الأسطورة في معناها اللغوي الأصلي ، هي الشئ المكتوب ، لكن الناس يتصورون ويتداولون في حديثهم أن الأسطورة هي الشئ الذي لا يصدقه العقل ، وهم يقولون الآن إن حكم مبارك بقدراته المعروفة لمصر كان أسطورة … والحقيقة أن مبارك لم يحكم مصر بمبارك ولكنه حكمها بآخرين ، وإذا كان مبارك بمثابة أسطورة حكمت مصر ثلاثين عاماً فقد كان هناك من صنع هذه الأسطورة ، واكبر هؤلاء أثراً هو أسامة الباز الذي لازم مبارك منذ كان نائبا لرئيس الجمهورية وحتي سنوات أخيرة من حكمه.
كان أسامة الباز رجلا حاد الذكاء موفور النشاط وقد أدرك من المعرفة السياسية حداً جعله متئد الخطوة في الوقت الذي كان غيره يحب سرعة الخطو لكن حكمته غلبت نزوته منذ مرحلة مبكرة في حياة نظرائه .. وكان هذا سر استمرار لمعانه كما كان أيضاً سراً من أسرار صناعة أسطورة مبارك علي النحو الذي صنعت به وتمكنت من السيطرة علي مقدرات الحياة السياسية المصرية طيلة ثلاثين عاماً.
نشأة علمية
نشأ أسامة الباز في بيت عالم أزهري من العلماء القادرين علي فهم العلوم غير الأزهرية ، حتي إنه كان يتولي تدريس هذه العلوم في الأزهر الشريف ، كما كان بالطبع قادراً علي تدريس علوم الدين ، وعلي عادة الأساتذة الازهريين في ذلك الجيل فقد ربطته بتلاميذه علاقات وثيقة إذ العلم “كما يري الأزهريون وتعلموا ” رحم بين أهله ، وتنقل الوالد في معاهد الأزهر التي كانت محدودة الانتشار لكنها كانت موجودة في دمياط والاسكندرية والزقازيق وطنطا فضلاً عن القاهرة وأسيوط.
وترك الرجل أثراً جميلا في نفوس تلاميذه الدين كانوا ينظرون فيما بعد إلي أسامة الباز والي شقيقة فاروق علي أنهما أبناء استاذهم العزيز.
تلقي أسامة الباز تعليما مدنيا تقليديا من التعليم المتميز المتاح في عصر الليبرالية وأتيح له أن يدرس فترة تعليمه الثانوي في مدرسة دمياط الثانوية في الفترة التي شهدت حقبه من حقبها المتألقة ، وفي هذه المدرسة عرف حسب الله الكفراوي وصلاح منتصر وعبد الرءوف الريدي وغيرهم من خريجي دمياط الثانوية اللذين لمعوا في الحياة العامة فيما بعد.
من القضاء للدبلوماسية
بدأ أسامة الباز حياته الوظيفية في النيابة العامة وكان ينتظره مستقبل مرموق في سلك القضاء ، فهو منظم الفكر ، قادر علي الفهم والتخطيط والتكييف القانوني والتسبيب والترتيب والاسناد والاستشهاد، لكنه مع هذا آثر أن يرتاد آفاق العمل الدبلوماسي ثم آثر أن يستفيد من بعثة للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية ، ولمع نجمه بين طلاب البعثات حتي وصل إلي موقع متقدم في التنظيم الذي يضم هؤلاء الطلاب ، فلما أتيح له أن يعود إلي مصر آثر أن يمارس الدبلوماسية من برج عال في الخارجية علي أن يمارسها في ميدانها العملي في سفارات مصر في الخارج.
ومن الطريف أن هذا الرجل الذي أصبح لفترة طويلة بمثابة اكبر رجال وزارة الخارجية ( حصل علي درجة وكيل أول وزارة الخارجية وهو حول الاربعين ) لم يعمل سفيراً لبلاده خارج وطنه.
دوائر صناعة القرار
وفيما كان أسامة الباز يقترب من الدرجات العليا في الكادر الدبلوماسي فإنه كان يقترب أيضا من الدوائر العليا في صناعة القرار المصري وفي نهاية عهد الرئيس عبد الناصر استعان به وزير الارشاد القومي الجديد محمد حسنين هيكل كي يكون مستشاراً له في هذه الوزارة.
ومع بداية التحول السياسي في عهد السادات فإنه عاون الرجل المسئول عن الاتحاد الاشتراكي سيد مرعي ، وحين أصبح اسماعيل فهمي وزيراً للخارجية أصبح أسامة الباز مسئولا عن مكتبه ، ومشاركا له في نشاطه الدءوب من أجل السلام وهي المهمة التي واصل الاضطلاع بها حتي تمت علي يديه وعلي يدي غيره معاهدة السلام في عام 1979 .
وعندما ابتعد اسماعيل فهمي عن السادات بالاستقالة في 1977 انتقل أسامة الباز بمسئولياته ليكون مسئولا عن مكتب نائب رئيس الجمهورية حسني مبارك وهي المهمة التي ظل محتفظا بها مع احتفاظه بمسمي منصبه الدبلوماسي كوكيل أول لوزارة الخارجية وهكذا كان مسمي منصبه هو أطول مسمي حين تشير الأخبار إلي من حضروا نشاط أو اجتماع مع الرئيس حيث كان ينص علي أنه وكيل أول وزارة الخارجية ومدير مكتب الرئيس للشئون السياسية ، وقد تم حل هذه المشكلة في السنوات الأخيرة بالاشارة إلي أنه المستشار السياسي لرئيس الجمهورية.
ما هو حجم الدور الذي لعبه أسامة الباز ؟
أستطيع أن أقول : إنه أكبر دور ممكن لرجل رمادي في التاريخ .. وهذه هي أبرز ملامح هذا الدور :
أولا : لم يكن أسامة الباز يكتب خطابات مبارك الأولي لكنها كان يؤلفها كلها ذلك أن الرؤساء السابقين من أسلاف مبارك كانوا يحددون للكتاب الأفكار التي يريدون الحديث فيها والمعاني التي يريدون التطرق اليها ، والقضايا التي يريدون أن يبدوا فيها رأياً بل كانوا يحددون بالطبع بعض التصريحات أو التلميحات أو التهديدات التي يريدون تسريبها ، وكان الكتاب يجتهدون في تقديم أفضل الصياغات لهذه المعاني.
أما أسامة الباز فإنه كان يكتب ما يريد علي نحو ما يريد ولم يكن مطلوباً منه إلا أن يفهم الرئيس ما يريد الرئيس أن يفهمه علي مهل ، صحيح أن مبارك كان يملك أن يحذف فقرة هنا أو هناك لكن هذا لم يكن يحدث إلا في النادر جداً.
ولهذا السبب فإن أي قارئ محايد خالي الذهن من تاريخ مبارك وأسلافه جميعاً سيحكم ببساطة وسرعة وثقة بارتفاع المستوي الفكري لخطابات مبارك وبرقي مضموناتها وبقدرتها علي الاستشراف والتنبؤ ، وهو ما كان مبارك برئياً منه تماماً.
ونأتي إلى ثاني ابرز الملامح :
لم يكن أسامة الباز شريكا للرئيس في الرأي تجاه الأحداث المفاجئة ، لكنه كان صانعاً لهذا الرأي ، صحيح أن مبارك كان يملك ( وظل يملك ) قدرة جيدة علي اختيار البديل لكن أسامة الباز كان هو صاحب البدائل كلها وكان بهدوء اعصابه وهدوء ادائه قادراً علي الوصول بمبارك إلي النقطة الحاسمة في التوجه السياسي والاستراتيجي .
ولهذا كان مبارك يبدو وكأنه فكر وقدر ثم قرر ، لكن الذين كانوا يعرفون الحقيقة كانوا يدركون أن مناط التوقع هو تفكير أسامة الباز ، ولهذا كان الذين يجيدون تقدير توجهات الباز قادرين بالتبعية علي التنبؤ بمواقف مبارك.
ومن الطريف أن هذه الأسلوب في التنبؤ بسياسات مصر في عهد مبارك لم يفشل أبداً علي الرغم مما كان يتوقعه كثيرون من استجابة لضغوط من هنا أو من هناك ، أو رغبة في السبق والزعامة ، أو ميل إلي التأثير والقيادة … الخ.
لا يستأثر بالرئيس
لم يكن أسامة الباز يستأثر بمبارك ولم يفكر في هذا بل إنه كان أحرص المحيطين بمبارك علي أن يتيح للرئيس الاتصال بدوائر واسعة من الساسة ورجال الفكر والمجتمع ، كما كان اكثر المحيطين به ترحيبا لاتصال الشعب به ، بل لعلي لا أذيع سراً إذا رويت أن أسامة الباز لم يمانع في أن يرتب اللقاء بمبارك لشخص خبيث معروف بالدهاء كان يريد بكل طريقة أن يزيحه عن موقعه المتميز ، لأنه كان يري في نفسه أنه الوحيد الذي يصلح لهذا الموقع ، وكان أسامة الباز بذكاء الاكاديمي الدارس يتوقع أن هذه المحاولة ستدعم وجوده هو ولن تنهيه علي نحو ما تصور صاحبها .
ومن الطريف أن صاحب هذه المحاولة عاود الكرة بطريقة أخري ففشل مرة أخري ، ثم سجل هذه المحاولة كتابة في مقال شهير وقد فاته أن مبارك لايقرأ له ، إلا ما يرويه له أسامة الباز نفسه ، وقد قرأ الباز لمبارك ، في لحظة صفاء ، ما كتبه الغريم فابتسم في سخرية.
ومن المؤكد أن أسامة الباز نفسه قد أصبح في سنواته الأخيرة أقرب إلي الأخذ بنصيحة مبارك له بألا يأبه بآراء ذلك الكاتب وأن ينساه تماماً.
تأثيره في توجهات الرئيس
نجح أسامة الباز في أن يطبع وجهة نظر مبارك بوجهة نظره هو في القضايا الخلافية أو التي لايزال باب الاجتهاد فيها مفتوحاً .
وحتي لا اطيل علي القارئ فإني أضرب المثل بقضية واحدة هي قضية العلاقات المصرية الامريكية .
كان من رأيي المتواضع ضرورة توسيع دائرة العلاقات المصرية الامريكية علي المستوي البرلماني والجماهيري وغير الحكومي من خلال أسلوب منهجي لا أجد مانعاً في أن تقوم الخارجية نفسها بتنظيمه ..
وكنت أري في مثل هذه الأسلوب ضمانة من ضمانات التعريف بالحقوق العربية من ناحية وبالطبائع العربية من ناحية أخري ، وهو ما يضمن مستوي من الفهم والتفهيم فيما يتعلق بكثير من القرارات المصيرية التي يتخذها الكونجرس الامريكي علي سبيل المثال.
وكنت أضرب المثل في أحيان كثيرة بمدي ما كان يمكن (مثلا ) أن يتحقق لنا من فائدة لو أن الزيارات البرلمانية ( وهي كثيرة) أتاحت لاثنين من نواب البرلمان المصري أن يعرفا أوباما عن قرب حين كان لايزال عضواً في مجلس الشيوخ أو في الكونجرس الخاص بولايته … وهكذا
كما كنت أشير إلي أن الدكتورين محمد حسن الزيات وأحمد عصمت عبد المجيد قد عرفا الرئيس جورج بوش في أواخر الستينات حين كان مناظراً لهما ممثلاً للولايات المتحدة في هئية الأمم ومجلس الأمن ، وأن هذه العلاقة قد أفادت الرجلين وأفادت مصر من خلالها.
لم اكن في موقع يتيح لي أن أضع رأيي المتواضع هذا علي مائدة بحث أو قرار ، وهكذا لجأت إلي من كانوا في مثل هذا الموقع ، وبعد فترة جاءني الرد من خلال مناقشتهم مع أسامة الباز الذي أحالهم الرئيس عليه.
وكان رأي أسامة الباز واضحاً وضوح الشمس وهو أن أمريكا دولة مؤسسات في المقام الأول والأخير ، وأن التأسير المتوقع لمقترحي يظل هامشياً إلي أبعد الحدود.
ومع أني لازلت أري أن لمقترحي موضعاً تحت سماء الحقيقة فأني اعترف أن الرئيس مبارك وقف بكليته مع رأي أسامة الباز وإلي درجة لم يكن أسامة الباز نفسه سيقفها مع رأيه لو كان هو نفسه رئيس الجمهورية.
لا يشغل لانفسه بالصغائر
لم يحدث علي الإطلاق أن شغل أسامة الباز نفسه بأي صغيرة من الصغائر المحتمل أن تكدر صفو علاقته بنفسه ولا صفو علاقته بمبارك.
ولن أطيل عليك في رواية مواقف من هنا وهناك لكني سأكتفي لك بالموقف الأكبر حين أصبح زكريا عزمي رئيسا لديوان رئيس الجمهورية ومكّن نفسه مِن أن ينظم الديوان بحيث يصبح هو الشخص الأول في كل شئ وأن يمتد هذا إلي المظلة البروتوكوليه والإدارية والتنفيذية … مع أن أسامة الباز كان يعمل في الرياسة وهو وكيل أول للوزارة علي حين كان زكريا يتطلع إلي درجة المدير العام ومع أن أسامة يكبر زكريا بسنوات ليست قليلة ..
كان أسامة الباز في ذلك الوقت مريضا وكان يعالج في المستشفي ، ومع هذا فإنه لم يشغل باله بما فعل زكريا ولا بما قد يكون مبارك قد وافق عليه .. وحين حادثه القرباء منه في هذا لم يزد علي الالتفات برأسه ويده .
قل مثل هذا حين خلا منصب وزير الخارجية اكثر من مرة فلم يفكر فيه ، وقل مثل هذا في عدم ترحيبه بفكرة طرحتها ذات مرة وهي أن يكون شاغلاً لدرجة مستشار الأمن القومي علي نحو ما هو معمول به في النظام الامريكي وعلي نحو ما كان معمولاً به في مصر نفسها في الفترة التي اندلعت فيها حرب اكتوبر ، وقل مثل هذا في كثير مما يعرفه كثير من الناس.
وصول الرجلين الى التماهي
ونأتي الي سادس ابرز الملامح : لوأنك طلبت من أسامة الباز أن يقرأ نصا مكتوبا أو خطابا رئاسيا فسوف يروعك أنه سيقرأ النص علي نحو ما كان مبارك يقرأه .. مع أنك تعرف أن أسامة هو الذي كتب النص .. ومع أنك قد تقتنع بما أوردته لك من أن أسامة هو الذي ألف النص ولم يكتبه فحسب ومع أنك قد تقتنع أيضا أن أسامة هو الذي كان وراء كل جملة وكل كلمة في النص وفيما وراء النص.
هل تستطيع أن تقول إن مبارك كان في ادائه مؤديا ملتزما بما ألفه ولحنه ووزعه أسامة الباز أم أنك تفضل أن تقول إن شخصية أسامة تماهت تماماً في شخصية مبارك حتي أصبح هو عقل مبارك وان تحرك علي قدمين .
إن للقصة وجها آخر لايقل أهمية عن كل هذه الوجوه ، ذلك أن أسامة الباز نفسه في السنوات الأخيرة من عصر مبارك كان قد تأثر بمبارك إلي اكبر حد ممكن فأصبح في فعله وكأنه مبارك ، وفي رد فعله وكأنه مبارك ، بل أصبح في نظرته للأحداث وكأنه مبارك، وأصبح في حكمة علي الأمور وكأنه مبارك ، وليس في هذا مبالغة من أي نوع.
وسبحان من أبدع خاصية الأواني المستطرقة وجعلها أساسا في النفوس البشرية.؟
بقيت قصة لا أعتقد أني استطيع اغفالها …
أذكر أن أحد زملائي من الأطباء الظرفاء سألني ذات مرة عن الفعل الذي كنت أصف به هذه العلاقة بين هذين الشخصين لأنه نسي ذلك الفعل العربي الصعب علي التذكر علي حد تعبيره ، فأجبته بعد تفكير : تقصد ما كنت أقوله من شخصية هذا تماهت في شخصية ذلك .. قال صديقي : فتح الله عليك .. قلت : أظنك معجباً بالفعل .. قال أصدقك القول ، قلت نعم .. قال إني معجب بالفعل لكني لا أراه الأدق .. قلت .. وما الأدق في نظرك ، قال : تحذف الميم من الفعل .. ولا تفغر فمك من الدهشة.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : وشائج الفكر و السلطة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]