بقلم : عاطف حزين
تاريخ النشر : 17 يوليو 2004
جريدة : الأهرام العربي
ابتسم صديقي فرحا وهو يزف لي خبر فوز صديقنا الدكتور "محمد الجوادى" بجائزة الدولة التقديرية…ولأنني لم أتعود من صديقي هذه المبالغة في اظهار الفرحة ،خاصة اذا تعلقت بنصر أو بخير للآخرين سألته : ألهذه الدرجة تحب الجوادى؟ فأشاح بيده وقال لي: المسألة أكبر مما تظن، فمعنى فوز الجوادي بجائزة الدولة التقديرية وهو في شرخ الشباب أن جيلنا أصبح تحت الميكروسكوب ، ومن يعلم الدور على من؟
هذه المرة أنا الذي ضحكت وضحكت حتى كادت ضلوعي تقفز خارج صدري، وكان طبيعيا أن يرفض صديقي ضحكي على كلامه فقال لي مؤنبا: أظن كلامي لا يدعو الى الضحك والسخرية بهذه الطريقة !
كان علي أن أطيب خاطر صديقي وأقول له الحقيقة التي لم يدركها حين اعتقد أن المسألة أكبر من الجوادي وأنه يمكن أن يصبه الدور.
لا يا سيدي..هي الجوادى والجوادى والجوادى ، والخطأ كل الخطأ أن نصدق أن اللجنة التي تمنح الجائزة نظرت الى تاريخ ميلاد رجل قدم 80 كتابا متنوعا تغطى أغلب المعارف الإنسانية.
رجل مهتم بالقرآن قدر اهتمامه بالطب قدر اهتمامه بالتربية ، رجل يكتب التراجم ويعيد قراءة مذكرات الكبار بطريقة فريدة ليكتشف فيها مالم يكتشفه أصحابها.
يا صديقي العزيز،كيف تحسب الجوادى شابا ننسب أنفسنا الى جيله مع ان أحدنا لا يستطيع تحويل اليوم مثله الى 300 ساعة يبدأها بالذهاب إلى محاضرته في كلية الطب جامعة الزقازيق ثم يزور بعدها كل الصحف والمجلات ويجلس مع كل أصدقائه ويحاورهم في السياسة وفي الحب وفي الرياضة قبل أن يذهب الى بيته لتناول طعام الغداء ثم يذهب إلى عيادته ويجلس مع مرضاه بالساعات إلى أن يشفقوا على وقته ، وبعد كل ذلك يجلس إلى أوراقه وأقلامه ليقدم لنا كتابا كل أسبوع.
هل تعلم يا صديقي أن الجوادي الذي لم يبلغ الخمسين بعد هو الوحيد المؤهل لضرب رقم أنيس منصور في تأليف الكتب وأظنه سيتجاوزه بمراحل.
وأنا أتحدث عن العدد دون النظر الى القيمة، فمجرد نظرة الى عناوين كتب الجوادي سندرك أن هذا الرجل عبقري يعرف جيدا أن الأجيال القادمة ستحتفظ بما يكتبه ربما أكثر من الأجيال الحالية…خذ عندك مثلا: "كلمات القرآن التي لا نستعملها" وخذ عندك "شمس الأصيل في أمريكا"…و"التنمية الممكنة" و"أوراق القلب" و"من بين سطور حياتنا الأدبية" و"النصر الوحيد"…"رحلات شاب مسلم"…"مصريون معاصرون"…"الفلسطينيون ينتصرون أخيرا"…"مشرفة بين الذرة والذروة"…والشهيد"عبد المنعم رياض سماء العسكرية المصرية"..هذه مجرد عينة من بين أكثر من ثمانين عنوانا تحمل توقيع "محمد الجوادى" ، فهل استطاع أحد من جيل هذا الطبيب الأديب أستاذ الجامعة تحقيق نصف المنجز الذي قدمه للمكتبة العربية ؟ ويكفي أن " محمد الجوادي" هو اصغر عضو يتم اختياره لينضم إلى مجمع اللغة العربية الشهير بمجمع الخالدين.
أنا شخصيا أعرف الجوادي منذ عام 1984 عندما بدأت مشواري في الصحافة…كانت جريدة "شباب بلادي" التي بدأت فيها إحدى محطاته اليومية في شارع الصحافة وسرعان ما أصبحنا صديقين وظننت أنني وحدي الفائز بهذه الميزة قبل ان أكتشف أن الجوادي صديق لكل الذين دخلوا جدول نقابة الصحفيين والذين ينتظرون على بابها.
إنه، حالة يصعب أن تتكرر…خلطة من الذكاء النافذ والوجدان المتقد والذاكرة التي لا يوجد بها باب للخروج والقدرة على العمل لساعات دون كلل ،فضلا عن موهبة الانتقال من حوار الى آخر وكأن المسألة لا تتطلب منه أكثر من الضغط على زر.
ومع ذلك فهو ليس مجرد ماكينة لإنتاج وكتابة الأفكار ، فالجوادي حالة إنسانية لا شيء يميزها أكثر من الطيبة الى آخر مدى وحب الخير للآخرين حتى آخر قطرة.
نحن سعداء بفوز الدكتور "محمد الجوادي" ليس لأنه شاب ونحن شباب ، ولكن لأنه فاز بها في زمن كدنا نصفه بأنه قاتل للموهوبين والمجتهدين لكنه خيب ظننا ، وأعطى القوس باريها.