي من هؤلاء.
كان محمود عبد المنعم مراد أهل تقدير، وكان قادرا علي أن يمد يده بل روحه لكل مَنْ يستحقون التقدير والتشجيع، وقد جمع بين روح الشيوخ في حكمه علي الأمور، وروح الشباب في انفعاله بها، ولم تكن حكمته بقادرة علي أن توقف اندفاعه المتوثب نحو اليسار بكل ما يعنيه، ولا كانت اندفاعاته تحول بينه وبين إدراك الجانب الآخر من الحقيقة الذي كانت تزوده به ثقافته وتجاربه كما كانت تزوده بالقدرة علي فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.
كان من حظي أن أجلس إليه وأستمتع بصحبته، وقد اكتشفت من مدارسة تجربته الثرية وتأملها أن الحكمة أبسط من كل منطق، وأن الحب أنقي من كل عاطفة، وأن الحديث ألذ من كل متعة، ولم أكن أخرج من لقائي به إلا بشيء جديد..
ومن عجب أني ما رأيت صفاء الحقيقة وإيمانها عند أحد كما وجدته عنده، ويبدو لي أن الله سبحانه وتعالي قد مَنّ عليه من هذه النعمة بالقدر الذي جعله ينتصر علي كل ما ابتليَ به في الحياة مرة بعد أخري، سواء في ذلك فقد الأبناء أو غدر الأدعياء، لكنه فيما يبدو لي الآن كان أقوي من كل صروف الزمان.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : وشائج الفكر و السلطة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]