الرئيسية / المكتبة الصحفية / الشاعر #محمود_أبو_الوفا .. عندما لا يأتي المساء

الشاعر #محمود_أبو_الوفا .. عندما لا يأتي المساء

 

 

 

يكاد الناس جميعا يعرفون الشاعر محمود أبو الوفا (1901 ـ 1979) من قصيدته الشهيرة عندما يأتي المساء التي غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب، والتي كان ذلك الموسيقار العظيم نفسه يعتبرها من أفضل ما غناه من القصائد، إن لم تكن أفضل الكلمات التي غناها على الإطلاق، على الرغم من وفرة ما غناه الموسيقار محمد عبد الوهاب من الروائع.

 

أما أنا فقد كنت ولا أزال أرى في الشاعر محمود أبو الوفا نموذجا فذا للإحساس العقلي الرهيف القدر على رؤية ما لا يراه إلا أولو الصفاء من أولى الذوق، فقد كان قادرا على التعبير الرائق عن هذا الصفو الشعوري الفريد مهما كان فيه من الألم، بيد أن هذا الفنان المبدع المعبر المعجز عاش حياته كلها في عناء وكبد، وكأن حياته كانت نهارا متصلا بلا مساء، وكأنه كان نموذجا للندرة ممن ينساهم المساء فلا يأتيهم رغم أنهم يجيدون وصفه بما يصعب مثله على الآخرين، وقد كان هذا هو حظه على الرغم من أنه كما سنرى كان في نظر نقاده ومعاصريه ومتذوقيه علما خفاقا بين كبار الشعراء المطبوعين في أدبنا العربي المعاصر.

 

وبالرغم من هذا الاعتراف المجمع عليه فإننا لا نستطيع الكتابة عنه من دون الإشارة إلى ما يستسهل الشعراء والنقاد وصفه به من أنه كان بائسا يائسا بل موغلا في البؤس واليأس ، ولهذا فإن الأولى بنا أن نبدأ بالحديث عن حساسيته المفرطة ووجدانه اليقظ  قبل أن نتحدث عن أثر هذه الحساسية وذلك الوجدان فيما انتهى إليه من مشاعر الاغتراب في الزمن القاسي . ولست أنكر أنني محب لشعر هذا الشاعر العظيم لكنني لست وحدي في هذا الحب، وربما أفخر بقصة عابرة مشهورة عني وهو أني حين أصبح بيدي قرار النشر في هيئة الكتاب كان من الترتيبات التي أنجزتها في أول يوم الانتهاء من الخطوات التنفيذية بإعادة طبع ديوان محمود أبو الوفا، مع دواوين حافظ إبراهيم واحمد الكاشف وغيرهم ممن كانت الدور المملوكة للدولة تملك حق إصدارها، وسألني أحد الصحفيين المعروفين بالتنقيب وراء الدوافع عن سر الاهتمام بمحمود أبو الوفا فذكرت له أن الامام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود المتخرج في السربون جعل وزارة الأوقاف تطبع هذا الديوان بعد أن حذف منه “الشطحات” ، وأني بطبعي المعروف بالغرور والادعاء أريد لنفسي فضلا لا يقل عن فضل الإمام الأكبر، ولهذا فإني أطبعه بشطحاته … وصار هذا الرد نموذجا لحديث شيق عن دوافع روحانية لا تزال تحكم القرار الثقافي في عصر كانت الماديات وراء كل شيء فيه .

قصة الانسان الجديد

على غير العادة في الحديث عن الشعراء نبدأ بقصة متفردة وموحية وهي أن أشعار أبي الوفا صادفت واقعة فريدة من وقائع التوافق المثمر التي قلما تصادف للشعر، وتطور هذا التوافق إلى تحويل بعض شعره إلى مادة رياضية، إذ كان الشاعر أبو الوفا قد أصدر ملحمتيه الكبيرتين “عنوان النشيد” و”النشيد” وهما ملحمتان تؤكدان على قوة إرادة الإنسان المستمدة من الإيمان باعتبارها العنصر الحاسم في الحياة، وقد أعجب الأستاذ العقّاد بهاتين الملحمتين وخاطب صاحبهما قائلا: “هل أنت نيتشه جديد؟”، وفي الوقت ذاته فإن أحد أساتذة التربية وعلم النفس، وهو الدكتور محمود زيتون أعجب بهاتين الملحمتين وصاغهما في مشروع لتنشئة الجيل الجديد. وأقام في جبل المقطم جمعية أطلق عليها اسم “جميعة إنسان الفصل الخامس”، أي الإنسان الذي تجتمع فيه جميع مزايا الفصول الأربعة استهداءً بقول أبي الوفا:

أَنَا لا أَبْغِيْكَ رِيْحاً أو شَذًي                               إِنَّني أَبْغِيْكَ قَلْبَـاً لَوْذَعِـي

إِنَّنِي أَبْغِيْك فَصْلاً خَامِساً                            جَامِعاً كُلَّ الفًصُوْلِ الأَرْبَعِ

 

وقد نجح الدكتور زيتون في تحويل أشعار هاتين الملحمتين إلى نص حاكم أو ضابط لتدريبات رياضية يقوم بها الشباب بحركات أشبه بما يعرف بالتمرينات السويدية (1993)، مع ترديد عبارات النشيديْن في أثناء هذه الحركات تطبيقاً للنظريات السيكولوجية. كما أصدر سلسلةً من الكتب حول هذا المذهب الجديد الذي سماه بمذهب «إنسان الفصل الخامس».

نشأته وإصابته بعاهته

على طريقة المتوسط الحسابي فقد ولد الشاعر محمود أبو الوفا في عام 1901، وفي بعض المصادر أنه ولد 1900، وفي بعض المصادر أنه ولد 190٢ ونحن نعرف أنه لم يحل إلى التقاعد إلا عام 1962، مما يرجح أن يكون تاريخ مولده الذي آثرته الحكومة مسجلا في 1902، أو في نهايات 1901 ولهذا التعدد في تاريخ مولده ميزات عديدة من الطرافة فإذا اعتبرناه مولودا في ١٩٠٠ قارناه بشاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري ١٩٠٠-١٩٩٧ أ وبالشاعر محمد الأسمر ١٩٠٠- ١٩٥٦ ومن الطريف أنه يملك وجوها كثيرة للمقارنة مع كل منهما، واذا اعتبرناه مولودا في ١٩٠٢ قارناه بعلي محمود طه ١٩٠٢- ١٩٤٩ أو بمحمود غنيم ١٩٠٢-١٩٧٢ ، ومن الطريف أن هناك وجوها عديدة قد تنبني على هذه المقارنات أيضا ، وعلى سبيل الإجمال، فقد كان طه حسين ينتقد أبو الوفا بسبب توجيهه لإعجابه إلى الشاعر على محمود طه، وقل مثل هذا في علاقة الأستاذ العقاد بمحمود غنيم .

 

ومن اللافت للناظر في المقارنة السريعة بين هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين ولدوا في عام واحد أن أبو الوفا استبقى المكانة الأعلى الرغم من أن تعاقب الحوادث لم يكن يشي بهذا، ومن الحق أن نقول أن حساسية على محمود طه قادته إلى التعالي على المجتمع بما أحرز من طيب الحياة على حين أن حساسية محمود أبو الوفا لم تدفعه إلى الحقد على المجتمع وإنما دفعته للضجر من حظه فحسب، أما محمود غنيم فتحول بحساسيته إلى نمط من السخرية العقلية من الواقع الذي صوره في قوله الشاعري المشهور ان الناس يعرفون الفنان محمود شكوكو بأكثر من معرفتهم بمحمود غنيم أي به هو نفسه .

 

ولابد من الإشارة المبكرة العابرة إلى أن اسم الشاعر محمود أبو الوفا أصبح (وبخاصة في الفهارس الأجنبية) يلتبس قليلا مع اسم الشاعر محمود رمزي نظيم ١٩٨٩ -١٩٥٩ الذي كان يكني ب «أبو الوفاء»، وكانت الكنية شائعة حتى في اسم الكتاب الذي صدر عن سيرة حياته «أبو الوفا محمود رمزي نظيم»، وكان نظيم يعمل محرراً بجريدة “البلاغ” وقد حقق ديوانه “الرمزيات” الاستاذان على الجندي العميد الأسبق لكلية دار العلوم والأستاذ محمد أبو طالب الكاتب الصحفي.

تكوينه وعاهته

ولد الشاعر محمود أبو الوفا في قرية الديرس من قري مركز أجا محافظة الدقهلية، وتلقي تعليما دينيا تقليديا، حيث وجه إلى حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بمعهد دمياط الديني، واستقر في دمياط لبعض الوقت، وقيل إنه لم ينتظم فيه إلاّ ثلاث سنين. وحين بلغ العاشرة من عمره أصيب بمرض في ساقه اليسرى اقتضت بترها من منتصف الفخذ، وقد تأثر أبوه أشدّ التأثر بهذا المصاب الذي ابتلي به ابنه، ويروي أنه توفي في اليوم الذي أجريت فيه جراحة البتر.

 

حاول الشاعر محمود أبو الوفا الالتحاق بالأزهر في القاهرة، وأغلب الروايات أنه لم يفلح في ذلك، وقيل إنه درس فيه بعض الوقت، وربما يمكن التوفيق بين الروايتين بالقول إنه حضر بعض الدروس تمهيدا لقيده، لكنه لم يفلح في القيد طالبا لسبب أو لآخر. ومن الواضح أنه استحال عليه أن يجمع بين الدراسة وبين حاجته إلى العمل للإنفاق على نفسه، ومن ثم فإنه اضطر إلى هجر الدراسة من أجل العمل.

حياته الوظيفية وتمتعه بالرضا النفسي

عاش أبو الوفا حياة قاسية صعبة، لكنه لقي أيضا كثيرا من عطف الأدباء والمسئولين والموسرين، وقد عمل أبو الوفا في مدرسة شمس الفتوح لصاحبها الشاعر على العزبي، كما عمل في كثير من الوظائف، بعد أن عرف اسمه كشاعر مجيد، لكنه فيما يبدو كان يؤثر العودة الى الحرية على ما اتيح له من الوظائف في مجلس الوزراء، وبنك مصر، وفي عهد ١٩٥٢ عمل في مصلحة الاستعلامات، ثم استقر في وزارة التربية والتعليم حتى أحيل للتقاعد في1962.

 

وقد عبر الأستاذ عبد القادر حميدة عن حالة أبو الوفا النفسية بأسلوبه الجميل المشرق فقال: «كان محمود أبو الوفا يعرف عن نفسه أكثر من كل الذين قرأوه، وكتبوا عنه. كان يعرف أن رصيده المبكر من الأحزان الكبار قادر على ابتلاع أي حزن جديد يهمي عليه من الآخرين، ولهذا ظل قادرا على الابتسام في وجه الحياة، ولكل مَنْ يلقاهم، ودودا، ومحبا، وعطوفا، ومتعاطفا. كانت ابتسامته على الدوام تعبيرا عن وسامة روح، وصفاء قلب، وشفافية يبصر بها أحزان محبيه وأفراحهم! معارفه جميعا كانوا من اللامعين، والغارقين في وهج الأضواء والجاه، لكنه ظل كل الوقت وحيدا، ومتوحدا، ومغمورا بضوء يشع من داخله هو، شفيفا ورهيفا، ومحلقا به في عالم رحيب موصول بالكون، وبالتأمل فيما أبدع الله!».

 

«في ظروف العسر لا تراه إلا بمثل ما يكون مكتفيا، وميسورا، ومضيئا بوسامة الكبرياء والتعفف! وكان يعرف أن الشعر هو أعظم ما يملك، لأن الشعر هو الذي أخذ بيده من حضيض الظلمات، إلى مراقي النور، ولأن الشعر لديه هو أقصي درجات السمو، يرقي به جبل العذابات، مستطلعا شاسع المساحات في هذا الملكوت، منشدا ما تبقي من أحزانه شعرا في مسرح من الفضاء، وجمهور من النجوم!!».

مشاركته في ثورة 1919

شارك محمود أبو الوفا في ثورة 1919، لكن كثيرا من المصادر التي كتبت عنه تقفز على هذه المشاركة.

صدقي باشا وهدى شعراوي

يروى أن بعض الأدباء سعى في سفر الشاعر محمود أبو الوفا إلى فرنسا لتركيب ساقٍ صناعية هناك على نفقة الدولة وتحدثوا في هذا إلى رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا. ثم رغبوا إلى الشاعر في أن ينظم قصيدة يحيي فيها صدقي باشا، فرفض أبو الوفا قائلاً إن التحية الآن معناها منافقة رئيس الوزراء، ولكنها بعد صدور القرار بسفره تعتبر شكراً واجباً، ولما صدر قرار سفره، وجه إلى الرئيس قصيدة شكر. ولكن الساق الصناعية التي ركِّبت له في فرنسا جاءت غير مناسبة له، وصار ارتداء الساق مصدراً لآلام مبرّحة له، أكرهته على التخلّي عنها والعودة إلى عكاكيزه، كذلك يروي أن هدي شعراوي كانت (و ليس وزارة إسماعيل صدقي) كانت هي التي ساعدته في تركيب ساق صناعية.

شعره الغنائي

شعر محمود ابوالوفا شعر جيد متميز استوفي عناصر التفوق في الشكل والمضمون، وهو في أغلبه تعبير راق عن مشاعر نفسية قلقة، تحس بالغبن والظلم من الدهر قبل البشر، ومن القدر قبل الحياة، وهو كثير التبرم بالحياة، والضيق بها، والتمرد عليها، لكنه لم يسف في أي من هذا كله، ولم يكن مثل عبد الحميد الديب وأمثاله، ومع كل ما حفلت به حياته من الأسي والحزن والشجن، فقد حفل شعر أبو الوفا بأجمل معاني الحب ومن ذلك قصيدته الأثيرة التي لا تزال تتردد بصوت الموسيقار محمد عبد الوهاب

عندما يأتي المساء

عندما يأتي المساء ونجومُ الليلِ تُنثَرْ

اسألوا لي الليلَ عن نَجْـمِي، متى نجميَ يظهر؟

عندما تبدو النجومْ في السما مثلَ اللآلي

اسألوا: هل من حبيبٍ عنده علمٌ بحالي؟

كلُّ نجمٍ راح في الليَّـ ـلِ بنجم يتنوَّرْ

غيرَ قلبي فهو ما زا لَ على الأفق مُحَيَّرْ

يا حبيبي لكَ روحي لك ما شئتَ وأكثرْ

إنَّ روحي خيرُ أفقٍ فيه أنوارُكَ تظهر

كلّما وجَّهتُ عيني نحو لـمّاحِ الـمُحَيَّا

لم أجدْ في الأفق نجماً واحداً يرنو إليَّا

هل تُرى يا ليلُ أَحظى منكَ بالعطف عليّا

فأُغنّي .. وحبيبي والـمُنى بين يديّا أَحِبَاؤُنا

 ومن شعره العاطفي المتميز قصيدة “أحباؤنا” ولعلَّها آخر ما نظمه:

 أَحِبَاؤُنا، أَنْتُم على البُعْدِ والقُرْبِ              بَعُدْتُمْ قَرِبْتُمْ ما لَدَيْنا سِـوَي الحُـبِّ

     فكونوا كَمَا شِئْتُم وشَاءَ هَوَاكُمُو               فَأَنْتُم هَوَي رُوْحِي، وأَنْتُم هَوَي قَلْبِي

     أُحِبُّكُمْو حُبّاً كأَنِّي نَهْلتُهُ                  مِنَ الحُبِّ في قَلْبِ المُحِبِّيْنَ للرُّبِّ

وقوله:

أَحْبَبْتُهَـا أَحْبَبْتُهَــا أَحْبَبْتُهــا                    وَأُحِبُّ في الأَيَامِ يَوْمَ رَأَيْتُها

     وَوَدِدْتُ لَوْ أَنِّي جَمَعْتُ لها المُنَي             وأَتَيْتُ بالدُّنْيَا لَهَا وَوَهَبْتُهَـا

وقوله:

     واللهِ لو بِيْدِي، لما تُرِكَ امْرُؤٌ                 ذو حَاجَـةٍ إلاّ لَـهُ نَوَّلْتُهَـا

تعبيره عن الصفاء النفسي في قصيدة “قلب الفنان”

كان الشاعر محمود أبو الوفا إنساناً بحق، بصفاء روحه وإنسانيته الشفيقة، ودعوته إلى الحبّ والقيم العليا، وإيثاره العيش لا بين المزاحمين، بل مع الهائمين كقوله:

     كُلُّ ما فِي الأَمْرِ أَنِّي هَائِمٌ                     ولَقَدْ آثَرْتُ عَيْشَ الهَائِمِيْن

 

وهو يعبر عن هذا الصفاء على نحو رائع حيث يقول:

أمشي وقلبي على كفي أقول ألا                    من راغب في فؤاد صادق حاني

يحب حتى كأن الأرض ليس بها                   إلا زنابق من آس وسوسان

وليس في الأرض من بغض ولا إحن                  وليس في الأرض ظلم وطغيان

وليس من فوقها إلا سواسية                        من الصحاب ومن أخدان أخدان

فلا وربك هذا القلب ما التفتت                     عين إليه فيا للبائس العاني

قصيدته الأولى “إيمان”

روى وديع فلسطين رواية مضطربة التاريخ (من حيث مقارنتها بقصة أبو الوفا مع أمير الشعراء أحمد شوقي) ويمثل مضمون هذه الرواية أهمية في تفسير معرفة شعراء المهجر المبكرة بأبو الوفا، وقد ذكر فلسطين ان أن الشاعر محمود أبو الوفا تقدم بقصيدته الأولى ايمان إلى فؤاد صرّوف محرّر “المقتطف” لينشرها، فأعجب بها أيّما إعجاب، ودفع بها إلى المطبعة فوراً لكي تظهر في أوّل عددٍ تال (نُشرت في المجلة في عام 1930) ولم تكد القصيدة تنشر حتى أعيد نشرها في عددٍ من صحف المهجر، وتلقي الشاعر عدّة رسائل إعجاب من القراء. وتتالت بعد ذلك قصائده في “المقتطف” ثم في مجلة “أبولو” بعدما انضم إلى تلك الجماعة التي أسسها أحمد زكي أبو شادي.

وفي هذه القصيدة يقول أبو الوفا:

قًوَّةٌ لَـــمْ تُتَــــحْ لِقَلْــــبِ جَبَـانٍ                     تِلْكَ فِي المَرْءِ قُوَّةُ الإيْمَـانِ

     تَتَجَلّى على جَمِيْعِ قوي الكَوْنِ                  شُيُوْعُ الأرواحِ في الأَبْـدَانِ

وختمها بقوله:

     يَكْرَهُ المَرْءُ أَنْ يَعِيْشَ على                    السِّجْنِ وَلَـوْ سِجْنُـهُ فـي الجِنَـانِ

اعتزازه بالمثل العليا

في كل أشعاره عبر الشاعر محمود أبو الوفا عن اعتزازه بالمثل العليا من صدق وإخلاص وحرية بقوله:

     لَمْ أَقُلْ غَيـْرَ ما حَسـِبْتُ مُفِيْـداً                لَيْتَ شِعْرِي، هل قُلْتُ شَيْئاً مُفِيْدا؟

     فإذا عِشْتُ، عِشْتُ حُرّاً ضَمِيرِي             مُسْتَرِيحاً لِمَـا صَنَعْـتُ سَعِيْـدا

     وإذا مـِتًّ، مـِتًّ حُـرّاً لأَنِّـي                   لَمْ أُضِفْ للحَيَـاةِ قَيْـداً جَدِيْـدَا

     بل إذا مِتُّ لَـمْ أَجُـرَّ ورَائِـي             مِنْ كَلامِـي سَلاسِـلاً وحَدِيْـدَا

وقوله:

     لا تَقُلْ عَني إنَي مِنْ تُرَابٍ                    نَّمَا قُلْ: آهِ، ما أَغَلَي التًّرَابْ

غزله الجميل في مصر الحبيبة الى نفسه

يتحدث الشاعر محمود أبو الوفا عن وطنه حديثا رقيقا فيقول في قصيدته جمال مصر:

جمالك يا بنت مصر كمصر                       يجمع كل فنون الجمال

ففي مصر حلي النسيم اعتدال                      وفيك يحلى القوام اعتدال

وفيك من الشمس حسن الصقال                    وبعد المنال وبذل النوال

وفيك السهول وفيك الربا                           وعنف الشمول ولطف الشمال

تباركت يا نيل هذا جناك                           وهذي المخايل من ذي الخلال

قصته مع ابنته المتبناة نجوى

وفي ديوان أبي الوفا قصيدة خلد بها السيدة نجوى ابنة زوجته، فقد كانت هذه الفتاة قد ولدت وقد تأخرت لديها حاستا السمع والنطق، فتعهدها أبو الوفا وأنفق عليها من رزقه القليل في سبيل علاجها حتى استقامت لها أوضاعها الصحية، وأشرف على تعليمها وتنشئتها حتى كبرت وصارت زوجةً وأمّاً سعيدة. وكانت تناديه دائماً بلفظة “بابا” وتولت رعايته في شيخوخته، وفي هذه القصيدة يقول أبو الوفا:

  نَجْوَي، ومَا أَنْتِ إلاّ كًـلُّ مُدَّخَـرِي                 أَنتِ الحَيَاةُ وأَنْتِ مَنْ أُنَاجِيْهَا

     لا شَيءَ عِنْدِي سِوَي رُوْحِي وها أنذا                  مِنْ غَيْرِ مَنِّ إليكِ الآن أُهْدْيهَا

حديثه عن بؤسه

يحفل شعر أبي الوفا بنغمات الحزن والأسي بسبب ما كابده في حياته من صنوف الهموم كقوله:

نُوْحٌ أَنَا، غَيْرَ أَنِّي لا أُرِيْدُ لَهَا                           طُوْفَانَ نُوْحِ، فَهَلْ بِغُفْرانِ؟

أَمْشِي وَقَلْبي على كَفِّي أَقُوْلُ: أَلاَ                        مِنْ رَاغِبٍ في فُؤادٍ صَادِقٍ حَانِي

يُحِبُّ حتى كأَنَّ الأَرْضَ لَيْسَ بِهَا                        إلاّ زَنَابِـقُ مِنْ آسٍ وَسَوْسَـانِ

فَلاَ، وَرَبِّكَ، هذا القَلْبُ ما الْتَفَتَتْ                       عَيْنٌ إِلَيْه، فَيَا لِلْبَائِـسِ العَانِـي

وصفه لسوء حظه

تحدث أبو الوفا في شعره الصادق الموحي حديثا موجعا عن القيود التي تكبّل رجليْه فقال:

قَضَـي زَمَانِـي بِأَنِّـي                     أَمْشِي ورِجْـلاَي في القُيُـوْدِ

     أَصْبَحْتُ مِنْ خَوْفِ القُيُوْدِ                     أَخَـافُ وَسْوَسَـةَ القَرئِـدْ

 

وقال معبّراً عن يديه المغلولتين عن فعل ما يريد:

     أريدُ، وما عسى تُجْدِي “أُرِيْدُ            علي مَنْ لَيْسَ يَمْلِكُ ما يُرِيْدُ

 

كما قال معللاً تجهّمه للدنيا:

     عَهْدُ الصَّرَاحَةِ، ما بالُ الصَّريْح بِهِ           لا يَمْلِكُ النُّطْـقَ إلاّ بالكنايات

     أُحِـبُّ أَضْحَـكُ للدُّنْيَـا فَيَمْنَعُنِي           أنْ عاقَبَتْنِي على بَعْض ابْتِسَامَاتِي

 

وهذه أبيات تعبر في قسوة زائدة وتصوير مضخم عن حظِّه التعيس:

     لَوْ خَلَعْتُ الثَّوْبَ أَبْغِي غَسْلَهُ             أَقْسَمَتْ شَمْسُ الضُّحَي لَمْ تَطْلُعِ

     لَوْ طَلَبْتُ النَّهْرَ أَرْوِي ظَمَأً               لاشْتَكَي النَّهرُ جَفَـافَ المَنْبَـعِ

     وَلَوْ إنِّي تَلْمِسُ التِّبْرَ يَدِي                حَوَّلَ التِّبْـرَ تُرَابـاً إصْبَعِـي!

رثاؤه لنفسه

في لحظة من لحظات التبرم بالدنيا، رثى أبو الوفا نفسه رثاء لجأ فيه إلى الفكرة التقليدية المتداولة بل المستهلكة التي يهاجم فيها كل شاعر بائس والديه اللذين أنجباه للبؤس:

     فـي ذِمَّـةِ الله نَفْـسٌ ذاتُ آمـالِ                وفي سَبِيْلِ العُلا هذا الـدَّمُ الغَالـي

     بَذَلْتُهُ، لَمْ أَذُقْ فِي العُمْـرِ واحِـدَةً               مِنَ الهَنَاءِ، ولا مِنْ رَاحةِ البَـالِ

     كأَنَّنِي فِكْـرَةٌ فـي غَيـْرِ بِيْئَتِهَـا                 بَدَتْ، فَلَمْ تَلْـقِ فِيْهـا أي إِقْبَـالِ

     أَوْ أَنَّني جِئْتُ هذا الكَوْنُ عن غَلَطٍ           فَضَاقَ بي رَحْبُهُ المَأُهُوْلُ والخَالِي

     أَبِي، وفي النَّار مَثْوَى كُلِّ والـدةٍ              و والدٍ أَنْجَبَـا لِلْبُـؤْسِ أَمْثَالِـي!

البداية العاصفة في علاقته بأمير الشعراء

أبرز ملمح مبكر لا يزال يروى عن مسيرة حياة أبو الوفا المبكرة هو قصة بداية علاقته بأمير الشعراء أحمد شوقي، إذ كانت بداية عاصفة، وهناك روايتان عن علاقته بأمير الشعراء، والروايتان لا تختلفان إلا في التفاصيل، ولهذا فسنبدأ بالرواية الأولى ثم نشير الى اختلافات الثانية عنها.

 

أفضل المصادر التي أوردت الرواية الأولى بالتفصيل هي كتاب الأستاذ عبد القادر حميدة «أوراق بدون ترتيب في الأدب والفن والحياة» وفيه يذكر أن الشاعر محمود أبو الوفا شارك في الحفل الذي أقيم لتكريم شوقي ومبايعته بإمارة الشعر (1927)، لكن شوقي لم يحسن استقباله في ذلك اليوم، ثم عاد فكفر عن سلوكه معه وأوصي أولاده أن يكون أبو الوفا مسئولا عن مراجعة ديوانه.

 

«… التقيت به (الضميران يعودان على حميدة، وأبو الوفا) لأول مرة عام 1957، وكان ذلك في بيته، بحارة المدابغ، في حي باب الخلق. كنت وقتها في بداية عملي الصحفي، محررا أدبيا، بمجلة «التحرير» التي تصدر عن دار الجمهورية، وكان رئيس تحريرها حينذاك الزميل الكبير الأستاذ عبد العزيز صادق، الكاتب الآن بمجلة أكتوبر، حيث كلفني بإجراء «حوار» مع الشاعر محمود أبو الوفا».

 

«… حكي كل شيء عن حياته.. ومن بين ما حكاه واقعة الاحتفال بشوقي في مناسبة أقيمت خصيصا لتكريمه أميرا للشعراء، كان ذلك في عام 1927، وكان معهد الموسيقي العربية قد دعا إلى مسابقة بين شعراء الوطن العربي، موضوعها: تكريم أمير الشعراء، كان شرط الاشتراك في هذه المسابقة أن تقدم القصائد مجهّلة من أسماء أصحابها، كي لا يقع أعضاء لجنة الفحص تحت تأثير أسماء الشعراء الكبار، المتسابقين، وكانت الجائزة التي رصدت هي أن يلقي الشعراء الفائزون قصائدهم في مهرجان التكريم الذي سوف يحييه مطرب الملوك والأمراء في ذلك الزمن محمد عبد الوهاب».

 

«ومن كل فجاج الوطن العربي هرع كبار الشعراء بقصائدهم إلى المسابقة، مؤملين أن يحظوا بشرف تكريم أمير الشعراء، وكانت المفاجأة مذهلة للشاعر الشاب محمود أبو الوفا، إذ فازت قصيدته بالمرتبة الأولي!». «في المهرجان.. أخذ المحتفلون مجلسهم وجميعهم شعراء، وكتاب وصحفيون وفنانون، وعائلات من علية القوم، وكان الشاعر محمود أبو الوفا بجلبابه الأبيض، ووجهه الوسيم المشرب بحمرة هادئة، يقف في مدخل قاعة الاحتفال، متكئا على «عكاز» من الخشب عوضا عن ساقه التي بترت وهو في العاشرة من عمره، وما إن أعلن عن اسمه كفائز بقصيدة التكريم حتى بدا يخطو إلى المنصة سعيدا بحظوة الفوز، وبالمناسبة معا! غير أن أمير الشعراء ما إن لمح الشاعر الشاب في هيئة الجلباب والعكاز، حتى اكتست سحنته بالغضب وأقسم على مسمع ومرأى من الحضور ألا يكون هذا هو الشاعر الفائز في مهرجان تكريمه!!».

 

«وهكذا انطفأت بداخله كل مصابيح الفرح!».

«ثم استدار، صامتا، متكسرا، مغادرا المكان!!».

«كان محمود أبو الوفا، وقتها، يعمل محررا أدبيا في مجلة «المقتطف!».

«وكان رئيس تحريرها فؤاد صروف الذي يحبه ويؤمن بشعره وشاعريته، قد عز عليه كثيرا أن يهان، وألا يرد هذه الإهانة، عندئذ دفع إليه بإحدى «الشوقيات» وطلب منه أن يتناولها بالنقد على صفحات «المقتطف»، متوقعا أن ينفث غضبه من شوقي، فيما سيكتب».

«فهل فعل أبو الوفا ما قصده فؤاد صروف ؟».

 

«قال لي محمود أبو الوفا: أعترف أنني حين تصديت للكتابة عن « الشوقيات » لم يكن يملأ قلبي، وروحي، وعقلي غير أن شوقي هو الشاعر العظيم الذي أحببت، وأحببت أن أكون على رأس مكرميه».

«فلما قرأ شوقي ما كتبت، فوجئت به يطرق باب مكتبي في المقتطف، وراح يعتذر لي مبديا أسفه الشديد مما حدث منه، ومبديا دهشته أكثر من الفرصة التي أتيحت لي كي أنال من شعره، لكنني لم أفعل!».

 

يستطرد أبو الوفا: «ومنذ تلك اللحظة أحببت شوقي أكثر، وصرنا صديقين حميمين، فلما سافرت إلى باريس، لتركيب ساق صناعية، كان شوقي في مقدمة مَنْ استقبلوني، عائدا من رحلة العلاج، فلما أقامت رابطة الأدب الجديد حفلا لتكريمي وتهنئتي بالعودة، ألقي أمير الشعراء قصيدة في هذه المناسبة من عيون الشعر، وراح أبو الوفا، بصوته العريض العذب، يلقي القصيدة من الذاكرة، فلما بلغ الأبيات الأخيرة فيها أجهش صوته بمثل ما يجهش الأرغن نغما حزينا من طبقة القرار العميق في المشاعر وهو يردد:

البلبل الغرد الذي هز الربى                  وشجى الغصون، وحرك الأوراقا

خلف البهاء على القريض وكأسه                  فسقى بعذب نسيبه العشاقا

في القيد ممتنع الخطى، وخياله                    يطوي البلاد وينشر الآفاقا

سباق غايات البيان جرى بلا                 ساق، فكيف إذا استرد الساقا؟!

لو يطعم الطب الصناع بيانه                  أو لو يسيغ لما يقول مذاقا…

… غالي بقيمته، فلم يصنع له                      إلا الجناح محلقاً خفاقا!

 

وقد توطدت علاقة الشاعرين الكبيرين حتى إن أحمد شوقي، أوصي نجليه (علي وحسين) بأن يعهدا إلى الشاعر أبي الوفا دون سواه في الإشراف على نشر بقية أجزاء ديوان “الشوقيات”، وقام أبو الوفا فعلاً بالإشراف على نشر الجزء الثاني.

الرواية الأقل دقة التي أوردها الأستاذ وديع فلسطين

أما الرواية الثانية التي رواها الأستاذ وديع فلسطين ففيها اضطراب واضح في التواريخ (إذا ما قورنت بروايته هو نفسه عن قصة لقائه الأول بفؤاد صروف) وتذكر هذه الرواية أن محمود أبو الوفا كان قد انتهز فرصة إعلان محطة الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية عن مسابقة بين الشعراء ودخل المسابقة بقصيدة عنوانها “تغريدة” ظفرت بالجائزة الأولي. وكان مطلع القصيدة:

صَدَّاحَةَ الرَّوْضِ، ما أَشْجَانا                  نُوْحِي بِشَكْوَاكِ، أو نُوْحِي بِشَكْوَانا

 

وأقيم في دار الأوبرا الملكية الحفل الكبير لتوزيع الجوائز على الفائزين، وكان من الحاضرين أمير الشعراء أحمد شوقي بك. ولمّا نُودي اسم الفائز الأول، رأي شوقي رجلاً يرتدي جلباباً أبيض ويتوكأ على عكازتين يخرج من بين الصفوف ويدّب على الأرض إلى أن ارتقي الدرج بعناء شديد ليقف على المنصة ويتسلم الجائزة الأولي. فمال شوقي على جاره وقال له ما معناه: من سخرية الأقدار ألاّ يفوز بالجائزة إلاّ صاحب الجلباب والساق المبتورة! تنوقلت هذه العبارة حتى بلغت مسامع أبي الوفا فغضب من شوقي غضبا شديدا أعلن عنه في كل مجلس يغشاه. ولم تلبث غضبته أن بلغت [بدورها] أمر الشعراء الذي أدرك مدي جنايته على الشاعر المسكين. ومن ثمّ قرر إقامة حفل لتكريمه في داره المعروفة باسم كرمة ابن هانئ على شاطئ النيل في الجيزة ودعا جمهرة من الشعراء والأدباء لحضور الحفل، وحرص على أن تُلتقط له صورة وهو واقف إلى جوار المحتفى به وسائر الضيوف من حولهما. ولم يكتف شوقي بذلك، بل حيّاه بالقصيدة الشهيرة التي نشرت على الغلاف الداخلي لديوان أبو الوفا في طبعتيه الأولي والثانية.

تقدير حافظ إبراهيم له

وكما تميزت علاقته بأحمد شوقي فقد تميزت علاقته بحافظ إبراهيم، ويروي أن حافظ إبراهيم حين ترجم رواية «البؤساء» لفيكتور هيجو، توجه اليه أبو الوفا بالتحية، وقال ضمن ما قال:

  يا صاحِبَ البُؤَسَاءِ، جاءَكَ شاعرٌ                  يَشْكُو مِنَ الزَّمَنِ اللَّئيْم العَاتِـي

     لَمْ يكْفِهِ أنّي على عُكَّازَةٍ أَمْشِـي                    فَحَطَّ الصَّخْرَ فـي طًرُقَاتِـي

     ثم انْثَنَي يُزْجِي على مَصَائِبـاً                      سُحُباً كَقُطْعَانِ الدُّجَي جَهِمَاتِ

     فَغَدَوْتُ في الدُّنْيا ولا أَدْرِي أَمِنْ                   أَحْيَائِهَا أنا أَمْ مِنَ الأَمْـوَاتِثم خاطب “هوجو” قائلاً:

    خَفَّفْتُ يا (هوغو) عليكَ فَلَمْ أُطِلْ                  وبَعَثْتُها فَصْلَيْن مِـنْ مَأُسَاتِـي

     ولو انَّنِي أُعْطِيْت بُؤْسِي حَقَّـهُ                     وصفا، لصور معرض النكبات

فقرة من نقد العقاد لديوانه

تحدث الأستاذ العقاد عن ديوان الشاعر محمود أبو الوفا “أنفاس محترقة” حديثا منصفا أقرب الى المديح والحمد، وان لم يخل الامر من إدارته حوارا فلسفيا نقديا حول بعض عبارات الديوان مما كان الأستاذ العقاد لا يرحب بوجوده في الشعر: “فالعبارات «المحسوسة» في ديوان أبي الوفاء غير قليلة، ولكن القليل فيه هو العبارات الببغاوية التي يقولها من لا يعيها، ويسمعها من لا يعي منها غير إشارة كإشارة اليد أو صيحة كصحية النداء المجهول: أنماط كأنماط التحية المتفق عليها بمعزل عن عمل الرأي والقلب واللسان. ولعلنا ننصف النقد الصادق وننصف الشاعر من هذا النقد إذا سألنا أصحاب الرأي الذي يأبى على الشاعر رخصة الكلم المشاع: أترون هذه الابيات يلائمها تعبير أصلح لها من هذا التعبير؟ أترونها أقرب إلى طبعها ومعدنها في كلمات الشاعر أو في كلمات تقترحونها لم تشع على الألسنة في الأحاديث ولم تتواتر على الأقلام في أنباء الصحافة؟

 

“من اختار لها كلماتها في نظم الشاعر فقد أنصفه من النقد وأنصف النقد منه، ومن اقترح لها كلمات غير كلماته فله أن ينظر من التأييد والاستحسان وفاق حظه من الإصابة والتوفيق.

تقدير الأستاذ عباس خضر لديوان ” أنفاس محترقة”

كتب الأستاذ عباس خضر مقالا رائعا عن الشاعر محمود أبو الوفا وعن ديوانه “أنفاس محترقة”، في مجلة الرسالة في فبراير 1950 فقال: “لست أدري لم لا يلمع الآن اسم الشاعر محمود أبو الوفا، ولم لا ينال حقه من التقدير اللائق به، حتى كاد ينساه من عرفه من أهل الجيل، وحتى كاد يجهله الشادون من الجيل الجديد، وهو الذي قال فيه أمير الشعراء منذ ثمانية عشر عاما ” البلبل الغرد الذي هز الربا … ” وهو نفس الذي قال ما قال ولا يزال من الشعراء ما يقوم حجة على أن الشعر ما زال حيا على رغم قابليه من قائليه.

 

ويذهب الأستاذ عباس خضر الى توكيد القول بأصالة شاعرية محمود أبو الوفا وقوة بذرتها وعمق جذورها، فهي كنبتة الصحراء تنبت قوية رغم الجفاف وحرمان التعهد، ثم تعيش رغم ما يصطلح عليها من الأنواء. وقد أكسبه عراك الحياة والاحتكاك بالقساة من الناس الذين لا يصدرون إلا عن الأهواء والأغراض، أكسبه ذلك نفوذ بصيرة إلى دخائل النفوس، فتغلغل إليها بأداته الشاعرة، وهو يستشهد على هذا بقول الشاعر يقول تحت عنوان (جاء):

لا تلمه إن لم يعنك بجاه …                   هو قد باع نفسه واقتناه

فحرام إن باعه دون ربح …                 أو بشيء أقل مما اشتراه

 

وقوله:

أخي قل لي ولا تخجل …                   بماذا قد ترقيت؟

وما أنت بذي جاه …                    وعمرك ما تزوجت!

“إن ديوان (أنفاس محترقة) يعيد إلى الشعر اعتباره بعد أن انصرف كثير من الناس عن قراءته لكثرة هذر الشاعرين، وأنا زعيم بأن هؤلاء المنصرفين، إذا عرض لهم هذا الديوان، لن يستطيعوا عنه مصرفا”.

 

ويقول الأستاذ عباس خضر في موضع سابق: ” لقد سعدت بديوانه الجديد (أنفاس محترقة) وقضيت في روضه أوقاتا طيبة، ومما قرأت فيه رثاؤه لنفسه، إذ يقول:

في ذمة الله نفس ذات آمال                    وفي سبيل العلا هذا الدم الغالي

بذلته لم أذق في العمر واحدة                       من الهناء ولا من راحة البال

كأنني فكرة في غير بيئتها                    بدت فلم تلق فيها أي إقبال

أو أنني جئت هذا الكون عن غلط            فضاق بي رحبه، المأهول والخالي

 

ثم يعاود الأستاذ عباس خضر التساؤل عن سر هذا الظلم الذي يعانيه هذا الشاعر العظيم: “لست أدري لم تحترق هذه الأنفاس، ولم يضيق بصاحبها الرحب، ولم لا يأخذ هذا الشاعر مكانه من قمة الشعر العربي في هذا العصر؟ ولكنني أدري.. أنه رجل فقير أبى يضع نفسه حيث تحلق شاعريته، يمشي على عكازة ويوضع الصخر في طريقه. ….”

 

” لو كان محمود أبو الوفا من ذوي النفوذ أو المال في هذا البلد، أو حتى مدير إدارة في أية وزارة، لكان أمير الشعراء. . . والحق أنني قبل ظهور هذا الديوان لم أكن قرأت كثيرا لأبي ألوفا، وإن كان القليل الذي قرأته له من قبل قد هزني، ولعل ذلك – أي قلة القراءة – يرجع إلى انزواء الشاعر في العشرين السنة الأخيرة أو إقلاله من النشر، ويبدو لي كأنه منطويا على نفسه لما لاقاه من أخلاق الناس وعنت الأيام. وهو يعبر عن مكافحته في الحياة، وبصور حياة الكفاح الشعوري التي عاشها، أقوى تعبير وأصدق، ولا تستطيع ضرورات الحياة التي يجاهد من اجلها هذا الشاعر أن تحول بينه وبين التغريد والتغني بالجمال.

قسوة طه حسين على الشاعر أبو الوفا

في مقابل ما قدمنا ذكره عن قصد من هذا التقدير الكبير من الشاعرين الكبيرين أمير الشعراء، وشاعر النيل حافظ إبراهيم ، وفي مقابل إشادة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي والدكتور محمد حسين هيكل بديوانه الأعشاب مما لم ننقل نصوصه، وفي مقابل التقدير المحسوب من الأستاذ العقاد الناقد الأستاذ عباس خضر فإن الدكتور طه حسين كان من أقسي الناس على أبو الوفا، فعندما أصدر الشاعر ديوانه “أنفاس محترقة”، فوجئ الشاعر بالدكتور طه حسين يشنّ عليه حملة قاسية واصفاً إياه بالناظم، لا الشاعر، ويذكر أن طه حسين قد انحاز في ذلك الوقت (علي ما يروي وديع فلسطين) إلى الإعجاب بالشاعر على محمود طه وحده، والقسوة على جميع الشعراء من أصحاب الدواوين التي اتفق صدورها في نفس التوقيت، ومنهم أبو الوفا، وإبراهيم ناجي، والشاعر المهجري فوزي المعلوف. وقد عرض الأستاذ عبد القادر حميدة مقال طه حسين وانطباعه عنه على نحو جميل حيث قال:

 

«… وكان مقال طه حسين أقسي من بتر ساقه، وأبشع من إهانة شوقي! إذ جرده عميد الأدب من موهبة الشعر، واعتبره دخيلا عليه، ومتطفلا، وأغلظ القول على مَنْ يؤمنون به شاعرا، وطعنهم في ذوقهم، ومنهم أصدقاء حميمون لطه حسين، إن لم يكونوا جميعا، وأشهد (الضمير لعبد القادر حميدة) أنني حين قرأت هذا المقال، في الجزء الثالث من حديث الأربعاء، اقشعر جسدي من عنف اللهجة التي تناول بها طه حسين ديوان «أنفاس محترقة» للشاعر، وبالرغم من متعتي قارئا بكتابات طه حسين، فإني لم أستطع أن أفلت من ضيقي ودهشتي من عنف التناول! كيف يكون النقد ضاريا إلى هذا الحد، وشرسا؟!».

 

«منذ السطور الأولي يبدو سافر القسوة، وكأنه يترصد الشاعر كي يلقي به في الظلمات، من نافذة الشعر!!».

«فهو يقول عن الديوان: «آسف أشد الأسف، لأني لا أراه إلا نظما!».

«إن صاحب هذا الديوان لا يستطيع أن يرقي بديوانه هذا إلى منزلة الشعراء!».

«إن هذا الديوان يخلو من الشعر تماما!».

«إن هذا الديوان، على خلوه من الشعر، لا يخلو من سوء النظم، وفساده، واضطرابه الذي لا يطاق!».

«وعلي هذا المنوال عشر صفحات من السياط الممشوقة بلغة طه حسين، وعنف تصديه بالتحليل، والتمثيل، والأدلة، والتعريض بالشاعر!!».

«وكان حريا بمحمود أبو الوفا أن يهمل هذا المقال وهو يضمّن أعماله الكاملة، نماذج من الدراسات التي كتبت عنه، خاصة أنه الكاتب الوحيد الذي أنكره شاعرا، لكنه لم يفعل!!».

«ولست أذكر أنه نال من طه حسين في أحاديثه معي منذ أن صرنا صديقين، وطيلة اثنين وعشرين عاما، حتى لقي ربه في السابع والعشرين من يناير 1979».

تكريمه

في عهد الرئيس السادات كان الشاعر محمود أبو الوفا من أبرز الذين كرمتهم أكاديمية الفنون وقد منح ما سمي جائزة الجدارة وقيمتها ألف جنيه، ولكن القيمة المادية لهذه الجائزة لم تصل فيما يروى إلى جيب الأستاذ الشاعر، لأنه عهد في صرف الشيك إلى غيره لعجزه عن الذهاب بعكازيْه إلى المصرف، فاستحلّ هذا الغير قيمة الشيك لنفسه، واكتفي الشاعر بالفوز بلقب “الجدارة” عن جدارة!

 

ويروي أنه عندما تقدم أبو الوفا من الرئيس أنور السادات لتسلم جائزة الجدارة أن سأله الرئيس إن كان في حاجة إلى شيء. فقال له يا سيادة الرئيس، إنني أقيم في منزل قديم متهالك يشبه الجُحر، ويكاد ينهدم فوق رأسي، فهلاّ أمرتَ بمنحي شقّة مريحة أقضي فيها بقية عمري؟ فأمر الرئيس بمنحه شقة جديدة فوراً! ولكن مضت ثلاث أو أربع سنين حتى تحقق هذا الأمر الفوري بفضل البيروقراطية، وفوجئ أبو الوفا بأن الشقة الجديدة تقع في منطقة شبه صحراوية.

آثاره الشعرية

تتمثل آثار أبو الوفا الشعرية في دواوينه التي تغيرت أسماؤها ولكن محتوياتها انتقلت من ديوان إلى آخر مع إضافات، وقد حظي ديوانه الأول «أنفاس محترقة» (1932) بالثناء الجميل، والتقدير الزائد، ثم توالت دواوينه التي لم تنل شهرة ديوانه الأول.

 ومن الدواوين التي صدرت له:

ـ الأعشاب، 1934.

ـ أشواق، 1941.

ـ شعري، 1962.

ـ أناشيد وطنية.

ـ عنوان النشيد، 1951.

ـ النشيد.

ونُشر له بعد وفاته ديوان “أشعاري في الحب” وهو يضم منتخبات من قصائده في الحب.

ديوانه الجامع لشعره

صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مجلد يضم دواوين أبو الوفا مجمعة في ديوان واحد مع إعادة ترتيب القصائد في الدواوين، ودمج الدواوين مع دراسات نقدية عن «محمود أبو الوفا دواوين شعره ودراسات بأقلام معاصريه»، وقد كان لي الشرف أن أعدت طباعته مرة أخري (2008) على نحو ما كان قد صدر من قبل.

جهده في التحقيق وصياغة الترجمة

حقق محمود أبو الوفا ديوان «الهذليين»، وقصيدة «اليتيمة»، ووضع اسمه كمترجم على رواية «جريمة سان سلفستر»، مع أن دوره اقتصر على تنقيح أسلوب الترجمة. ولكن ناشرها إلياس أنطون إلياس صاحب “القاموس العصري” قال إنه يقدر الجهد الذي بذله أبو الوفا في تنقيح الترجمة حتى كادت تضاهي الأصل، ولهذا فقد رأي أن من حق الشاعر أن يقال عنه إنه هو الذي ترجم هذه الرواية.

وفاته

توفي محمود أبي الوفا في السادس والعشرين من يناير 1979، ونقل جثمانه إلى قريته الديرس ووضعت عليه لوحة أوصي بأن تعلق على ضريحه، وفيها يقول:

حَسْبِي إذا الحُبًّ أَضْنَانِي فَمِتُّ هَوًي              إنْ يَذْكُرُوني قالوا: كانَ إِنْسَانَا

 

وقرر محافظ الدقهلية إقامة ضريح له ومسجد يطلق عليه اسمه، ومتحف يلحق بالضريح ويضم متعلقاته التي لم تكن إلاّ جلبابه الأبيض وفردة حذائه وساقه الصناعية ومجموعة عكاكيزه وعويناته (وكان قد كف بصره في أواخر عمره) وطربوشه والنيشان وشهادة الجدارة وكتبه ودواوين شعره.

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com