يعلمنا التاريخ أن في تاريخ الصراع الإنساني لحظات مفصلية تستدعي الانتباه والالتقاط، وإذا لم ينتبه إليها أصحاب الانتصار فإنهم يفقدون من الوقت الثمين فترات تطول أو تقصر حتى يمكنهم العودة للوصول إلى -وللبناء على- مثل هذه اللحظة التي تمر بها غزة الآن، ومن الواجب علينا أن نلخص ما نعتبره بمثابة معوقات فكرية تتسلط على القرار السياسي الإسلامي -إن صحت هذه التسمية الإمبريالية المستفزة- بحيث تفقد هذا القرارَ قوةُ الدفع التي حصل عليها في اللحظات الفارقة.
سأبدأ بمفارقة غريبة يلاحظها كل مَن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة العربية المتبقية والمترسخة من عصور الشمولية، فحين نعهد إلى أي خبير محايد بتحليل النصوص التي تعالج انتصار غزة الراهن؛ فإننا نجد أكثر من 95٪ من هذه النصوص موجهة فقط لانتقاد التطبيع وما يتعلق به من تصرفات رعناء لدول عربية صغيرة الهمة قصيرة النظر، ظنت أن الانسحاق كفيل لها بتسيير مصالحها أو تمجيد صورتها أو زيادة مكاسبها، بينما تقول الحقائق التاريخية لأي صراع وجودي إن هذا موضوع فرعي تماما لا قيمة حقيقية له في مسار الصراع التاريخي ولا في جوهره، لكن المؤسف أن كثيرين لا يعرفون من تاريخنا المعاصر كله إلا دعوى واحدة هي الزعم بأن كامب ديفيد هي أصل الشرور، وأن واجبهم الوحيد في الحياة الفكرية أن ينسبوا كل فشل -يرتكبونه هم أو غيرهم- إلى أثرٍ ما من آثار سياسات الرئيس السادات المتعددة، حتى إنهم يتجاهلون أو ينكرون أنه صاحب النصر الوحيد الذي لا يمانعون في أن يسرقوه منه ليعطوه لنجم تلفزيوني أو حتى لنجم إسرائيلي متهور من طراز شارون.
خطورة الانشغال بقضايا فرعية
وفي هذا المقام فإني أكرر ما نبهت إليه أكثر من مرة من أن انتصارا كالانتصار الأخير يعد -بلغة الإستراتيجية والحرب- كافيا لأن تتوجه البوصلة الفلسطينية في الاتجاه السياسي الصحيح بالاعتزاز والاعتماد سياسيا على قدرتها الذاتية وحدها، ونحن نعرف أن القيادة الفلسطينية كانت -ولا تزال- تتلطف فتترك مقود السيارة للعرب أيا كانوا، لكنها في هذه المرة أصبحت قادرة بوضوح على المضي في طريق تولي القيادة بنفسها عسكريا وإستراتيجيا وسياسيا وعملياتيا كذلك، ويقيني -الذي لا يتزعزع- هو أن الفلسطينيين سرعان ما سيكتشفون أن النصر قريب وأن ابتعاده أو تأخره لم يكن بسببهم، وإنما كان بسبب رغبة من أمسكوا بمقود السيارة في المرور على مصالحهم أولا.
والحق الذي لا مراء فيه أن إدراك هذه الحقيقة لا يزال عند البعض -حتى من الفلسطينيين أنفسهم- أمرا غير متخيل لسبب بيولوجي مهم يجعل القبول بالمبادرة بالتفاوض أمرا من رابع المستحيلات على شعب مظلوم مضطهد متآمَر عليه، وقد ساعد على تكريس وتعقد هذا المفهوم في الماضي أن العطف المعنوي العربي الذي كان يترافق في بعض الأحيان القليلة مع دعم مادي كان كفيلا بأن يصرف الفلسطينيين عن إدراك الحقيقة المرة في فلسفة سياسية حاكمة غير معلنة تؤدي دوما إلى استمرار التآمر من قوى عربية كبيرة عليهم وعلى قضيتهم، ولم يكن كثير من الفلسطينيين ليصدقوا -ولا يزال بعضهم لا يصدق- أن بقاء بعض الأنظمة الراهنة كان مرتبطا بخطط طويلة الأمد وتوافقات دولية اشترطت على هذه النظم التزاما بأن تضمن الحفاظ على إسرائيل وعلى أمنها، بل على هواء وغذاء ودم إسرائيل، وإلا فقدت مقومات وجودها.
الأفق العربي في تعطيل الانتصار
ليس من شك في أن المعرفة بمثل هذه التعهدات العربية وحقيقتها القاسية بدأت تنمو مع الزمن؛ بحيث تطورت درجات ما هو معروف من اتفاقيات سرية إلى اتفاقيات مسربة أو متسربة إلى لقاءات سرية إلى تخاذل إلى تواطؤ إلى تآمر سري إلى تآمر علني، فلما حدث التآمر العلني منذ 2014، وأسفر عن وجهه القبيح، فإننا أدركنا وأعلنا ذلك بكل وضوح أن القضية الفلسطينية دخلت مرحلة النصر الذي استكملت أسبابه بمعرفة الحقيقة وإدراك أطراف اللعبة.
وبدون مجاملة أو مبالغة أو توريط فإني أرى أنه آن الأوان كي تتخلص القيادة الفلسطينية الحقيقية من أعباء متعددة؛ منها عبء القيادة الرسمية وعبء القيادة التاريخية وعبء القيادة المرحب بها عند الأعداء؛ كي تعود أمور إدارة الصراع إلى الميدان البيولوجي الطبيعي الذي عرفه ويعرفه مجرى التاريخ الإنساني؛ حيث تتولى أمر القيادة قوى تعبر عن مناطق القوة الحقيقية، ومناطق التأثير الفاعل، وحيث تكون القيادة تعبيرا عن حركة الشعب، بما في هذه الحركة من كفاح، وحيث يتحقق الإيمان الكفيل بتحقيق الهدف بعد ما بذل من السعي الجاد والمبدع من أجله.
ومن حسن الحظ أن هذه هي نفسها الحقيقة الثابتة والجوهرية في هذا النصر الأخير الذي تحقق بإبداع غير تقليدي وغير محسوب حسابه عند الطرف الآخر وحلفائه، وتحقق بتخطيط غير مخترق بطابور رابع أو خامس أو ثالث أو ثان، ولعلي أعود إلى ما وصفت به هذا النصر من قبل حين قلت منذ 7 سنوات إن طابور النصر كان واحدا ووحيدا، ولم يكن عند طابور النصر استعداد للاستعراض لأنه كان مشغولا بالاستعداد، ولم يكن عنده استعداد للتباهي لأنه كان معنيا بالتماهي مع الحقيقة، ولم تكن عنده رغبة في إثبات الذات لأنه كان يؤمن بحتمية التضحية بالذات.