كان المهدي المنجرة في رأيي المتواضع بمثابة الضلع الثاني في المثلث الذي رسم الامل المنشود في مستقبل حقيقي لحضارة الاسلام في العالم الجديد، وقد بني علي ما سبقه اليه الرائد الذي تولي تأسيس الضلع الاول في هذا المثلث بعناية فائقة بالتفاصيل ، بيد ان المنجرة تجاوز التفكير في بناء الذات الي التفكير في طبيعة المواجهة المحتملة . وربما يصعب علي كثيرين تصور طابع التكامل والتفاصل (بالصاد لا بالضاد) بينه و بين الرائد الاول او رائد الضلع الاول الذي هو مالك بن نبي ، وربما يمكن لنا أن نلخص الفارق في ايجاز دال باستعارة عنواني كتابيهما الاشهرين فعلي حين كان مالك بن نبي يرسم ويحدد “شروط النهضة” فان المهدي كان واعيا لطبيعة ” الحرب الحضارية” وشروطها .
كان المهدي المنجرة من ابرز المتحفظين علي علاقات الغرب السياسية بالاسلام ، بل وصل الحال به ان يتشاءم وينفي امكانية قبول الغرب لوجود انظمة ديمقراطية غربية في بلاد المسلمين : ” …لقد قُلتها وسأعيد قولها الآن، ليس هناك قوة غربية مستعدة لقبول قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية وفعلية بالعالم الإسلامي. لأن مثل هذا التغيير سيضرب مصالحها التي توفرها لها، وبسخاء، الأنظمة المرتشية القائمة حاليا”.
ومنذ ربع قرت تولي المهدي المنجرة المشاركة الكبري في تنظيم أوّل لقاء حول مستقبل الإسلام، في الجزائر العاصمة، وشارك في اللقاء العديد من العلماء من طبقة الغزالي والغنوشي والترابي والقرضاوي. الذين شاركوه الرأي في ان الإسلام وصل إلى أسوأ مراحل التقهقر في العصر الحالي لأن المسلمين ابتعدوا عن الاجتهاد والتجديد وسجنوا أنفسهم في ماض دون الانفتاح على المستقبل. وأن الإسلام كان دينا شديد الارتباط بالمستقبل، ويولي أهمية بالغة للمستقبل (مع واجب التمييز بين المستقبل والغيب). وفي نهاية اللقاء اتفق الجميع على ضرورة التصدي للأمية ومحاربة الفقر عبر توزيع عادل للثروات داخل البلدان وفيما بينها، وتخصيص استثمارات أكبر وأهم للبحث العلمي، للخروج بالعالم الإسلامي من نطاق الدول المتخلفة.
لم يكن المنجرة فيما نادي به من آراء اسيرا لايدولوجية محددة لكنه كان تعبيرا امينا عما وصل اليه العقل الفلسفي الغربي (بالغين المنقوطة لا بالعين المهملة) في العصر الحديث مع اهتداء واهتمام مواز بتجربة اليابان التي كان يراها نموذجا لابد للعالم الثالث من احتذائه . وكان بحكم الوظائف التي تولاها من اكثر العلماء الماما بما تطور اليه هذا العقل المعاصرففي سنة 1962 وهو علي مشارف الثلاثين عينه المدير العام لليونسكو مديرا عاما لمكتبه. وفي سنة 1970 عمل بكلية لندن للاقتضاد محاضرا وباحثا في الدراسات الدولية.وفي 1975 و 1976 تولى مهمة المستشار الخاص للمدير العام لليونسكو. ولما تأسس”الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية” انتخب رئيسا له إلى سنة 1981.
وكان المهدي المنجرة أصغر الاعضاء سنا في نادي روما منذ تأسيس النادي في 1968، كما كان أحد ثلاث اشتركوا في تحرير التقرير الثاني للنادي ، والذي صدر سنة 1979م تحت عنوان: لا حدود للبحث والدراسة،.. فضلا عم انه تولى رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية
علي الرغم مما كان يبدو للمصريين من جفاف افكاره واغراقها في التصورات المثالية فقد كانت كتبه من الأكثر مبيعا في فرنسا ما بين 1980 و 1990. وقد خصص صندوقا خاصا من تلك العائدات المالية لمنح جائزة للحوار بين الشمال والجنوب وفيما بعد طور غرضها لتكون جائزة لمن يدافع عن الكرامة.
وعلي عادة اليساريين في التنبيه الي الفرص الجيدة التي لقيها بعض العظماء في بداية حياتهم فلابد لنا ان نذكر ان هذا الرجل العظيم نشأ في بيت دين ويسار في كنف اسرة محترمة من كبار التجار المتدينيين والمثقفين ، وقد أرسله والده لاتمام لدراسة في أمريكا ليكون متميزا عن الاغلبية التي تدرس في فرنسا بحكم العادة والتعود ومن حسن حظ المهدي انه واجه موقفا انسانيا واخلاقيا جعله يضحي بامريكا وبطاقتها الخضراء وجامعتها ودراسته ويعود الي العالم القديم ليستكمل دراسته في لندن
في امريكا التحق المهدي بمؤسسة “بانتي”, ثم التحق بجامعة كورنل وتخصص في البيولوجيا والكيمياء. ونجح مبكرا في المزاوجة بين دراسته العلمية ، والعلوم الاجتماعية والسياسية ،
وفتحت إقامته بأمريكا عينيه على العمل الوطني والقومي. فارتبط بمكتب الجزائر والمغرب بالأمم المتحدة، و رئاسة رابطة الطلاب العرب. و رفض التجنيد الإجباري الذي كان مفروضا آنذاك على كل حاملي البطاقة الخضراء، و رفض المشاركة في الحرب الكورية،
وآثر أن ينتقل إلى لندن سنة 1954 لمتابعة دراسته العليا بكلية لندن للاقتصاد حيث نال شهادة الدكتوراه حول موضوع “الجامعة العربية”.
وفي بلاده واجه المهدي اختيارا من نوع آخر جعله يؤثر الفكر علي المناصب والرأي علي الصداقة
وفي سنة 1957 عاد إلى المغرب ليعمل أستاذا بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس وتولى في هذه الفترة إدارة الإذاعة والتلفزة المغربية بعد ان عينه الملك محمد الخامس على رأسها.
وعرضت عليه مناصب وزارة المالية ورئاسة الوزارة في الحكومة المغربية، لكنه رفض مفضلا التفرغ للثقافة والبحث العلمي، وكان قد عرف بمواقفه المعارضة لسياسة ملك المغرب الحسن الثاني رغم أنه كان زميله في الدراسة، وتعرض لهذه الأسباب للمنع من إلقاء المحاضرات في المغرب ، وقد لخص هو نفسه طبيعة علاقته بالملك الحسن الثاني فقال :.
” علاقتنا مبنية على الاحترام في إطار قول الحقيقة حتى أن أعضاء في أكاديمية المملكة كانوا يعتبرون جرأتي في الحديث عن أوضاع المغرب وعن الحياة السياسية راجعة إلى نوع خاص من الحماية أستمدها من معرفة قديمة بالملك، وهذا ليس صحيحا أبدا، ليس في الموضوع سر .كان الملك يعرف أرائي وطبعي وموقفي وعدم أستعدادي للتفاوض أو التنازل عن حريتي وكان يحترم ذلك.”
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : وشائج الفكر و السلطة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]