نبدأ بالقول بأن علي مبارك باشا (1824 ـ 1893) لقب بأبي التعليم، وفي هذا التلقيب جانب كبير من الصواب والحق والإيحاء ، فهو رائد للتعليم المصري الحديث في جوانب كثيرة ،لكنه أيضا هو رائد التوثيق والتوظيف والتثقيف والهندسة كما أنه رائد من رواد الموسوعية و الكتابة الموسوعية على حد سواء، ولهذا السبب فقد خصصنا له بابا من أبواب كتابنا عن أصحاب الريادة في الموسوعية عن مصر، وقد تمثلت ريادته للكتابة الموسوعية في كتابه الأشهر « الخطط التوفيقية » بأجزائه العشرين، وبهذا الكتاب تكرس وتحقق وتخلد إحياؤه لفن الخطط وما يمثله هذا الفن من مقاربة موسوعية للتاريخ والتراث والحاضر والثقافة والأدب، ومما يجدر بي أن أفخر به أنني أعدت طباعة هذا الكتاب بمجلداته العشرين في الهيئة العامة للكتاب في طبعة فاخرة، فلما نفد في خلال ساعات كان هذا مدعاة لإعادة طباعته على نطاق أوسع في مكتبة الأسرة ومن الإنصاف لتاريخنا أن نذكر أن كل هذه الميادين سجلت اعتزازها بأبوة هذا العلم الفذ وامتنانها له بما يفوق موقفها من أي علم آخر، كان علي مبارك باشا ومعه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الله فكري أبرز الوجوه الفكرية في القرن التاسع عشر، كما أنه ومعه البارودي ومحمد عبده وعبد الله فكري والمويلحي والبكري يمثلون في ذلك القرن أعلام الأدب بمعناه الواسع، كان علي مبارك من حيث المهنة والكادر مهندسا منجزا ومخططا وصاحب رؤية وحلم لكن قيمته الفكرية أعلى من قيمته الهندسية، وكلتاهما أعلى من قيمته السياسية وإن كان هو – بلغة عصرنا – أبرز شخصية تكنوقراطية بين الساسة العرب في القرن التاسع عشر كله .
نشأته
يعود أكثر ما نعرفه عن سيرة علي مبارك باشا الذاتية إلى ما رواه هو بنفسه من هذه السيرة، وقد روى أنه ولد في برنبال وقضى فيها السنوات الأولى من حياته، وكان هو الشقيق الوحيد لسبع شقيقات، وذكر أن ظروفا مالية قاسية مرت بعائلته، فهاجرت إلى أكثر من بلد مجاورة، وكان عمره إذ ذاك ست سنوات، وكان قد ابتدأ في تعلم القراءة والكتابة. وكانت «عرب السماعنة» بالشرقية إحدى البلاد التي هاجر إليها في صحبة والده، وكان أهلها أناسا طيبين، ولم يكن عندهم فقهاء، فأنزلوا والده منزل الإكرام والإجلال وانتفعوا منه وانتفع منهم انتفاعا كبيرا، وأصبح مرجعهم في الدين، وكان ـ أي والده ـ رجلا صالحا، متفقها في الدين، حسن الأخلاق، فأحبوه حبا شديدا، وبنوا جامعا خاصا جعلوه إمامه، وهو يصف والده فيقول: كان والدي جميل الهيئة، أبيض اللون، فصيحا متأدبا، آثار الصلاح والتقوى ظاهرة عليه.
عمله في وظائف بسيطة ودراسته العليا
في فترة اغتراب والده عن قريته عاش على مبارك باشا حياة مضطربة مغتربا حينا، برغم طفولته، وعائدا إلى رحاب أبويه حينا آخر، لكنه استطاع في هذه الفترة أن يتم حفظ القرآن الكريم. وحين شب عوده قليلا مارس أعمالا كثيرة، كان منها العمل كاتبًا في السجن حيث تولى كتابة أسماء المسجونين، فعاملوه كأنه سجين، الأمر الذي دفع به إلى الهرب وممارسة أعمال أخرى كان راتبه الشهري فيها يتراوح بين خمسين قرشا وخمسة وسبعين قرشا.
وانتهى الأمر به إلى الالتحاق بمدرسة قصر العيني، وكانت مدرسة مدنية عادية قبل أن تتحول إلى مدرسة للطب، ومنها انتقل إلى مدرسة أبي زعبل التي انتظم فيها، وقد وصف حالته الدراسية فيها فقال: «كان أثقل الفنون على وأصعبها فن الهندسة والحساب والنحو، فكنت أراها كالطلاسم، وأرى كلام المعلمين فيها ككلام السحرة»، ولكنه مع الصبر والمثابرة نبغ في الهندسة والحساب، وصار أول فرقته، فوقع عليه الاختيار للالتحاق بمدرسة المهندسخانة، بعد ثلاث سنوات من دراسته في مدرسة أبي زعبل، وقضى في مدرسة الهندسة خمس سنين أخرى، تلقى في أثنائها علوم الجبر والميكانيكا والديناميكا وتركيب الآلات وحساب التفاضل وعلم الفلك الذي كان يقوم بتدريسه محمود باشا الفلكي، والطبوغرافيا، والكيمياء، والطبيعة، والمعادن، والجيولوجيا، والهندسة الوصفية، وقطع الأشجار والأحجار.
الابتعاث إلى أوروبا وعودته المظفرة
هيأت المقادير لعلي مبارك باشا السفر إلى أوروبا، وقد رشحه للبعثة سليمان باشا الفرنساوي وكانت البعثة التي ألحق فيها على مبارك للسفر إلى فرنسا تضم عددا من أمراء أسرة محمد علي، ومن بينهم الأمير إسماعيل الذي أصبح هو الخديو الأشهر، وسافرت البعثة في أخريات عهد محمد علي وبالتحديد سنة 1844 أي بعد أن قلمت أظفار والي مصر بمعاهدة لندن 1840، وأصبح على مبعوثيه أن يفكروا في الحياة المدنية والهندسية لا في الحروب والعسكرية، وفي فرنسا تعلم على مبارك باشا اللغة الفرنسية، وبعد سنتين من البعثة ألحق بمدرسة الطوبجية والهندسة الحربية بمدرسة ميتس، ومنح رتبة الملازم الثاني، وقضى في تلك المدرسة سنتين تعلم خلالها فن الاستحكامات الخفيفة والثقيلة والعمارات المائية والهوائية، عسكرية ومدنية، والألغام وفنون الحرب .
وشاء حظه الحسن أن يكون القائد إبراهيم باشا بن محمد على في باريس عندما عقد الامتحان النهائي لهؤلاء المبعوثين ومنهم ولده الأمير إسماعيل، وكان ترتيب علي باشا مبارك الأول بين الناجحين، وقد سلمه إبراهيم باشا بيده هدية التفوق، وعاد بعدها إلى مصر في أثناء عهد عباس باشا الأول، وبعد عودته اشتغل ياورا لسليمان باشا الفرنساوي أركان حرب الجيوش المصرية، وقد أجاد علي مبارك نفسه تصوير اللحظة التي حدث فيها لقاؤه بأمه عند باب خشبي، إذ كانت الأم تمسك بيدها المسرجة وهي تفتح الباب لترى في الضوء الخافت ضابطا واقفا أمامها، فتصرخ رعبا، لأن الضباط والعساكر لا يذهبون إلى البيوت في ظلم الليل إلا للشر. لكن الشاب الذي كان يدرك هذا المعني قال لأمه: أنا علي.. أنا علي، فصاحت الأم وهي تقترب بالمسرجة في يدها نحو وجهه: علي.. ابني؟ ثم اطمأن قلبها، وتبدل الفزع إلى فرح، ووضعت المسرجة على الجدار ورفعت كفها إلى فمها وزغردت، فقد أصبحت بين أحضان ولدها العائد من فرنسا. واستيقظت قرية «برنبال» على أصوات الزغاريد، وحمل الفلاحون فوانيسهم ومعهم نساؤهم وأطفالهم، واتجهوا نحو بيت على مبارك.
حرب القرم
ترقى على مبارك في سلم العسكرية المصرية حتى وصل إلى رتبة أميرالاي، ولما نشبت الحرب التركية ـ الروسية المعروفة بحرب القرم اختير على مبارك باشا ضمن القوات المصرية التي سافرت للمشاركة في هذه الحرب، وزار في طريقه المدن التركية، وبعد عامين عاد من رحلته تلك مزودا بفنون الحرب، وعلوم السلام.
السكك الحديدية والقناطر والمعمار
بعد عودته من حرب القرم عين على مبارك باشا ناظرا للقناطر الخيرية، وأجرى فيها إصلاحات كثيرة ثم عهد إليه تباعًا بمهام رفيعة المستوى، فعهد إليه بإدارة السكك الحديدية المصرية، وإدارة ديوان المدارس (وهو نواة وزارة المعارف)، وديوان الأشغال العمومية ثم أصبح كما نعرف وزيرًا للمعارف وللأشغال والأوقاف، وقد تصادف أن حدث خلل في القناطر الخيرية وأوشكت الدلتا كلها أن تتعرض للغرق، وعجز المهندسون الفرنسيون عن إصلاح الخلل، وتقدم على مبارك بمشروعه لإصلاح القناطر، ولم يقتنع الخديو إسماعيل عندما عرض عليه المشروع، فعقد اجتماعا حضره المهندسون الفرنسيون وحضره على مبارك واستعرضوا وجهات النظر المختلفة، وأقر الفرنسيون مشروع على مبارك، واعترفوا له، ثم تولى بنفسه إصلاح الخلل، وأنقذ دلتا النيل من الغرق، وفي أثناء تولي علي مبارك إدارة السكك الحديدية أراد إسماعيل باشا المفتش (الذي كان مسؤولاً عن المالية في عهد الخديو إسماعيل) إضافة إيرادات السكك الحديدية إلى وزارة المالية، فرفض على باشا مبارك ونجح إسماعيل المفتش في الوشاية به عند الخديو إسماعيل الذي فصله من كل وظائفه، رغم زمالتهما السابقة في أثناء تلقي العلم في باريس، ثم لم يلبث الخديو أن أعاده إليها بعد أن عجز خلفاؤه عن إدارتها.
والواقع أن على مبارك كان مهندسا على المستوى العالمي، وهو صاحب فكرة النمط القياسي التي كان حريصا على أن يجعلها بمثابة فلسفته المعمارية في المباني العامة، وقد استخدمها بالفعل في إنشاء محطات السكك الحديدية عندما تولى أمرها، فجعل كل المحطات على نسق معماري واحد في كل البلاد بحيث تؤدي الخدمات على خير وجه، مع اختلاف أحجامها في المدن الكبيرة أو الصغيرة، كان على مبارك قد شرع في إدخال نظام المجاري أو الصرف الصحي، فسافر إلى فرنسا ودرس هذا النظام على الطبيعة هناك حتى ينفذه في القاهرة، ولكن نهاية دولة إسماعيل الطامحة لم تتح له أن ينفذ مشروعه .
التعريب المبكر
عندما اختير على مبارك باشا ناظرا لمدرسة المهندسخانة بدأ أولى خطواته في تعريب العلوم الهندسية والعلوم الطبيعية المتصلة بها (كالرياضيات والفيزيقيا ) في العصر الحديث حيث قرر تأليف الكتب المدرسية باللغة العربية، حتى أصبحت كل العلوم الهندسية والعسكرية تدرس بالعربية، وأنشأ مطبعة خاصة لمدرسة المهندسخانة طبع فيها أكثر من ستين ألف نسخة من هذه الكتب.
إصلاحاته التعليمية وسياسته التي لم تسلم من نقد الاطباء
ونأتي إلى إصلاحاته التعليمية المبكرة التي شملت إنشاء مدارس للبنات لأول مرة في مصر، فهو الذي أنشأ المدرسة السنية للبنات، وخصص فيها قاعات للرسم والتدبير المنزلي والموسيقي، وفي صعيد التعليم العالي فقد كان هو الذي تولى إنشاء مدرسة دار العلوم وصاغ مناهجها وشخصيتها بكل ما تمثله من محاولة جادة لتطوير معاهد تدريس الدين الإسلامي وعلوم اللغة العربية المتصلة به، وأنشأ على مبارك أربع مؤسسات كان لابد من وجودها لنشر الثقافة العلمية وخدمة النهضة الموسوعية من خلال قواعد أو بنية أساسية قوية:
فهو الذي أنشأ «الإنفتياتر»، وهو مدرج المحاضرات العامة، وكان هذا المدرج في درب الجماميز، وله مواسم للمحاضرات التي يلقيها كبار الأساتذة، وكان هو نفسه يحضر هذه المحاضرات، مما شجع الباشوات والوجهاء والعامة على الحضور، وسعى المثقفون المصريون للانتظام في حضور هذه المحاضرات، فكان هذا المدرج يمثل نواة حقيقية لجامعة حرة قامت بدور هام في حركة النهضة العلمية والثقافية، وفي درب الجماميز أيضًا أنشأ علي مبارك المؤسسة الثانية وهي معمل الكيمياء والطبيعة، وهو بمثابة متحف علمي حي يتيح العلم التفاعلي لهواة العلم والمعرفة . وفتح أبواب هذا المعمل للتلاميذ حتى يكونوا على صلة دائمة بالتطورات العلمية الحديثة، وقبل هاتين المؤسستين كان علي مبارك هو الذي أسس دار الكتب الخديوية لتكون بمثابة المكتبة الوطنية لمصر .
ويتصل بهذه المؤسسات مؤسسة رابعة تتمثل في الصحافة المدرسية أو العلمية، وقد كان علي مبارك رائدها فهو أنشأ مجلة «روضة المدارس» على نفقة وزارة المعارف، وجعل منها نافذة جديدة للفكر المستنير، ومن الإنصاف أن نشير إلى أن علي مبارك كان قد درس مناهج التعليم في فرنسا معرفة كاملة، حتى أنه عندما كان وزيرا للمعارف راجع هذه المناهج وأعاد دراستها بفكر متفتح وعقل ناضج، ثم وضع بعد ذلك مناهج التعليم في المدارس المصرية الابتدائية والثانوية، وظلت هذه المناهج سائدة في مصر أكثر من مائة سنة، وخرجت الأجيال المتعاقبة من المتعلمين المصريين، وتقديرا لكل هذه الجهود منحه الخديو إسماعيل كثيرًا من الرتب والأوسمة ومنها رتبة الباشوية، وقد استمر الخديو توفيق على نهج والده في تقدير علي مبارك .
المؤسسات التعليمية التي استحدثها
كان علي مبارك باشا حفيا إلى أبعد حد بأن يُحقّق في نظم التعليم المصري طفرة يتفوّق بها على التعليم الفرنسي والبريطاني معاً، (من دون أن يصرح بهذا) وقد كان على صلة بهما معا فقد كان هو نفسه كما نعرف قد تعلّم في فرنسا وخاض تجاربه التعليمية على مدى سنوات، وظل على اتصال بهذه الثقافة طيلة ما تبقى من حياته، وعلى صعيد آخر فإنه كان بحكم مسئوليته عن المدارس ثم عن المعارف (والأشغال معها) على صلة وثيقة بالتعليم البريطاني في بلادهم، وما يفرضونه من أنماطه في مستعمراتهم أوفي مناطق نفوذهم مثل مصر، وفيما يبدو واضحاً لكل ذي بصيرة فقد رأى علي باشا مبارك أن تطوير التعليم المصري لا بد أن يتم في إطار ما هو موجود في مؤسسة عريقة اسمها الأزهر الشريف، وإن هذا التطوير يمكن أن يتم بخطوات أسرع وأكثر أماناً واستقلالاً إذا ما تمّ من خلال ما نسميه الآن مؤسسة المستهلك النهائي ، وفي حالة مؤسسات إعداد المعلمين مثلا فإنها هي وزارة المعارف، وفي حالة إعداد القضاة فإنها هي وزارة الحقانية .
وهكذا رأى علي مبارك باشا أن أسلوب المدارس العليا المهنية الذي تأخذ به بريطانيا يمثل نموذجاً قادراً على استيعاب هذه الغاية من التطوير التعليمي في مستوى الخريجين، لكنه أراد لهذه المؤسسات الجديدة التي كان ينتوي إيجادها أن تتحرر من الإطار البريطاني الصارم الذي يجعلها تقصر الأفق المتاح لخريجيها على المجال الوارد في اسمها وأن يتحول بها إلى أن تصبح شبيهة بالجامعة المصغرة على النحو الذي هو متاح في بعض المدارس العليا الفرنسية ، وهكذا وجد علي مبارك توافقا في نفسيته مع طريقة الفرنسيين في الإيحاء بالاسم ليكون قادراً على الاستيعاب بدلاً من صرامة التحديد البريطانية، وهكذا اختار لدار العلوم هذا الاسم الواسع أو المحلق ذي الإيحاء الواسع الذي يذكر به اسم من قبيل كوليج دو فرنسا أي “كلية فرنسا” فحسب، مع أنها أصبحت مؤخراً جامعة محتفظة بالاسم نفسه ومضيفة إليه كلمة “جامعة” أي كأنها أصبحت جامعة كلية فرنسا.
ومما لا يسجله التاريخ التربوي صراحة أن علي مبارك كان ينظر إلى الطب والقضاء نفس النظرة التي ينظرها إلى علوم اللغة العربية والأدب العربي، وعلى حين أنه أنشأ دار العلوم فإن كثيرين من خلفائه حاولوا مرة بعد أخرى على أن ينهوا وجود هذا الاسم الذي لم يكن يوحي بما توحي به أسماء المدارس العليا الأخرى فلا هو كمدرسة المهند سخانة وكمدرسة المعلمين العليا ولا كمدرسة الزراعة.. الخ، وبالفعل فقد عدلت الدولة (والحكومة) عن اسم دار العلوم إلى اسم آخر هو دار المعلمين الناصرية واستمر هذا الاسم بعد إلغاء اسم دار العلوم لفترة طويلة، ثم عاد حنين الخرجين القدامى إلى اسم المدرسة التي تخرجوا فيها فأعادوه حين أتيح لهم أن يكونوا أصحاب القرار.
لست أحب الاستطراد إلا أني أتظاهر به لأمرر ما أريد مما يظنه بعض القراء بعيداً عن النهر المتدفق لما أتحدث عنه، وها أنذا أستطرد لأقول إن علي مبارك هو الذي حول مدرسة الطب من النظام الفرنسي إلى النظام البريطاني على عكس ما كان متوقعا من مثله، ولا تزال تلك المدرسة على عهدها باللغة الإنجليزية منذ ذلك الحين، وأستطرد مرة أخرى لأقول إن التطويرات أو التعديلات التي أحدثها علي باشا مبارك في مدرسة الطب كانت محل سخط وانتقاد الأطباء من طبقة أعلام الطب المصري الحديث وفي مقدمتهم علي باشا إبراهيم وزملاء علي إبراهيم باشا وتلاميذ علي إبراهيم باشا الذين أنا من ثالث أجيالهم، أظن أن القارئ فهم ما أردته من هذا الاستطراد وهو أن المؤسسات التقليدية بما فيها ما أسسه علي مبارك باشا نفسه أو (شرع في تأسيسه أو أتم تعديله) لم تكن على الدوام مرتاحة إلى هذا الأسلوب في التطوير والاستحداث، وهو أمر طبيعي، يحسب لعلي مبارك فيه شجاعته وقدرته على الإنجاز القابل للحياة إذا ما وجد من هو قادر على نفخ الروح فيه.
توليه الوزارة
كان على مبارك واحدًا من أعضاء مجلس النظار الأول الذي تشكل برياسة نوبار باشا في أغسطس 1878، وقد أسندت إليه فيه وزارتا الأوقاف والمعارف العمومية، كما أسندت إليه وزارة الأشغال بالنيابة، أي أنه دونا عن زملائه الوزراء تولى 3 وزارات. وهو بهذا قد تولى نصف الوزارات الأولى أو القديمة في فجر الحياة الوزارة، وفي مارس 1879 اشترك في الوزارة الثانية التي رأسها الأمير محمد توفيق وزيرًا للأوقاف والمعارف أيضا، وفي سبتمبر 1879 عاد لتولي وزارة الأشغال العمومية في وزارة رياض باشا، وكذلك في أغسطس 1882 في وزارة شريف باشا، ولما قامت الثورة العرابية كان من الذين وقفوا مع الخديو ضد عرابي ولهذا فإنه في عهد الثورة العرابية أبعد عن السلطة، وكان آخر عهده بالوزارات توليه وزارة المعارف في يونيو 1988 في وزارة رياض باشا الثانية.
الخطط التوفيقية
كما أشرنا في مطلع الحديث فلا يزال كتابه الأشهر «الخطط التوفيقية» من أبرز كتب الإنتاج العربي في ميدان الموسوعات، ذلك أنه يحوي من فنون المعرفة والأدب من شعر ونثر، والتاريخ بمختلف ميادينه وعصوره، والجغرافيا والبلدان والتراجم والهندسة بفنونها وعلوم الحرب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والتربية والسياسة وفنون الحكم، وهو في وقته وزمانه يمثل مفخرة علمية من مفاخر علماء العرب والمسلمين. وهو المرجع الأول للتأريخ لبدايات الحضارة المصرية الحديثة في كل مجالاتها العمرانية والفكرية أو الثقافية، ولولا ما احتواه هذا الكتاب ما عرفنا تاريخ حياة كثيرين من عظماء مصر وبناة حضارتها، وقد اختار على مبارك لكتابه عنوانا طويلا هو «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، وقد عبر على مبارك باسم هذا الكتاب عن حرصه على الوفاء للخديو توفيق حاكم مصر إبان تأليفه هذا الكتاب، وقد كان على مبارك بشجاعته وقوة شخصيته حريصا على إعلان هذا الولاء والوفاء على الرغم من اختلاف الآراء في الحكم على الخديو توفيق، وعلى الرغم من أن أكثر الكتاب لا يزالون يميلون إلى تجريحه في وطنيته.
وتدلنا مجلدات الخطط التوفيقية على شغف على مبارك بتاريخ مصر، وإعجابه وحبه لأساليب التأليف القديمة في التاريخ وبخاصة تلك التي اشتهر بها المؤرخون الذين جعلوا «الخطط» مدخلا لكتبهم في الحديث عن التاريخ العام والتاريخ الحضاري والعمراني، وفي مقدمة هؤلاء: المقريزي صاحب أشهر في هذه السلسلة الممتدة من مؤلفات المؤرخين العرب، وليس ثمة شك في أن على مبارك تأثر بالمقريزي بكل وضوح، وعلى مدى صفحات هذا الكتاب يعبر على مبارك عن حبه لمدينة القاهرة واحتفاله بها، من حيث تاريخها القديم والوسيط والحديث، وآثارها، ومساجدها، ومدارسها، وأحيائها وشوارعها، وعلمائها، وأوليائها، والزوايا والخانقاوات والكنائس والأديرة، والأضرحة، والحمامات، والحواري والدروب، وقد خصص للقاهرة الأجزاء الأربعة الأولى من كتابه وخصص الجزء السابع بأكمله لمدينة الإسكندرية، وعلى هذا النحو مضى في التعريف بمدن مصر الأخرى، والقرى والنجوع، مهما عظم شأنها، أو ضؤل حجمها.
كانت عناية على باشا مبارك بالقرية المصرية لا تقل عن عنايته بالمدن، ولم يكن تشابه أسماء العشرات من القرى حاجزا دون انطلاقه في وصفها والعناية بها، وقد درس الأسماء المتكررة للقرى والبلاد وذكر تكراراتها المختلفة في قرى مصر ومدنها (منية، وشبرا، وزاوية، ومحلة، وكوم، وسفط) وهو الجهد العظيم الذي أفاد منه فيما بعد ذلك الأستاذ محمد رمزي، وأضاف إليه على نحو ما أشرنا في كتابنا «النجوم المتعاقبة».
– منية وجمعها مُنى الميم، وقد حرف العوام نطق بعضها إلى ميت بكسر الميم، ثم ياء ثم تاء، وقد أورد على باشا مبارك مائة وستا وسبعين مدينة وقرية تحمل هذا الاسم.
– وإحدى وأربعين قرية تحمل اسم «شبرا»، مضافا إليها اسما يميزها عن غيرها، وشبرا اسم فرعوني بمعني محلة أو بلد.
– القرى التي تحمل اسم «زاوية» أورد المؤلف أسماء ثلاثا وثلاثين بلدة.
– وهناك عدد كبير من المدن والقرى يحمل اسم «محلة»، وقد أورد منها اثنتين وثلاثين بلدة من أشهرها المحلة الكبرى.
– وهناك أيضا «الكفور» جمع كفر، وقد أورد المؤلف أسماء ستة عشر كفرا.
– كذلك ذكر ست عشرة بلدة تحمل اسم «سفط».
وكان على باشا مبارك حريصًا على أن يذكر علماء كل بلدة، وأعيانها، مهما كان عددهم، ومهما اختلفت فنونهم، وفي «الخطط التوفيقية» وصف على مبارك قريته الصغيرة «برنبال الجديدة» فقال: «إن بها مسجدا ومنزلا بناه والده، وفيها أربع مضايف ومضيفة حسنة لبعض أكبارها، ومعملان للدجاج للتفريخ، ومصبغتان، وأربعة أنوال لنسج الصوف، وعشر طواحين، ودكان واحدة تباع فيها العقاقير، وضريح ولي يسمي «عيسى»، وفيها وابوران، وباعة يبيعون الخس والفسيخ ونحو ذلك، ونواتية، ونجار، ومكتب لتعليم القرآن، وحاراتها أربع ممتدة من الشرق إلى الغرب على استقامة واحدة، وليس بها من الأشجار إلا نخلتان…».
مؤلفاته الأخرى
ولعلي مبارك بالإضافة إلى الخطط التوفيقية عدد من المؤلفات المهمة :
· سيرته الذاتية أو ما تقبلناه وتناقلناه على أنه سيرته الذاتية: «علم الدين» في ثلاثة مجلدات، وقد تناولناه في موضع آخر من كتاباتنا عن السير الذاتية .
· و«حقائق الأخبار في أوصاف البحار» .
· و«خواص الأعداد»، وكلا الكتابين الأخيرين كتاب مدرسي .
· و«نخبة الفكر في نيل مصر».
· و«تذكرة المهندسين» .
· «تقريب الهندسة وجغرافية مصر» .
· «الميزان في الأقيسة والمكاييل والأوزان» .
وقد أسهم علي مبارك في ترجمة بعض الكتب الفرنسية الكبرى، وفي مقدمتها كتاب «خلاصة تاريخ العرب» للمستشرف الفرنسي سيديو.
تكريمه
كتب الطبيب وأستاذ الطب الدكتور محمد درى الحكيم 1841 – 1900 كتابا متميزا عن سيرة علي مبارك وقد أشرنا إلى هذا الاسهام في كتابنا «النجوم المتعاقبة في كتابة تاريخ مصر المعاصر»، وكتب عنه آخرون كتابات متعددة، وإن اختلفت زوايا تقديرهم لفضله وفهمه وإنجازه.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا