منذ عشرين عاما أو أكثر قليلا بدأنا نحس أن الوقت قد حان لنعرف عن معاركنا العسكرية الحديثة كثيرًا من الحقائق الكفيلة بأن نتعلم لمستقبلنا، من واقع تاريخنا المعاصر ، وبخاصة أننا بحكم هذه المعارك التي ابتلانا بها ضباط 1952 قد اكتسبنا من اكتمال الشخصية الوطنية والقومية ما هو كفيل أن ينأى بنا عن جلد الذات، وفي ذات الوقت ما ينأى عن عودة الأعراض المرضية لحالة عشق تضخيم الذات، فقد أكسبنا الزمن نفسه قدرا من التعقل حتى أصبحنا نؤمن أن البطولة لا تتعارض مع الخبرة، وأن الشجاعة لا تتعارض مع الحنكة، وأن الحرص علي المبادرة لا يعني إعلانها، وأن امتلاك سلاح المفاجأة لا يعني المخاطرة، وأن الدراسة المستفيضة للمخاطر لا تعني النكوص عن الانطلاق إلى التنفيذ، وأن معرفة العدو لا تعني تقليلًا من قدر النفس، وأن الاعتراف بالخطأ لا يعني تقليلًا من شأن النجاح، وأن تقدير النجاح في حجمه الطبيعي لا يعني تثبيطًا للهمم.
ولهذا كله فقد كنت أرى أننا أصبحنا في حاجة إلى أن نتعلم من كل الأخطاء، وإلى أن نعرف كذلك خطأنا حين نسبنا إلى أنفسنا أخطاء لم نقترفها، وحين تجاوزنا عن أخطاء أخري اقترفناها بالفعل.
وكنت أقول إنه لا بد لنا من مقارنات كفيلة بأن تأخذ بنا إلى وجوه الصواب فيما يتعلق بكل جوانب حرب 1967، على مستوي العمليات والتخطيط والمعارك والتدريب والتسليح والإعلام والتنسيق والقيادة، وحتى الانسحاب نفسه وما بعده.
وكنت أشير إلى أنه في كل اللحظات التي عاشها أصحاب التجارب العسكرية والحربية، واستذكروها فيما كتبوه أو رووه، فإنهم يَروْن كيف تنشأ النتائج متوافقة مع الإرادات حتى ولو لم تكن متوافقة مع الأماني.. وهكذا أصبحت نفوسهم مهيأة لأن تدرك في يقين أن الأفعال قد تقود إلى النتائج، ولكن الأماني وحدها لا تكفل تحقيق الأمنيات، وأن الجهد الشاق والمنظم ضرورة لابد منها للوصول إلى النتائج المرجوة.. وهكذا نشأت في تفكير هؤلاء القادة تلك القدرة التي قد يعجز بعض الفلاسفة عن تصورها من اجتماع الإيمان بالقدر خيره وشره مع الإيمان بالإرادة وقدرتها على الحركة في إطار الاختيار الذي أنعم به الله علينا.
وقد حرصت على أن أقدم للقارئ كل ما في المذكرات المروية من فكر وتحليل عن 1967، والتي تناولتها في كتابي «الطريق إلى النكسة» وما بعده من كتب تناولت تاريخنا العسكري، كما حرصت على التنبيه بتهذيب إلى أي محاولة من المحاولات التي كانت تلجأ في تعمد واضح (في بعض الأحيان) إلى الابتعاد عن الروح الجديرة بأن تلتزمها، مقدرًا أن السبب في هذا أبسط مما يتصوره المجادلون، فهي مذكرات بشر يخضعون في كل ما يفعلون لطبائع البشر ويفقدون بشريتهم إذا ما تخلوا عن هذه الطبيعة.
يرى كثيرون أن هزيمة 1967 كانت هي النتيجة المباشرة للتورط في حرب اليمن، والانسياق وراء مستويات منخفضة في الأداء العسكري وسياسات لتسليح والتدريب والنقل والإمداد والتموين بحكم ما اقتضته هذه الحرب من تعجل. فضلًا عما سببته حرب اليمن من تآكل في قوتنا واضطراب في أولوياتنا. كل هذا صحيح، لكني أرى ما هو أهم من ذلك وأعمق، وهو أن حرب 1967 كانت النتيجة الطبيعية للأداء السيئ بل المتدهور سواء في الوحدة في 1958 أو في الانفصال في 1961 أو في النزاع المتكرر فيما بين 1961 و1967.
وربما نبدأ الحديث عن اندلاع حرب 1967 بداية مختلفة عن البدايات التي لجأ إليها المؤرخون والعسكريون على حد سواء، لكننا في الوقت نفسه لن نبتعد عما أوردوه من حقائق، ولا عما رووه كمن وقائع.
في ربيع 1967 كانت سوريا قد مرت بأوضاع قلقة فيما يتعلق برياستها والسيطرة على مقدرات الأمور فيها بعد حدوث انقلاب 1961، ولم تعد ـ كما كانت طيلة ثلاث سنوات ونصف ـ جزءًا من الجمهورية العربية المتحدة، وكان موقف النظام الناصري الحاكم في مصر قد وصل في بعض المراحل إلى عداء صريح واتهامات علنية لنظام الحكم السوري، بل أصبح الأمر شبيهًا بالتعامل مع العدو.
ومع هذا فقد كان جو التوحد (أو التجمع) في العداء لإسرائيل لا يزال مسيطرًا على المشاعر وحاكمًا للتصرفات في ذلك الوقت، وكان لا بد للسلطتين المصرية والسورية (معًا أو على انفراد) أن تسيرا فيه، وكان هذا التوجه الحاسم وحده هو الذي يوحد بين مواقف مصر وسوريا في النهاية.
وقد جاء تدافع الأحداث على النحو التالي:
ـ في نوفمبر 1966، وقعت مصر وسوريا اتفاقية للدفاع المشترك بعد أن زادت التهديدات الإسرائيلية المعلنة لسوريا.
وفي ربيع 1967 أبلغ الاتحاد السوفيتي والمخابرات السورية الرئيس جمال الرئيس جمال عبد الناصر بوجود حشود عسكرية على الحدود السورية، وعلى الرغم من أن مبعوثي الرئيس جمال عبد الناصر للتأكد من وجود هذه الحشود قد نفوا وجودها، إلا أن صوتهم ضاع في خضم الضجيج الذي كانت قد أحدثته السياسات التي استهدفت إعلان نذر الحرب، ووجد هذا الجو الحماسي قبولًا وترحيبًا من الرئيس جمال عبد الناصر، الذي سرعان ما أصدر أوامره بالتعبئة العامة وحشد القوات المصرية في سيناء في 14 مايو 1967، بهدف تخفيف الضغط على الجبهة الشمالية في سوريا.
وفي 17 مايو خطا الرئيس جمال عبد الناصر خطوته التالية الشهيرة بأن أمر بإغلاق مضايق تيران وصنافير في وجه الملاحة الإسرائيلية، مما فجر حرب يونيو 1967.
في ذلك الوقت كان المشير عبد الحكيم عامر هو النائب الأول لرئيس الجمهورية، وهو نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فضلًا عن أنه كان قائدا عامًا للقوات المسلحة المصرية آنذاك.
لخص الفريق كمال حسن علي في كتابه «مشاوير العمر»، رأيًا مهمًا في علاقة انتحار المشير عبد الحكيم عامر بحرب 1967، وقد سجل الفريق كمال حسن علي رأيه هذا بعد أن خرج من السلطة وبلغ من العمر والمناصب ما بلغ، ولم يعد له ما يعول عليه ولا يؤمله من رضا أو سخط من جبهة المشير عبد الحكيم عامر أو الجبهات الأخرى، وهو يتناول في الفقرة التي ننقلها عنه هنا في إيجاز شديد رأيه في المشير عبد الحكيم عامر بعد انتحاره، وقد أفاض كمال حسن علي في تأمل ما حدث في حرب يونيو 1967 قبل أن يصل إلى التعليق على انتحار المشير عبد الحكيم عامر بقوله:
«بذلك أيضًا انتهت حياة الرجل الذي ظل لمدة خمسة عشر عامًا، هو الرجل الأول في القوات المسلحة.. وسوف يحكم عليه التاريخ أيضًا، أنه هو المسئول الأول عن كارثة 67، على الأقل من جوانبها العسكرية».
«فلقد قبل الضربة الأولى المسبقة دون دشم وقائية حول الطائرات».
«وساق القوات المسلحة إلى الحرب في مظاهرة ودون تخطيط مسبق لهذه الحرب».
«وظن أن الوقت الذي اختاره للمعركة هو أنسب الأوقات لها دون أن يدري أنه أسوأ الأوقات سياسيًا وعسكريا، بل إنه استدرج للمعركة في هذا الوقت الذي كان في الحقيقة من اختيار العدو، وظن هو خطأ من اختياره!».
لا تزال حرب 1967 تحتاج إلى قراءات ودراسات كثيرة، بل وإلى استيفاء كثير من الروايات والبحث عن مذكرات تكتب لتلقي الأضواء على جوانب لا تزال غير مضاءة، ولا نزال كذلك بحاجة إلى آراء تقترح علينا التصوير الحقيقي؛ لأن ما حدث في رأيي كان شيئا من الخيال!
ومن اليسير على كل منا أن يدلي برأيه في 1967، ولكن من المستحيل على أي منا أن يعترف بأنه يصعب عليه الوصول إلى الحقيقة العسكرية في 1967.
وسأحاول بشيء من التعقل أن أستلفت نظر القراء إلى أمر مهم جدًّا لم يناقشه أحد من قبل. هذا الأمر يتمثل في سؤال بسيط يقول في براءة:
هل دخلت مصر حرب 5 يونيو 1967 لتحقيق هدف معين؟ وما هو يا تري هذا الهدف؟ ذلك أنه في تقييم أي نشاط إنساني لا بد من أن نقيس الإنجاز تبعا لنجاحه أو «فشله» في تحقيق الهدف، ولا بد من تحديد أو معرفة ذلك الهدف الذي نبحث هل نجح النشاط في تحقيقه أو فشل؟ فاذا تأملنا حرب 1967 وجدنا أنفسنا الآن أمام سؤال منطقي وبسيط:
– هل كنا نهدف مثلًا من هذه الحرب إلى إزالة ما سمي بدولة إسرائيل؟
– أم هل كنا نهدف مثلًا إلى بث الرعب في قلوب مواطنيها بحيث يتركونها في أول فرصة تتاح لهم؟
– هل تم التخطيط مثلًا لتدمير قوة عسكرية إسرائيلية معينة أو سلاح محدد، بحيث لا يكون هذا السلاح مصدر خطر على الدول المجاورة؟
– هل كان المقصود على أضعف الإيمان حملة تأديب للقوات الإسرائيلية الموجودة على حدودنا، بحيث تفهم هذه القوات أنها تتمركز إلى جوار قوة أو قوات قادرة على التأديب اللازم في أي وقت؟
لا أريد أن أسترسل في مثل هذه الأسئلة فمن الواضح أننا بدأنا هذه الحرب دون أن يكون لنا هدف محدد منها.
ومن غرائب الأقدار أننا حققنا ثلاثة انتصارات تكتيكية مهمة قبل بداية الحرب؛ فقد استعدنا سيطرتنا على شرم الشيخ، ولكننا لم نستطيع أن نفخر بهذا على المستوى المحلي لأننا كنا قد أخفينا عن الشعب في 1956 نبأ التوافق الخاص بها.
كذلك فقد تمكنا من إغلاق المضيق الذي كنا قد التزمنا «دون أن نعترف للشعب أيضًا»، بتركه مفتوحا أمام الملاحة الإسرائيلية.
كذلك فقد تخلصنا من وجود قوات الطوارئ الدولية، بما يؤكد أن سيطرتنا التامة على أرض مصر قد استعيدت، وقد كان من الممكن البناء على هذه المكاسب من خلال مفاوضات نكسب منها ولا نخسر.
أتناول في هذه الفقرة رؤية تتعلق بصورة وقائع التاريخ حين تكتب، وكيف تكون أحداث التاريخ في تبينها متفارقة مع المسئولية في مستوياتها.
كنت قد تعودت في مجموعة كتبي التي تدارست فيها مذكرات التاريخ المعاصر، أن أرتب أبوابها حسب المكانة البروتوكولية التي احتلها أصحابها، إلا أنني في كتابي «الطريق إلى النكسة» رأيت أن هذا الترتيب لا يصلح أبدًا، لأنه كتاب يتحدث عن الحرب والهزيمة.
ورأيت أنه من حق القارئ أن يقرأ أولًا وجهة نظر الذين خاضوا الحرب أو قادوها، أو من المفترض أنهم قادوها، أو كانوا في موقع قيادتها، ثم وجهة نظر الذين حاكموهم، ثم وجهة نظر الذين أمروا بمحاكمتهم.
وهكذا أتى الترتيب الذي اتبعناه في فصول هذا الكتاب مختلفًا عن البروتوكول:
فبدأ باللواء الدغيدي، قائد القوات الجوية في سيناء وجبهة القتال.
ثم بالفريق أول مرتجي، قائد الجبهة.
ثم بالفريق أنور القاضي رئيس هيئة العمليات.
ثم بالفريق صلاح الحديدي، رئيس المحكمة العسكرية التي تولت محاكمة قادة الطيران.
وانتهى بمذكرات الفريق أول محمد فوزي، وهو الضابط الآمر بتشكيل المحاكم، الذي أصبح بعد الحرب قائدًا عامًا للقوات المسلحة، على حين كان بمثابة رئيس هيئة الأركان أثناء الحرب وقبلها.
ومن العجيب أن قراءة المذكرات على هذا النحو الذي عبر عنه هذا الترتيب أعطى فكرة مختلفة عن الأسلوب الذي كانت الأدبيات الناصرية تتبعه بتجريم قادة القوات الجوية تجريمًا تامًا قبل أي حديث عن المعركة وعما سبق المعركة، وقد ظل هذا الأثر الظالم مدة طويلة قبل أن ينتبه الناس إلى سماع الحقيقة وفهم تصورها، بفضل ما هو متاح من المذكرات.
وكما أن هزيمة 1967 كانت نادرة في تاريخ الإنسانية كلها فقد كانت نادرة أيضًا في كمية المعلومات الدقيقة والتفصيلية المتاحة عنها، فهذا هو الدغيدي قائد القوات الجوية في الجبهة، وهو الذي حوكم ظلمًا عن مسئوليته عن الهزيمة، مع أنه هو نفسه حذر القائد الأعلى من مغبة الحرب قبل اندلاعها بأسبوعين، وتواجد بين قواته صباح يوم الحرب دون أن يذهب كباقي القادة للقاء المشير القائد العام..
وهذا هو الفريق أول مرتجي قائد الجبهة قد روى في مذكراته المبكرة، التي تدارسناها في كتابنا، كل التفصيلات التي عرفها بعد الحرب من الوثائق الرسمية وتقارير المخابرات والعمليات، مع أنه لم يعرف كل هذا حين كان مسئولًا. ثم أتيح للفريق مرتجي أن يكتب مذكرات موسعة لم تنشر حتى الآن.
وهذا هو الفريق أنور القاضي رئيس هيئة العمليات التي لم تكتف بالتحذير من معركة كبيرة لم نكن مستعدين لها، لكنها حذرت حتى من أي تحرشات محدودة.
أما الفريق صلاح الحديدي الذي كان قبل النكسة بشهور معدودة بمثابة قائد المنطقة الشرقية التي جرت فيها المعركة، ثم نقل مديرًا لأكاديمية ناصر العسكرية العليا؛ حيث حل القائد العسكري مونتجومري ضيفًا في نفس اليوم الذي بدت فيه نذر الحرب في منتصف مايو، ثم يختار بعد وقوع الهزيمة ليكون بمثابة قاضي الهزيمة حيث يرأس المحكمة التي تولت محاكمة قادة الطيران.
وفي كتابنا «الطريق إلى النكسة» تدارسنا أيضًا مذكرات الرجل الذي كان رئيسًا للأركان في حرب 1967 ثم ترقي في نهاية الحرب ليكون قائدًا عامًا للقوات المسلحة كلها، أي الفريق أول محمد فوزي، وسنراه يروي ذكرياته عن الحرب غير وجل وهو يعترف بتقليص دوره فيها.
ولربما يسأل سائل وعنده حق في سؤاله: هل حظيت حرب أخرى بأن يكتب عنها كل قادتها مذكراتهم على هذا النحو؟! بيد أن الألم نفسه يصبغ الكتابة بمحدوديات عديدة، ولا أقول محدودية واحدة..
من الحق أن أشير إلى أن حرب 1967 حظيت بالكتابة بأكثر مما حظيت حرب 1973 والحروب الأخرى، لكن محاولة الفصل بين أداء الرئيس جمال عبد الناصر وأداء المشير عبد الحكيم عامر كانت هي السبب الرئيسي لفساد معظم الكتابات، على الرغم من توافر مقومات النجاح.. لأنهم جعلوا من المشير عبد الحكيم عامر كبش فداء جاهز، ففسد البحث العلمي، الذي من المفترض أن يظل يبحث حتى يجد الحقيقة.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإني لست أنكر أن المضي في كتابة كتابي «الطريق الي النكسة» كان أقسى الأمور على نفسيتي، وقد كنت أتألم كثيرًا جدًّا في كتابة معظم فقراته، وكنت أمر بفترات حالكة من الاكتئاب الشديد، وما يصحبه من آلام عضوية، وكان أقراني من الأطباء يشفقون عليّ إشفاقًا شديدًا، ومع هذا فقد كنت أقنع نفسي أنه لابد من إتمامه مهما كان الألم النفسي المصاحب لي في كل أجزائه.
ولست أنكر أني لم أجرب فيما كتبت في حياتي كلها ألمًا نفسيًا وبكاء مرًا مثل هذا البكاء، وهذه الآلام التي اعتصرتني وأنا أكتب ذلك الكتاب، ثم وأنا أعيد قراءة ما كتبت فيه.. ومع هذا فإنه مخفف الجرعة إلى حد كبير
صبغت 1967 تاريخنا العسكري المعاصر بالسواد المميت، وهو التاريخ الذي قدر لنا وله أن يؤثر في تاريخنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد أثر فينا بأكثر مما يمكن للتاريخ العسكري أن يؤثر في تاريخ أمة في العصر الحديث الذي تراجعت فيه قدرة الجيوش على التأثير في حياة الشعوب من التأثير الكلي والشامل إلى تأثير جزئي مهما كانت قوته، ولكننا لا نملك إلا أن نقول «قدر الله وما شاء فعل».
وقد عاشت مصر ثلاثين عاما كانت الحروب المستمرة بمثابة أقوى المؤثرات في كل جزئيات الحياة فيها، حتى أصبحت هذه الحروب بمثابة أشد المعالم البارزة تأثيرًا في كل ديناميات الحركة الاجتماعية والتحول الاجتماعي والاقتصادي، بل والنمو السياسي.
أشار الدكتور عبد العظيم رمضان في تحليله لحرب 1967 في كتابه «تحطيم الآلهة» إلى أن المشير عبد الحكيم عامر كان ضحية للوهم، حتى أنه توهم إمكان انسحاب الحشود المصرية الضخمة كلها في يوم واحد، ومن ثم فإنه سخر من الخطة التي وضعت أمدًا زمنيًا أربعة ليالي وثلاثة أيام لهذا الانسحاب:
«على أن المشير عامر لم يسع للاستفادة من رأي الخبراء العسكريين حوله، ولم يطلب مشورتهم. فكما رأينا فإنه استدعى هيئة أركان حربه لتضع له خطة بالانسحاب، وليس لمناقشتها في الموقف والاستنارة برأيها في فائدة الانسحاب من عدمه».
«وعندما وضعت خطة انسحاب وفقا لأصول الفن الحربي تتم على مراحل وتستغرق الوقت الكافي لإتمام هذا الانسحاب بأقل خسائر، فاجأها مستهينا بأنه أصدر الأمر بالانسحاب بالفعل، ولم ينس أن يسخر من المدة الزمنية التي أوردتها الخطة، وهي أربعة أيام وثلاث ليال».
«لقد كان المشير عامر يتوهم إمكان انسحاب كل تلك الحشود الهائلة من القوات المسلحة المصرية التي دفع بها في سيناء، في يوم واحد!».
يذهب الدكتور عبد العظيم رمضان في البداية إلى إلقاء مسئولية الانسحاب على المشير عبد الحكيم عامر، مستندًا إلى شهادة شمس بدران، ونحن لا ننازعه الصواب، لكن الوصول إلى الحقيقة التاريخية أصعب من العثور على الصواب المنطقي الذي يتبدى خاطفًا.
«وقد اعترف شمس بدران، الذي كان قريبا من إدارة المعركة في ذلك الحين بحكم صلته بالمشير عامر، وكان يتولى منصب وزير الحربية في ذلك الحين، بأن المشير عامر هو صاحب قرار الانسحاب، وأنه تحدث فيه إلى الرئيس عبد الناصر، وأبلغه بذلك، وحدثت مناقشة، فقال له المشير: أنا حا رجعلك كل أولادك سالمين!».
ومن حسن الحظ أن الدكتور عبد العظيم رمضان سرعان ما يكشف الحقيقة من خلال ما يقرأه من نصوص جيدة:
«واعتراف شمس بدران بحدوث مناقشة بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عامر حول القرار، يفيد اعتراض الرئيس جمال عبد الناصر على القرار أولا، ثم قبوله بعد ذلك».
ويستشهد الدكتور عبد العظيم رمضان بما رواه الفريق مرتجى من أن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه حاول إثناء المشير عبد الحكيم عامر عن قرار الانسحاب دون جدوى، ويبني عبد العظيم رمضان على هذا تعجبه من أن يزعم المشير عبد الحكيم عامر في مذكراته أن الرئيس جمال عبد الناصر هو صاحب قرار الانسحاب وليس العكس:
«وهذا ما أدلى به الرئيس جمال عبد الناصر نفسه للفريق مرتجي، عندما زاره بمنزله بمنشية البكري يوم 16 نوفمبر 1967. فعندما سأله الفريق مرتجي عن مدى معرفته بقرار الانسحاب، أجاب باختصار: أن المشير عرض عليه فكرة الانسحاب، وأنه حاول أن يثنيه عنه، إلا أن المشير أصر على رأيه، وأضاف أن هناك مساعدات أمريكية وإنجليزية جوية قدمت لليهود، وأن القوات المصرية لو استمرت في موقعها سيقضى عليها! وعلى ذلك اضطر الرئيس مرغما على الموافقة على الانسحاب، طالما أنه لا يوجد حل آخر!».
«وإذا كان الأمر كذلك، وقد ثبت أن المشير هو صاحب قرار الانسحاب، وقد جر إليه عبد الناصر، فلماذا أورد المشير في مذكراته العكس، وهو أن الرئيس جمال عبد الناصر هو صاحب القرار، وقد جر إليه المشير؟».
يخرج الدكتور عبد العظيم رمضان من هذه الحيرة بأن يرتب على هذا التناقض إدانة جديدة للمشير عبد الحكيم عامر، ذاهبًا إلى أن مذكراته كانت تقصد الضغط على الرئيس جمال عبد الناصر ولا تقصد أي رصد للحقيقة. وفي الحقيقة فإن الدكتور عبد العظيم رمضان معذور في ظل تراكم الأوراق التي تؤيد كلها تقديم المشير عبد الحكيم عامر ككبش للفداء، دون أن تدرك أن هناك أبعادًا أخرى أخفيت تمامًا:
«في الواقع أن المذكرات التي كتبها المشير عامر لم يكن المقصود منها التاريخ والأجيال ووجه الحق، وإنما كان المقصود الضغط على عبد الناصر، الذي كان الصراع بينهما في أغسطس 1967، قد بلغ مبلغا كبيرا بسبب الهزيمة».
لكن الدكتور عبد العظيم رمضان مع هذا يرى بكل صراحة ووضوح في كتابه «تحطيم الآلهة» أن قرارات المشير عبد الحكيم عامر في حرب 1967 كانت كاشفة لكل عيوب النظام من تحلل وضعف وقلة حيلة وانعدام كفاءة:
«فإن هذا القرار يكشف أكثر من أي شيء آخر مدى ما وصل إليه نظام الحكم الذي أفرز هذه القيادة من تحلل وضعف وقلة حيلة وانعدام كفاءة، وهو ما يتضح من الصورة الآتية، التي نرسمها من شهادات الشهود من كبار القادة العسكريين المسئولين عن المعركة في ذلك الوقت».
وبدقة المؤرخ الذي يتتبع مصادره فإن الدكتور عبد العظيم رمضان يشير إلى مجموعة مهمة من الحقائق التي غابت عن قرارات المشير عبد الحكيم عامر ، بل إلى الوقائع التي قصدت بها إسرائيل أن تشوه الصورة في ذهن المصريين وأن تجعلهم يعتقدون في عكس الواقع، وهو يتخذ لهذا مثالا حيًا من تحريك إسرائيل زوارقها إلى ميناء إيلات بالطريق البري في النهار وإعادتها بالليل حتى تعطي الانطباع بأنها ستهاجم شرم الشيخ بزوارقها، بينما هي تقصد أن تجبر مصر على سحب أكبر عدد من قطعها البحرية من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، لتقلل من أخطار مهاجمة مصر لتل أبيب عن طريق البحر:
«وعندما نشبت حرب يونيو 1967، كان معظم الأسطول المصري في البحر الأحمر! ذلك أن محور النزاع ـ كما هو معروف ـ كان يدور حول إغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة. وكان قد أذيع وقتها أن بعض الدول البحرية قد قررت الدخول في خليج العقبة بالقوة، وكسر القيود التي فرضتها مصر، الأمر الذي جعل من الضروري مواجهة ذلك بالقوة اللازمة من القطع البحرية».
«على أن إسرائيل، في الوقت نفسه، قامت ببعض الخدع لتحمل مصر على سحب أكبر عدد من قطعها البحرية من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، لتقلل من أخطار مهاجمة الأسطول المصري تل أبيب والمراكز السكانية المزدحمة على الساحل! فقد عمدت إلى نقل أربعة زوارق طوربيد إلى ميناء إيلات بالطريق البري، وتركتها تصل نهارا، ثم تمخر مياه الخليج أمام العقبة متجهة إلى الجنوب، حتى إذا اختفت عن الأنظار، انتظرت حتى يجن الليل، ثم عادت مطفأة الأنوار، وأعيدت بالطريق البري مرة أخرى! وفي اليوم التالي كررت نفس العملية، واستمرت في ذلك في الأيام التالية، حتى أعطت الانطباع بأن الإسرائيليين يبعثون بزوارقهم الحربية إلى الجنوب لمهاجمة شرم الشيخ!».
«وقد نجحت هذه الخدعة في حمل القيادة المصرية على إرسال عديد من القطع البحرية جنوبا عبر قناة السويس إلى البحر الأحمر!».
ويؤكد الدكتور عبد العظيم رمضان على ما ذهب إليه في الفقرة السابقة بما ينقله من شهادة أدلى بها الفريق فؤاد ذكري:
«ويعترف بذلك الفريق بحري فؤاد ذكري، قائد القوات البحرية في أعقاب حرب يونية، فيقول إن القوات البحرية المصرية توزعت على هذا الأساس، فأرسل القسم الأكبر من هذه القوات إلى البحر الأحمر، وبقي القسم الأصغر في البحر المتوسط. وكان السبب في إرسال القسم الأكبر إلى البحر الأحمر، هو التأثر بالفكرة التي سادت وقتذاك بأن عمليات إسرائيل سوف توجه ضد شرم الشيخ والغردقة!».
«وعندما نشبت الحرب، لم تسند إلى القوات البحرية المصرية مهام هجومية! على الرغم من توافر الوحدات ذات القدرات القتالية المؤثرة كما ذكرنا، وإنما كلفت أساسا بمهام دفاعية تتمثل في الدفاع عن السواحل والموانئ، وتنفيذ الهدف السياسي الخاص بالسيطرة على الملاحة بمدخل خليج العقبة».
أعود إلى بدايات المعركة لأعترف بأن تهديدات الرئيس جمال عبد الناصر القوية جعلت القوات الدولية تنسحب من شرم الشيخ، وجعلت إسرائيل تكف عن محاولة الملاحة في هذا الممر (وإن لم يعلن هذا بوضوح)، كما قادت إلى توحيد الصف العربي لأول مرة، وهو ما ظهر واضحًا من موقف الملك حسين.. وهكذا كان من المتوقع إذن أن تكون هناك فرصة لمزيد من الانتصارات.. ولكن ما هي الانتصارات التي كنا نسعى إليها؟
على المستوى الفولكلوري كان الشعب يسأل نفسه هذا السؤال، ويجيب الصالحون من سواد الشعب الصالح بأن قواتنا ستصلي الظهر في تل أبيب وربما في القدس بعد العبور على تل أبيب، أما الذين يتمتعون بنزوات الشباب فكانوا يمنون أنفسهم بسبي نساء اليهود في تل أبيب قبل أن يحل عصر ذلك اليوم!
أما على المستوى القيادي فتكاد الآراء المتاحة تجمع على أنه لم يكن هناك تفكير في أي من هذين الهدفين لا الصلاة في القدس أو تل أبيب ولا المتعة في تل أبيب. وهكذا بدأنا معركة لا نعرف الهدف المحدد منها لأننا لم نحدده.
وسيقرأ الناس ما شاء الله لهم أن يقرؤوا كل ما كتب عن هذه الحرب فلا يجدون فيها موقفا مهمًا جدًّا إلا ذلك الموقف الوحيد والمتفرد عندما أشار المهندس صدقي سليمان (حسبما روى الرئيس السادات نفسه في كتابه البحث عن الذات) إلى أن إغلاق الخليج يعني الحرب.
ربما تضيف بعض الروايات الفولكلورية (المحببة للشعب المصري) بعض الآراء إلى هذا الموقف المحدد المتفرد موقفًا آخر تبلور حين التفت الرئيس جمال عبد الناصر إلى المشير عبد الحكيم عامر يسأله عن استعداد القوات، فأجابه قائد القوات المسلحة بأقصى ما يجاب الرئيس به إذا ما سأل قائد الجيش، قال المشير عبد الحكيم عامر: برقبتي يا ريس!!
ومن العجيب أن كل الذين يذكرون هذا الموقف الثاني ويعولون عليه في التحكيم بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر لا يعنيهم منها غير الجزئية الخاصة بالتعبير الذي نطق به المشير عبد الحكيم عامر ومدي ما ينطوي عنه من.. ومن.. ولكنهم يتجاهلون الموقف الأول وهو التنبيه المهم الذي أثاره الرجل الرشيد المهندس محمد صدقي سليمان.
ومن الطريف أيضًا أن عبارة المشير عبد الحكيم عامر الشهيرة في مواجهة الرئيس جمال عبد الناصر أصبحت بمثابة الموقف الجوهري الذي تبنى عليه نظرية كل القائلين بمسئولية المشير عبد الحكيم عامر عن كل ما حدث فهو قد سئل عن الاستعداد فأجاب، وهكذا يمكن «أو يجب» من باب أولى إلقاء كل المسئولية عليه.
ولست بالطبع في معرض الدفاع عن المشير عبد الحكيم عامر، ولكني أحب أن أعيد التنبيه على ما نبهت إليه في حديثي عن حرب 1956، وهو أن هذه الحرب على نحو ما حدثت كانت أكبر بكثير جدًّا من تصورات كل من المشير عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر.
وسألجأ للتدليل على هذا القول إلى أربعة أمثلة أراد أصحابها بنشرها أشياء أخرى غير هذا الذي أزعمه، وسيلاحظ القارئ أنني أكاد أبتعد عن بؤرة المعركة حتى لا تصاب عيناي بعدم القدرة على الإبصار من فرط توهج المعركة وأحداثها، وإنما أنا حريص على أن أراقب من بعيد حتى تتضح الصورة كاملة أو قريبة من الكمال.
ونأتي إلى المثل الأول الذي يدلنا على مدى وحجم استعداد (أو اللا استعداد) في داخل قواتنا المسلحة.
هذا هو المشير محمد عبد الغني الجمسي، الذي هو بلا شك وبلا جدال واحد من أعظم قادتنا العسكريين، وقد عاش هذه الحرب في صف قريب من الصف الأول، وإن لم يكن الصف الأول نفسه، وهو في مذكراته يحدثنا عن انطباعه عن قرار بدء الحرب فيقول:
«… ومن المؤسف والمؤلم أن يكون كلام المشير عامر ـ إذا صح ما نسب إليه ـ عندما سأله الرئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر مايو 1967 عن استعداد القوات المسلحة لتنفيذ إغلاق المضايق، بعد أن قال عبد الناصر: «إذا قفلنا المضايق فالحرب مؤكدة 100%»، كان رد المشير عامر «برقبتي يا ريس، كل شيء على أتم استعداد». كان ذلك هو الفيصل في الحكم على القدرة القتالية للقوات المسلحة واستعدادها للحرب برغم أنه كلام سطحي لا يستند إلى أساس عسكري، كما أن أسلوب اتخاذ هذا القرار السياسي الهام والخطير ليس هو الأسلوب العلمي الصحيح لزج القوات المسلحة في حرب ضد إسرائيل ومعروف عنها أن احتفاظها بقوات مسلحة متفوقة على الدول العربية هو مبدأ رئيسي من مبادئ سياستها القومية واستراتيجيتها العسكرية منذ نشأتها».
وإذا كان تأخير البيان عند وقت الحاجة إليه لا يجوز، فإنا ننقل هنا ما ذكره المشير محمد عبد الغني الجمسي، أحد أبرز قادة حرب أكتوبر 1973، في مذكراته:
«وجاء الدور على شمس بدران وزير الحربية بتقديمه للمحاكمة، وأثناء هذه المحاكمة في فبراير 1968 سأله رئيس المحكمة عن رأيه فيما حدث، وترتب عليه هزيمة يونيو، رد قائلا «لما تطور الموقف، ورأينا أننا لازم نسحب البوليس الدولي ـ قوات الطوارئ الدولية ـ علشان نبين إن إحنا جاهزين للهجوم، لأن وجود البوليس الدولي يمنع أي عملية دخول لقواتنا، وانسحب البوليس الدولي، واستتبع ذلك احتلال شرم الشيخ الذي استتبع قفل خليج العقبة».
«وكان الرأي أن جيشنا جاهز للقيام بعمليات ضد إسرائيل، وكنا متأكدين 100% إن إسرائيل لا تجرؤ على الهجوم أو أخذ الخطوة الأولى أو المبادرة بالضربة الأولى، وأن دخول إسرائيل أي عملية معناها عملية انتحارية لأنها قطعا ستهزم في هذه العملية».
«ولما سألته المحكمة مستفسرة عن رأيه في أن الرئيس جمال عبد الناصر قرر قفل خليج العقبة بعد أن أخذ تمام من القائد المسئول، رد شمس بدران قائلا «القائد العام ـ المشير عامر ـ أعطى تمام وقال أقدر أنفذ، وبعدين من جهة التنفيذ كان صعب عليه».
علق رئيس المحكمة (حسن الشافعي) على كلام شمس بدران بقوله «والله إذا كانت الأمور تسير بهذا الشكل وتحسب على هذا الأساس، ولا تكون فيه مسئولية الكلمة ومسئولية التصرف، يبقى مش كتير اللى حصل لنا».
أما المثل الثاني فقد ورد في مذكرات قائد عسكري متميز كان قريبا من الصف الأول أو من سلطة اتخاذ القرار وكان المفترض أن يؤخذ برأيه المتبلور في مدى صواب القرار، ولكن أحدًا لم يهتم بقراءة ما كتبه ولا بالانتباه إلى ما حذر منه، هذا القائد هو الفريق الشهير أنور القاضي قائد قواتنا في اليمن ورئيس هيئة العمليات للقوات المسلحة (منذ ما قبل الحرب وفي أثناء الحرب)، وهو يتحدث عن تقرير مهم أعد ولكن لم تتم قراءته فيقول:
«وضعت هيئة العمليات تقريرًا حذرت فيه من القيام بمواجهة عسكرية مع إسرائيل ـ ولفترة زمنية طويلة قادمة ـ حتى يمكن تلافي ما سبق ذكره من عيوب ونقائص».
«عرضت هيئة العمليات هذا التقرير على الفريق أول محمد فوزي رئيس الأركان الذي وافق عليه فورًا وأمر بعرضه على القيادة العليا.
«ويبدو أن المشير عامر تجاهل هذا التقرير، ولم يضعه في اعتباره، عندما وافق خلال مايو 1967 على غلق مضيق العقبة الذي يترتب عليه الحرب. وتمر الأيام، ويكلف الفريق أول فوزي في أواخر أغسطس 1967 بعد الهزيمة بتسلم الأوراق والخرائط السرية للغاية من خزينة منزل المشير عبد الحكيم عامر في الجيزة، فوجد تقرير هيئة العمليات دون أن يبدي المشير عامر عليه أي تعليق».
ونأتي إلى المثل الثالث فهذا الذي يتحدث عنه أنور القاضي يؤكده منير حافظ في حواره مع رشاد كامل الذي نشره الأخير في كتاب «الرئيس جمال عبد الناصر الذي لا نعرفه» حيث يقول:
«… وأذكر أن صلاح نصر مدير المخابرات العامة وقتها أعد تقريرًا من حوالي ثلاثين صفحة جاء فيه أن الوضع ليس بالسهولة التي كنا نتصورها، وأن التصور القائل بتدخل الاتحاد السوفيتي في القتال تصور مبني على غير أساس. في نفس الوقت كان هناك تقرير آخر من المخابرات الحربية يتحدث ويذكر مدى الاستعدادات الإسرائيلية ثم مقارنة بين استعداداتنا واستعداداتهم، ولكن كل ذلك جاء ذكره على استحياء في هذا التقرير!».
وهذا هو المثل الرابع الذي يدلنا على الأجواء الحقيقية التي أحاطت بالمعركة في 1967. فهذا هو رئيس مؤسسة الطيران العربية؛ «أي الشركة التي تشمل شركة الطيران المصرية: مصر للطيران وذلك بعد ما عدل اسمها، على نحو ما كانت كل الأسماء تعدل»، يروي لنا كيف هداه الله إلى أن ينقذ المؤسسة وطائراتها في حرب 1967، وكيف حدث هذا بالصدفة البحتة حين تعطلت سيارته في طريق المطار قبيل الحرب بأيام فمر به صديقه محمد فائق وزير الإرشاد القومي وعلم منه أن الحرب وشيكة، وهكذا بدأ رئيس مؤسسة الطيران بمبادرة شخصية في إجراءات وقائية وعملية وناجحة حمت أسطولنا الجوي.
وهو يروي ما قام به على استحياء، وإن كان فخورا به بالطبع.
كما يروي لنا «دون أن يقصد» كيف كان من الممكن في ذات الوقت أن يؤاخذ على ما قام به.
وقد وردت رواية عبد الرحمن عنان، في أعقاب نشر مسلسل رأفت الهجان، حيث أثيرت كثير من الأقاويل حول مدى التخطيط المصري والاستعداد المدني والعسكري لتلقي الحرب!! ونشرت إحدى مجلاتنا هذه الرسالة التي أرسلها عبد الرحمن عنان ليروي فيها كيف استطاع أن يقي شركته (مؤسسته) آثارًا مدمرة بعد أن علم بمحض الصدفة من الوزير محمد فائق أن الحرب ستشب خلال 48 ساعة! وهذا هو نص الرسالة التي ترينا كيف أن أجهزة الدولة كلها كانت وكأنها مخدرة تنتظر الإفاقة على صوت الداعي إلى الاحتفال بالنصر.
يقول عبد الرحمن عنان:
«بمناسبة 5 يونيو، ذلك اليوم المشئوم الذي لن تنمحي ذكراه أبدًا من قلوب من عاصروه، وتعليقا عما قيل بعد عرض مسلسل رأفت الهجان عن مدى فعاليته في جمع ونقل المعلومات المتوفرة لديه في الوقت المناسب ومدي الاستفادة بها. أود أن أذكر تجربة شخصية إذ علمت بالصدفة البحتة بالموعد التقريبي لهجوم إسرائيل، كما أقرر بأنني لم أخطر من أي جهة رسمية بصفتي رئيسا في ذلك الوقت لمؤسسة الطيران العربية (مصر للطيران الآن) بالاستعداد لهجوم مفاجئ بالرغم من أن أسطول الطيران المدني عادة ما يكون أول ضحية للضربات الجوية الخاطفة وأكثرها تعرضا وأبهظها ثمنًا».
«كان ذلك قبل غروب يوم الجمعة 2 يونيو وكنت عائدًا بعد يوم شاق شديد الحرارة قضيته في مزرعتي.. وقبل نهاية شارع العروبة تعطلت سيارتي فجأة ورفضت أن تستأنف السير مئات من الأمتار إلى منزلي ـ وبعد دقائق قليلة توقف بجواري السيد محمد فائق وزير الإرشاد في ذلك الوقت، وتبادلنا الحديث إذ كنا زميلين برئاسة الجمهورية لمدة طويلة، وعن الحالة السياسية قال إنها سيئة للغاية وإن الحرب سوف تنشب في خلال 48 ساعة، وردا على سؤالي قال: إن إسرائيل سوف تكون البادئة بالهجوم وبدون إعلان حرب كعادتها».
وقد صور عبد الرحمن عنان الموقف الذي وجد نفسه فيه، والقرار الصائب الذي اتخذه، ومدى الحركة الواسع الذي كان أمامه مع أنه كان بمثابة موظف مدني كبير أو مسئول كبير في «موقع مدني» في نهاية الأمر:
«وبت أتقلب في فراشي. وتثاقلت على رأسي الهموم.. فالقوات المسلحة بصفة عامة والقوات الجوية بصفة خاصة اتخذت مواقع هجومية مكشوفة، ولم نكن قد قطعنا شوطا فعالا في إنشاء ملاجئ للطائرات التي بدأناها في 56. ثم إنني توليت مسئوليتي من عدة شهور في ظروف قاسية تتضافر فيها سواعد عشرة آلاف عامل لكي نخطو خطوة ولكنها ملحة لإحلال طائرات بوينج 707 بدلا من طراز الكوميت التي تهددنا من حين لآخر بالتوقف التام. وفي الحروب تصبح الطائرات المدنية لقمة سائغة وهدفا سهلا في الجو أو على الأرض، فإذا دمرت أو دمر معظمها فأمامنا سنوات عجاف لنقف على أقدامنا مرة أخرى».
«ومن مكتبي في الثامنة صباحًا يوم السبت 3 يونيو اتصلت ببعض القادة في القوات الجوية للاطمئنان على مدى الحماية المتوفرة للطائرات المدنية، فاستشعرت لديهم الثقة في قدرة الدفاع والصواريخ الحديثة على صد أي هجوم جوي تقوم به إسرائيل».
«ولكنني لم أشاركهم هذه الثقة الزائدة، فلكل سلاح مضاد وقررت العمل فورًا على تحمل مسئوليتي وفي حدود سلطاتي لتأمين سلامة مؤسسة الطيران من أي هجوم جوي مفاجئ».
ويورد عبد الرحمن عنان تفصيلات تاريخية مهمة لحالة مصر للطيران قبل 1967، وكيف تم إنقاذ ثروتها على نحو ملهم وذكي:
«كان مجلس المديرين بالمؤسسة يجتمع بصفة منتظمة مساء كل يوم أحد من الساعة السادسة إلى منتصف الليل، ولكنني بادرت بعقد اجتماع عاجل في التاسعة من صباح يوم السبت وشرحت فيه ما لديّ من معلومات وشرعنا في وضع خطة كفيلة بالحفاظ على طائرات المؤسسة ومنشآتها بقدر الإمكان. وبعد ساعتين كانت خطوطها متكاملة وبدأنا التنفيذ فورًا».
«1 ـ ثلاث طائرات كوميت أوشكت صلاحيتها على الانتهاء قررنا تزويدها بقطع الغيار المطلوبة وأطقم من الفنيين متخصصة في أعمال الصيانة الدورية وإرسالها لإتمامها في مطار بتشيكوسلوفاكيا ـ ولقد غادرت هذه الطائرات مطار القاهرة بعد ظهر يوم السبت.
2 ـ غرفة عمليات المؤسسة تعمل 24 ساعة يوميا، وتقوم في حالة إنذارها بالخطر بتغيير مسار الطائرات المحلقة في الجو وتحديد الجهة التي ستهبط بها وفقًا للمعلومات المتوفرة والظروف المتاحة.
3 ـ باقي الطائرات الموجودة بمطار القاهرة تخصص لها أطقم تقيم بفندق المؤسسة بالمطار، وتكون مستعدة للإقلاع خلال ثلاثين دقيقة من إنذارها متوجهة إلى المطارات التي تحدد لها.
4 ـ تم تحديد واختيار المطارات الآمنة والبلاد الصديقة وغير ذلك من التوجيهات الإدارية المعتادة».
ولا يفوت عبد الرحمن عنان أن يصور لنا جانبًا مهمًا من الصورة، فهذا هو زميله سامي شرف يتصل به، وإذا كل همه أن يلاحظ صدى الأحداث في الرأي العام قبل أن ينتبه إلى الثروة المعرضة للضياع أو المعركة المعرضة للخسارة:
«وفي مساء ذلك اليوم اتصل بي السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات قائلًا إن عملية ترحيل الطائرات الكوميت إلى تشيكوسلوفاكيا أثارت قلقًا باحتمالات نشوب الحرب، وإن السيد الرئيس مهتم بوقع هذه التحركات على الرأي العام. فأخبرته بحديث السيد محمد فائق وأن هذه الطائرات تحتاج إلى صيانة لفترة طويلة إذا بدأناها في مصر فلن يمكن إنقاذها من التدمير، وكل ما فعلته أني نقلت مكان الصيانة من مطار القاهرة المهدد إلى مطار براج الآمن. ثم تشعب الحديث».
«وكان صباح يوم 5 يونيو محددا لتسليم طائرة من مؤسسة الطيران مهداة إلى شركة الطيران اليمنية، وعلينا أن نقلع من مطار القاهرة في منتصف الليل لأقوم بتسليمها في صباح اليوم التالي، ولكن قلبي لم يكن مطمئنا لمغادرة مصر.. فاتصلت في الحادية عشرة مساء بالسيد أمين هويدي وزير مجلس الوزراء وعرضت عليه الأمر، فكان تقديره أن تسليم الطائرة عمل هام، وأنه يرجو أن تؤدي الجهود المكثفة إلى احتواء الأزمة ومراجعة المواقف السياسية وحل المشكلة سلميا، وأقنعني بالسفر».
يروي عبد الرحمن عنان قصة اللقاء الذي جمعه مع اللواء جمال عرفان قائد القوات الجوية في الجبهة اليمنية وذهابهما للمشير عبد الله السلال، حيث عرفا بواقعة 1967 وهما في القصر الجمهوري اليمني:
«وفي الصباح الباكر من يوم الاثنين 5 يونيو هبطت الطائرة مطار صنعاء، وكان في استقبالنا اللواء طيار جمال عرفان قائد القوات الجوية باليمن ومعه عدد من أعضاء السفارة المصرية وبعض المسئولين اليمنيين، وتوجهنا لمقابلة السيد رئيس جمهورية اليمن، وكان عبد الله السلال في ذلك الوقت، وبالقصر الجمهوري تلقينا أنباء مصر الحزينة. ونزلت علينا أخبار الكارثة كسكين حامية تخترق القلوب، ولم يكن نصر أكتوبر كافيًا لنزع السكين والتئام الجروح العميقة».
«وباشتعال شرارة القتال في التاسعة من صباح الاثنين سلكت طائراتنا سبلها الآمنة حسب الخطة الموضوعة، أو وجهت بواسطة غرفة العمليات أثناء طيرانها. ونتيجة للجهد والإخلاص والتنفيذ الدقيق سلمت مؤسسة الطيران، ولم نفقد طائرة واحدة، وانحصرت خسائرنا في إصابة طائرة مروحية بمطار الأقصر بعدة شظايا وطلقات لم يستغرق إصلاحها سوى عدة أيام».
بهذه الأمثلة الأربعة التي اكتفينا بإيرادها من أمثلة كثيرة ومتعددة نستطيع أن نصل إلى حقيقة مهمة وهي أن سؤال المشير عبد الحكيم عامر أو مساءلته عما حدث في يونيو 1967 يصبح شبيها بسؤال طالب في الطب «أو طبيب شاب على أقصي تقدير» عن النهاية التي حدثت بوفاة مريض في حجرة العمليات حينما تركنا له التصرف فيه «ولن أقول العبث به» وهو تحت التخدير تحت دعوى أنه سيجري عملية جراحية، فلا هو يدري كيف يبدأ ولا كيف ينتهي، وهو لا يدري ما هي الخطوات ولا ما هي العملية أصلًا، كل ما فعله أنه بدأ بفتح بطن المريض ثم أصيب بالارتباك لما رأي الدم ينزف بغزارة شديدة ولا يتوقف مهما وضع (أو لم يضع) من ضمادات!
هل تجنيت على أداء المشير عبد الحكيم عامر في 1967 بهذا الحكم أم أني أنصفته!! وهل أنا بحاجة إلى أن أكرر التشبيه السابق الذي أوردته في مدونة سابقة عن أدائه في 1956، أو أن أحيل القارئ عليه!
المشير عبد الحكيم عامر في حرب 1956: حائر أم مظلوم؟ اضغط هنا
المشير الحائر بين الجيش والسياسة. اضغط هنا
قصة المشير الصعيدي في دمشق. اضغط هنا
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا