كان الأستاذ علي السباعي (1893 -1974) علمًا خفاقًا بين علماء اللغة، انتهت إليه قيادة العلوم العربية التقليدية في عصره، كان مبرزًا في النحو والصرف والعروض، كما كان مبرزًا في متن اللغة وأصولها. ولست أبالغ إذا قلت إن أصدق ما يقال في وصف الأستاذ علي السباعي هو أنه كان هرقل اللغة في عصره، كانت معرفته باللغة قوية، وكان تعبيره عن هذه المعرفة قويا، وكان غضبه من الخطأ في اللغة أو في النحو أقوى من هذا وذاك.
كان معاصرًا للأستاذ عطية الصوالحي، فقد ولدا في عامين متتاليين حسب ما أثبتته الأوراق الرسمية، وربما يكون إثباتها من باب التقريب، ولد الأستاذ الصوالحي 1892 وولد الأستاذ السباعي 1893، وتوفيا في عام 1974. لكن الأستاذ الصوالحي كان أسبق إلى عضوية مجمع اللغة العربية، فقد انتخب 1965، وانتخب الأستاذ السباعي بعده بسبع سنوات 1972، ولهذا فإن الأستاذ علي السباعي لم يشارك في أنشطة المجمع على النحو الفاعل الذي شاركه به الأستاذ عطية الصوالحي.
عرفت الأستاذ علي السباعي (1970) قبل وفاته بأربع سنوات عن قرب وكنت أعجب بقدرته اللامتناهية على إدراك كنوز اللغة، وبحورها، وكانت قدرته على استدعاء المعلومة فائقة، وكان يتمتع بدرجة هائلة مما أسميه (ويوافقني أساتذتنا على التسمية بتسامحهم الخاص معي) قوة المعرفة الاستيعابية والاستدعائية لديوان الشعر العربي لا تقل عن قوة معرفته بالنحو العربي. وكنت ترى تعبيره عن قواعد اللغة وتطبيق هذه القواعد قد وصل إلى درجة التمكن، حتى ليخيل إليك أنه قد أعرب كل الكلام الذي في الوجود، لا الذي في النصوص فحسب، ومن ثم فإنه كان قد أصبح قادرًا على أن يحقق الصواب بأسرع ما يمكن لعقل بشري أن يحققه في سرعة إدراك الصواب.
وكان يتمتع نتيجة لهذا الفهم بقدرة على إجراء نوع من التدريب اللغوي المتمرس القائم على تغيير المواضع في الجملة مع تقدير ما يترتب على هذا التغيير من تغير المعنى من ناحية، وتغير موضع الإعراب من ناحية أخرى، وكأنه في كل هذا أستاذ من أساتذة الرياضيات العقلية القادرين على التمرين الذهني المتعمق والذي لا نهاية له. وكان أداؤه لهذا التمرين العقلي هو الشرارة الأولى التي أثبتت لي صواب ما كنت أتعشقه وأنا صبي من الربط بين النحو والرياضة، ومن ثم بين المنطق النحوي والرياضيات العليا الحديثة التي طورت ولا تزال تطور عالم الحاسبات.. ولهذا قصة طويلة.
كان الأستاذ علي السباعي (قبل هذا أو بفضل هذا) يوظف هذا السلوك المتعمق والمتميز، كي يثبت بطريقة علمية وعملية ذكية حقيقة فكرة أن الإعراب فرع المعنى. والحق أن الأستاذ علي السباعي لم يكن نحويا ذا حس أدبي فحسب، ولكنه كان كما يصفونه: نحويا ذا عمق أدبي، ومذهب أدبي.
ولست أستطيع أن أنكر أني أعتقد أن تدريس اللغة العربية لن يستقيم على نحو نموذجي وإبداعي، إلا إذا تولى أساتذة الأدب تدريس النحو، وتولى أساتذة النحو تدريس الأدب. كما أني أعتقد أن تدريس اللغة الإنجليزية لن يستقيم في مدارس المجتمع العربي، إلا إذا درسها أساتذة حاصلون (بتفوق) على الليسانس في اللغة العربية، وأن تدريس اللغة العربية لن يستقيم إلا إذا درسها أساتذة حاصلون (بتفوق) على الليسانس في اللغة الإنجليزية.
وإذا كان أصدق قول بليغ يقال في وصف الأستاذ علي السباعي أنه كان هرقل اللغة العربية في عصره، فإن أدق وصف معبر أقوله بعد أكثر من ثلاثين عامًا من غيابه عن الحياة الدنيا، هو أنه كان نموذجًا نادرًا لأستاذ علم لم تتبلور ملامحه بعد في الدراسات اللغوية، وإن كانت ملامح العلم المناظر له في الدراسات الطبية قد تبلورت وهو علم الفسيولوجيا التشريحية. وإلى أن تتبلور ملامح ومعالم مثل هذا العلم سيظل اسم علي السباعي معروفا في نطاق ضيق من تلاميذه وعارفي فضله.
وقد تبلورت كل هذه المعارف فيما أشرنا إليه من مجموعة دراساته القيمة عن لسان العرب، وهي دراسات كفيلة بالارتقاء بهذا المعجم العظيم أو بما نسميه بلغة اليوم الهندسية تحديثه ورفع درجته Updating and Upgrading، ذلك أنه صحح ما أخطأ صاحب لسان العرب في نقله من المراجع القديمة، كما أنه صحح نسبة بعض الأبيات إلى قائليها، ومن ناحية ثالثة فقد أكمل الأبيات الناقصة، التي استشهد بها صاحب لسان العرب. ويبدو لي من تاريخ الأستاذ علي السباعي أن سمعته العلمية كانت قد ذاعت بالطريق المباشر، أي أن فضله كأستاذ كان يذيع بالتناقل والرواية والحديث، ولم يكن هذا الصيت إلا صورة من صور حرص المدارس المختلفة على الإفادة من علمه، فقد ظل علما تتخطفه هذه المدرسة وتلك الكلية.
ولد الأستاذ علي السباعي بقرية من القرى التابعة لمدينة طنطا، وتلقى تعليما دينيا تقليديا؛ حيث حفظ القرآن في كتّاب القرية ثم انتقل إلى مدينة طنطا ليلتحق بالمعهد الأحمدي، وأمضى به خمس سنين حصل في نهايتها على الثانوية الأزهرية، والتحق بعد ذلك بدار العلوم وتخرج فيها (1917)، في الدفعة السابقة على دفعة الأستاذ الصوالحي. وقد تخرج معه في الدفعة ذاتها أستاذ الأدب الشاعر الرقيق عبد المغني المنشاوي.
وبعد تخرجه عمل الأستاذ علي السباعي مدرسًا بمدرسة عبد العزيز لمعلمي الأولية، وهي أبرز المدارس التي كانت تعد معلمي المرحلة الابتدائية، وهي المدارس التي كانت تعرف على أنها مدارس المعلمين المتوسطة تمييزًا لها عن مدرسة المعلمين العليا الوحيدة! ثم انتقل الأستاذ علي السباعي ليعمل مدرسًا في المدارس الثانوية، ثم في تجهيزية دار العلوم، وهي مدرسة من طراز خاص كانت تعد الطلاب للقبول في دار العلوم (أو حسب تسميتها: تجهزهم لهذا)، وانتقل إلى محطة رابعة مدرسًا للخطابة في مدرسة الحقوق، وإلى محطة خامسة مدرسًا بكلية اللغة العربية في الأزهر الشريف.
ثم ختم الأستاذ علي السباعي حياته الأكاديمية بالمحطة السادسة الأطول عمرًا وأثرًا ومكانة؛ حيث اختير مدرسًا للنحو والصرف والعروض في كلية دار العلوم التي كان قد تخرج منها عام سبعة عشر (1917)، وقد تدرج في وظائف هيئة التدريس مدرسًا فأستاذًا مساعدًا فأستاذًا للنحو والصرف والعروض ورئيسًا لقسم الدراسات اللغوية. وبالإضافة إلى هذا كله فقد امتد نشاط الأستاذ علي السباعي إلى العمل في مدينة القدس وفي المملكة العربية السعودية.
أسهم الأستاذ علي السباعي في تطوير الكتب التعليمية والمدرسية، فساهم مساهمة كبيرة في إخراجها على صورة علمية حديثة. وكان قد وضع منذ مرحلة مبكرة من حياته عددًا من المؤلفات المدرسية الرائدة في مناهج اللغة العربية، ومنها كتاب جميل في فن الإنشاء، يمثل ذروة الكتب التي كانت تعلم هذا الفن بطريقة مدرسية ممنهجة التوقيت على النحو الذي اتبعه التعليم الغربي فيما بعد ذلك، وإن كان العرب لا يعرفون فضل أنفسهم في تعليم اللغة وعلومها وآدابها، ولا يزالون حتى الآن ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مقلدون فحسب.
لكن كتابا ككتاب الأستاذ السباعي يدل على سبق روادنا إلى توجهات مبدعة ذكية. وقد صادفت نسخة منه قبيل انتخابي عضوًا في مجمع اللغة العربية بقليل، وحرصت على الإشارة إلى ما فيها من إبداع ذكي. وبعد انتقاله للجامعة كان الأستاذ علي السباعي من أبرز الأساتذة الجامعيين نشرا لبحوث لغوية اصيلة في صحيفة دار العلوم، وقد نشر فيها مجموعة من بحوثه ومقالاته وتصويباته وتعقيباته ونقده اللغوي والمعجمي.
بلغ صيت الأستاذ السباعي العلمي جدا كبيرا اعترف معه أنداده له وبسببه بتفوقه على صاحب لسان العرب، لما كان يكتشفه مرة بعد أخرى من تصويبات له وتعقيبات عليه. وقد كانت تعليقاته على لسان العرب تركز على أوجه ثلاثة:
– الوجه الأول: تصحيح ما أخطأ اللسان في نقله عن المراجع القديمة.
– والثاني: تكملة الأبيات الناقصة التي يستشهد بها صاحب اللسان.
– والثالث: هو تصويب نسبة الأبيات إلى قائليها.
وهكذا أظهر الأستاذ السباعي من التفوق في الإضافة إلى متن اللغة توجهات ذكية، لا تزال في حاجة إلى تكرارها وتكريرها كذلك.
قال عنه الأستاذ عباس حسن زميله في قسم النحو والصرف والعروض في حفل استقباله في مجمع اللغة العربية: “شاب عارم في حجاز من الدين، وحيويةٌ فارهة في رقابة من العقل الرشيد، وخلق كريم تنبئ عنه علائمه، ترفعُّ في غير كبرياء، وتواضعٌ في غير هوان، ونطق في غير هُجْر، وصمت في غير عِىّ، وإقبال على الاستماع في غير ضجر.
“……. تراه يصُغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به، وهو إلى هذا كله سليم دواعي الصدر، فلا حقد، ولا دسيسة؛ ولا افتراء، ولا نميمة، ولا اندفاع إلا فيما ينفع الناس، ويمنع الأذى. تلك صفاته الخلقية في غير تزيدّ، ولا تخفّ، والله على ما أقول شهيد. “كان عضوًا في جماعة المعلمين، يدافع عن حقوقهم، ويسعى لتحقيق مطالبهم، ويقابل الوزراء في العهود المختلفة لشرح قضيتهم، ويلاقي في سبيل ذلك من العنت والمشقة مالا طاقة لأكثر الناس به، ثم هو في خاصة نفسه وعمله نموذج يحاكي، ما علمنا عليه من سوءٍ.
“عرفت فقيدنا أول ما عرفت في مطلع السنوات الثلاثينية، ولم تكن تلك المعرفة عن تلاقٍ ومقابلة، وإنما كانت عن سماع باسمه وترديد لمزاياه ممن يعرفونه، وقراءة لبحوث ومقالات لغوية وأدبية تنشرها له الصحف والمجلات الرصينة، ولا سيما صحيفة دار العلوم، فتشوقت إلى رؤية هذا الباحث. وتشوقت إلى لقياه، وكنت إذ ذاك في فجر حياتي التدريسية وحولي مَنْ هم أقدم مني بالتدريس، وأسبق إلى ميدانه بعشر سنوات أو تزيد، يعرفون من أسرار المهنة ومنازل رجالاتها في الشئون اللغوية ما لا عهد لي به. وكنت أسمعهم في محاوراتهم وكل مشكلاتهم يرددون اسم مدرس فتىّ تخرج في دار العلوم سنة 1917 اسمه علي السباعي. رأيتهم يرجعون إليه وينقلون عنه كما يرجعون وينقلون عن المعاجم اللغوية، يأخذون برأيه، ويقفون عند فتواه، والقول ما قال؛ فتزول به الحيرة، وينقطع الحوار.
ثم يصف الأستاذ عباس حسن علاقته بالأستاذ علي السباعي على مدى السنوات المتعاقبة، وما حفلت به هذه العلاقة من تقدير وإعجاب: “تردد هذا وتكرر حتى استرعى انتباهي وشدني إلى رؤية هذا الشاب النابه، والجلوس إليه. وتحقق لي ما أردت؛ فإذا فتى فارع الطول مليء الجسم، وسيم المحيا، جميل الوجه، فاره الرجولة، في أدب جم، وحياء محمود، وحسن حديث، وحميد إصغاء. ودار الحديث بيننا شهيا طليا في موضوعات تتصل بعلمنا، وباللغة وفروعها، فرأيت وسمعت ما أثار عجبي وإعجابي. ثم تكرر اللقاء والحديث والحوار، فزاد التقدير والإكبار واستخلصت من كل ذلك ظاهرتين أصيلتين متلازمتين لفقيدنا الكريم، إحداهما: دينية، والأخرى لغوية.
“فأما الدينية فتجلت في حرصه على إقامة الشعائر الدينية المختلفة في صورها الحميدة المصفاة جهد طاقته، في غير دعاية ولا تظاهر، ولا جمود، ولا استهانة، في زمن مَنْ قال فيه قولا شعر، ومَنْ خط فيه حرفا غدا أكتبَ الكتاب. وما أعلم شهد الله وقد زاملته طويلا أنه توانى في أداء تلك الشعائر أو قصر في إنجازها على خير ما يرجى من أمثاله الطائعين الصادقين، وبتمسكه بدينه، وحرصه عليه في غير تصنع ولا تقصير. طهُرت نفسه، وارتدت الآفات عن أخلاقه. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وإن كان لي ما أخصه بالذكر في هذه الناحية فهو استظهار القرآن الكريم على الوجه الأكمل، ومداومةُ قراءته قراءة واعية، موزَّعة نجوما وأجزاء على أيام السنة، لكل يوم جزء معلوم يستعيده، ويستلهم فوائده وفرائده الدينية واللغوية والأدبية؛ يختزنها ليوم تشرئب فيه الأعناق بحثا عن مَعِين الفتوى، وفيصل الرأي ويتساءل الباحثون: أين علي السباعي؟
“تلك هي ناحيته الدينية في لمح وإيجاز، وأما ناحيته اللغوية فأمرها عجب أي عجب، فلست أعرف في المعاصرين من أهل الكفايات اللغوية على وفرة عددهم، وفيض مزاياهم، وأصالة مواهبهم مَنْ هيأ نفسه أو هيئ له أن يقرأ المعجم اللغوي الأدبي الأكبر المسمى لسان العرب كما قرأه علي السباعي في أجزائه العشرين التي تبلغ صفحات الجزء الواحد منها أربعمائة، أو تزيد. “هذه دعوى سمعتها منه في بيته لمناسبة طارئة؛ فألمحت إليه في سرعة وخفَّة بما يفيد أن الدعاوى إن لم يقم أصحابها بينات كانوا أدعياء. فأدرك ما أرمي إليه، ومد يده إلى نسخته الخاصة من لسان العرب، واستعرض في عشرات الصفحات ما يؤيد دعواه، ومددت يدي كذلك اعتباطا فوجد مئات الصفحات لا تخلو من أثر يدل على قراءته قراءة واعية نافعة لا يتسع المقام لعرض الكثير منها.