من التقنيات الروائية القديمة أن يلجأ القاص إلى كلمة يدير حولها بداية الأحداث ونهايتها وكأنها كلمة السر في الأحداث، ومن الطريف أننا نستطيع اللجوء إلى الروايات الشائعة لنستخدم مثل هذه التقنية في رواية الانقلابات على الوفد في الحياة السياسية في الحقبة الليبرالية مستخدمين لقبه “خشبة” ككلمة للسر، كان أحمد خشبة باشا (1886 ـ 1954) وزيرا مخضرما، وُجد في المناصب الوزارية على مدى ربع قرن كامل وهو صاحب أكبر عدد من الوزارات (١٢ وزارة) التي شارك فيها وزير واحد منذ نشأة النظام الوزاري 1879 وحتى 1952.
ينتمي أحمد خشبة باشا إلى أسرة خشبة المعروفة في أسيوط، وخشبة لقب شائع في مصر، ويبدو أن كان يستخدم سواء من باب المديح أو من باب الدعابة في وصف الأجداد الذين يتمتعون بمزايا بدنية شبيهة بمزايا الخشب، أو بمزايا عقلية شبيهة بمزايا الخشبة، ثم ينتقل مع نسلهم لتُصبح هناك عائلات بأكملها تحمل هذا الاسم. وفي الدقهلية أسرة تحمل هذا اللقب، في شربين، وهي أسرة الأستاذين دريني خشبة وسامي خشبة. وعلى سبيل المثال فإن اسم أحمد خشبة نفسه هو اسم لثلاثة على الأقل من أساتذة الطب المصريين فهو اسم أستاذ طب الأطفال الأشهر والمؤسس في كلية طب بنها الذي هو والد زميلنا الدكتور أحمد خشبة أستاذ طب القلب في عين شمس، كما أنه اسم أستاذ الجراحة في طب الزقازيق.. وهكذا.
نبدأ بما يروى عن وساطته لعبد الناصر
كان أحمد خشبة باشا في الروايات الفولكلورية الشائعة التي لم أجد لها نصا دقيقا مكتوبا هو ذلك الباشا الأسيوطي الذي ذهب إليه والد الرئيس جمال عبد الناصر مصحوباً بابنه ليحصل على توصية الأب الباشا على ابنه للالتحاق بالطلية الحربية، وكان الباشا على عادة النبلاء في ذلك الزمان كريماً مع الأب الذي يريد لابنه مستقبلاً أفضل فاتفق معه على أن يصطحبه هو وابنه في يوم تال بسيارته الخاصة إلى الكلية الحربية.
تُضيف القصة أن الباشا دعا الأب للجلوس إلى جواره، ودعا الابن إلى أن يجلس في المقعد الأمامي، وتضيف القصة في روايات أخرى أن الابن الرئيس تصوّر هذا الأمر على أنه إهانة له، وأنه كان يستحق أن يجلس مع والده ومع الباشا في المقعد الخلفي، ولا يجلس إلى جوار السائق لأن مقامه مقام الباشا وليس مقام السائق، مع أننا حين كنا في سن الرئيس عبد الناصر حين تقدم للكلية الحربية لم نكن نرحب بالجلوس في المقعد الخلفي وإنما كنا نعتبر المقعد الأمامي ذا أفضلية أيّاً ما كان من يصحبنا.
أبرز ما يذكر لأحمد خشبة باشا هو عنايته الشديدة بالتدقيق في اختيار من يعينون في وظائف النيابة والقضاء في أثناء الفترات التي شغل فيها منصب وزير العدل (الحقانية)
بعد الثورة
لك أن تتصور باشوات ما قبل الثورة الذين عاشوا وعانوا في فترة الثورة وقد فاجأهم الضباط الشبان بالانقلاب وأخذوا يعتقلونهم مرة بعد أخرى، فإذا الباشوات ينظرون إلى أحمد خشبة باشا شذراً، ويقولون له: إنه هو السبب في ضياع حقبة الليبيرالية، وحلول حكم العسكر، وقسوة الرئيس عبد الناصر محل عصر الباشوات. وربما أنك تستطيع أيضاً أن تتخيّل مشاعر الندم وتأنيب الضمير عند خشبة باشا أو تتخيّل (من باب مجاراة حكم العسكر) أن خشبة باشا كان فخوراً بهذا “الابن” الواعد الذي ساعده هو في أول حياته حين وضعه على طريق الزعامة!
نعلم أن هذه القصة وحدها حتى لو كانت صحيحة لا تكفي لبناء مفارقات في رواية قصة طويلة، ومن حسن الحظ أو من توافقاته أن هناك ما يُكمّل هذه القصة، وأن ما يُكملها ليس مفارقة واحدة وإنما مفارقات، فقد وتولى خشبة باشا بصفته البرلمانية رئاسة لجنة للفصل في صحة عضوية محمد محمود باشا زعيم الدستوريين وزعيم الأقلية ورئيس الوزراء فيما بعد.
مآثره السياسية
أبرز ما يذكر لأحمد خشبة باشا هو عنايته الشديدة بالتدقيق في اختيار من يعينون في وظائف النيابة والقضاء في أثناء الفترات التي شغل فيها منصب وزير العدل (الحقانية).
بداياته السياسية
كان خشبة باشا في أول عهده ولفترة قصيرة وفديا، وقد انتخب عضواً في عضوا في أول برلمان بعد ثورة ١٩١٩ بصفته الوفدية ك، ما انتخب وكيلا لمجلس النواب الأول في ظل عناية سعد زغلول باشا بتشجيع طبقة جديدة من الشبان وإعدادهم للزعامة، وكان المجلس في اغلبيته وفدياً، وهو الذي تولي رئاسة اللجنة التي نظرت الطعن في عضوية محمد محمود باشا والتي لم تلبث أن أقرت هذا الطعن، وأفضل رواية تصور هذه القصة هي ما كتبه الدكتور محمد حسين هيكل، وهو صديق للطرفين، عنها في مذكراته
بداياته الوزارية
هكذا كانت لخشبة باشا مكانة متقدمة بين شبان الوفد الواعدين حتى إنه كان مع عثمان محرم باشا بمثابة الوزيرين الجديدين الذين مثّلا الوفد في وزارة أحمد زيور التي تشكلت في نهاية 1924 عقب استقالة سعد زغلول بسبب حادث مقتل السردار لي ستاك..، ومع أنه كان وزيراً جديداً في ذلك اليوم فقد كان ترتيبه في هذه الوزارة أول الوزراء بعد رئيس الوزراء نفسه، وذلك لأن كل وزراء هذه الوزارة كانوا وزراء جدد، وكان أحمد خشبة باشا أولهم، ومن الطريف أنه ظل دائماً منذ دخوله الوزارة يتراجع عن مرتبته المتقدمة هذه حيث دخل الوزارة التالية مَنْ هم أقدم منه، لكن خشبة باشا شأنه شأن عثمان محرم لم يطق البقاء في هذه الوزارة أكثر من أسبوع حين عرف أنها لن تكون وزارة وفدية الهوى وهكذا آثر الاستقالة بمجرد أن صرح زيور بما صرح به من سياسة لم يجد بداً تجاهها هو وعثمان محرم باشا من الاستقالة، ولولا هذه الاستقالة المبكرة ما ضمن أحمد خشبة باشا كل ما ناله من مناصب وزارية بعد ذلك، وفي هذا الأسبوع عمل خشبة باشا وزيراً للمعارف العمومية، كما تولي الحقانية (مؤقتاً) لمدة يومين.
كان هو نفسه كلمة السر أو السبب في الانقلاب على النحاس باشا من خلال المشاركة فيما يسميه الوفديون مؤامرة تصديع الائتلاف الوزاري وذلك بالاستقالة مع جعفر والي وإبراهيم فهمى كريم من الوزارة
اشتراكه في الائتلاف الوزاري
فيما بعد فقد كان من الطبيعي أن يصبح خشبة باشا وزيراً في وزارات الوفد أو ممثلا للوفد، وهكذا أصبح وزيراً في الوزارات الائتلافية الثلاث وآخرها الوزارة التي رأسها النحاس باشا. وقد بدأت مشاركاته لما تشكل الائتلاف الوزاري برئاسة عدلي باشا في يونيو 1926 حيث اختير وزيراً للحربية والبحرية، واحتفظ بهذه الوزارة طيلة عهد وزارة عدلي باشا (يونيو 1926 ـ أبريل 1927)، وفي هذه الوزارة أصبح ترتيبه السابع بعد رئيس الوزراء، فقد ضمت وزارة عدلي يكن ستة من الوزراء الأقدم منه في تولي الوزارة.
وطيلة الوزارة التالية وهي وزارة عبد الخالق ثروت باشا تولي أحمد خشبة باشا وزارة المواصلات (أبريل 1927 ـ مارس 1928)، وفي هذه الوزارة أصبح ترتيبه السابع أيضاً بعد رئيس الوزراء، فقد دخل الوزارة جعفر ولى ليتولى الحربية التي كان خشبة باشا يتولاها، وتولي محمد محمود المالية بدلاً من المواصلات التي تولاها خشبة باشا، وتولي مرقص حنا الخارجية بدلاً من المالية، وتولي ثروت باشا الداخلية مع الرئاسة بدلاً من الخارجية التي كان يتولاها في وزارة عدلي باشا.
وهكذا فإن الفارق الوحيد في الأشخاص بين وزارتي عدلي الثانية وثروت الثانية يتمثل في خروج عدلي باشا ودخول جعفر ولي باشا، لكن الوزارة التي يتولاها كل وزير قد اختلفت مع كل من ثروت باشا نفسه، ومرقص حنا باشا، ومحمد محمود باشا، وخشبة باشا. في الوزارة التالية وهي وزارة النحاس باشا الأولي 1928حدث شيء مماثل، فقد أصبح أحمد خشبة باشا وزيراً للحقانية خلفاً لأحمد زكي أبو السعود، وقد تقدم ترتيب خشبة ليكون الخامس بعد رئيس الوزراء، وذلك بعد خروج ثلاثة وزراء وفديين من ذوي المكانة (هم: أحمد زكي أبو السعود باشا، وفتح الله بركات باشا، ومرقص حنا باشا) ودخول وزير وفدي قديم (هو واصف بطرس غالي باشا).
اشتراكه في تصديع الائتلاف الوزاري
ثم كان هو نفسه كلمة السر أو السبب في الانقلاب على النحاس باشا من خلال المشاركة فيما يسميه الوفديون مؤامرة تصديع الائتلاف الوزاري وذلك بالاستقالة مع جعفر والي وإبراهيم فهمى كريم من الوزارة، وهو ما وصفه الملك في بيان إقالة الوزارة بقوله: “ولما كان الائتلاف الذي تقوم عليه الوزارة قد تصدع” ومن هنا جاء هذا المصطلح. كانت النتيجة أن خرج النحاس باشا من الحكم بإقالة أولى وزارته على يد خشبة باشا، لكن خشبة باشا بقي في الوزارة تحت رئاسة محمد محمود الذي كان أحدث منه في تولي المنصب الوزاري والذي حقّق هو نفسه في صحة عضويته في البرلمان.
ومنذ ذلك الحين عاش خشبة باشا في كنف وزارات الأقلية أو الوزارات الإدارية وقد أصبح قاسماً مشتركاً في هذه الوزارة حتى إنه اشترك في 12 وزارة على نحو ما سنرى وكان ممكنا له أن يشترك في حوالي عشرين وزارة لكنه مع هذا بقي كما أشرنا صاحب أكبر عدد من الوزارات التي شارك فيها وزير واحد منذ نشأة النظام الوزاري حتى 1952 ومن هذه الوزارات الاثنى عشر أربع وزارات رأسها ابن مديريته أسيوط محمد محمود باشا وهي كل وزاراته الأربع.
لما شكل محمد محمود باشا وزارته (عقب تصديعه هو وخشبة وآخران لوزارة النحاس) قفز ترتيب أحمد خشبة مرة أخري ليكون الثالث بعد رئيس الوزراء واحتفظ بذات الوزارة التي تولاها في ذات الوزارة السابقة. ومن العجيب أن أحمد خشبة باشا احتفظ بوزارة الحقانية 3 مرات أخري هي بالنسبة له الثالثة والرابعة والخامسة، وذلك في وزارات محمد محمود الثانية والثالثة والرابعة، وهي وزارات متصلة (ديسمبر 1937 ـ أغسطس 1939)، وبذلك فإن وزير الحقانية في وزارات محمد محمود باشا الأربع كان رجلاً واحدا فقط هو أحمد خشبة باشا. ومن الجدير بالذكر أيضاً (إذا ما كان الشيء بالشيء يذكر) أن وزير الحقانية في وزارات حسين رشدي الأربع كان رجلاً واحداً فقط هوعبد الخالق ثروت باشا.
تولي 5 وزارات في 12 وزارة مع 8 رؤساء وزراء هم: زيور باشا، وعدلي باشا، وثروت باشا، والنحاس باشا، ومحمد محمود باشا (4 مرات)، وسري باشا (مرتين)، والنقراشي باشا، وإبراهيم عبد الهادي باشا
معارضته معاهدة ١٩٣٦
كان أحمد خشبة باشا أحد أعضاء مجلس الشيوخ السبعة الذين اقترعوا ضد معاهدة 1936، وربما أنه كان أبرزهم مضيفا بهذا عنصرا جديدا من عناصر عدائه للوفد.
عودته مع محمد محمود باشا في نهاية ١٩٣٧
كان من الطبيعي أن يعود لتولي الوزارة حين ألفها محمد محمود باشا، وأن يستمر طيلة عهد هذه الوزارات (ديسمبر 1937 ـ أغسطس 1939)، ومن الطريف أن ترتيب أحمد خشبة باشا في وزارة محمد محمود باشا الثانية كان الثالث بعد رئيس الوزراء، إذ سبقه في الترتيب رئيسا الوزراء السابقين اللذان اشتركا في هذه الوزارة وهما: إسماعيل صدقي باشا، وعبدالفتاح يحيي باشا، وظل الوضع كذلك في وزارة محمد محمود الثالثة، بل والرابعة حيث دخل أحمد ماهر باشا الوزارة علي حين كان إسماعيل صدقي باشا قد خرج منها، وهكذا ظل أحمد خشبة في الترتيب الثالث بعد رئيس الوزراء.
لم يشترك أحمد خشبة باشا في وزارتي حسن صبري وحسين سري الأولي، لكنه قبل الاشتراك في وزارة حسين سري الثانية، وعمل وزيراً للمواصلات طيلة عهد هذه الوزارة، وكانت هذه أول مرة يعود فيها إلى الموقع الأول بعد رئيس الوزراء الذي كان أحدث منه في تولي المنصب الوزاري. ولم يشترك أحمد خشبة باشا بالطبع في وزارتي النحاس باشا (1942 ـ 1944) ولا في وزارتي أحمد ماهر الاثنين والنقراشي الأولي (1944 ـ 1945)، ولا في وزارة صدقي الثالثة، لكنه عاد واشترك في وزارة النقراشي الثانية طيلة عهد هذه الوزارة، وقد أصبح ترتيبه فيها الأول بعد رئيس الوزراء الذي هو (مثل سري باشا ) أحدث منه في تولي المنصب الوزاري. وقد تولي وزارة العدل في البداية وحتي 19 نوفمبر 1947 حيث تولي الخارجية إلى نهاية عهد هذه الوزارة.
لكنه لم يشترك في وزارة إبراهيم عبدالهادي عند تشكيلها عقب اغتيال النقراشي باشا (وربما يجدر ذكر حقيقة أنه كان وصل إلى منصب الوزير قبل رئيس الوزراء الجديد بخمسة عشر عاماَ)، ومع هذا فقد عاد إلى الاشتراك فيها بعد شهرين من تشكيلها وزيراً للخارجية. ثم كان آخر عهده بالمناصب الوزارية أن اشترك في الأسابيع الثلاثة الأولى من وزارة سري باشا الائتلافية (حتي 16 أغسطس 1949) كوزير للعدل للمرة الثامنة.
ملخص إسهاماته الوزارية
هكذا فإن أحمد خشبة باشا تولي:
ـ وزارة العدل: ثماني مرات (منها أربع مع محمد محمود باشا).
ـ وزارة الخارجية: مرتان.
ـ وزارة المواصلات: مرتان.
ـ وزارة المعارف: مرة واحدة.
ـ وزارة الحربية: مرة واحدة.
أي أنه تولي 5 وزارات في 12 وزارة مع 8 رؤساء وزراء هم: زيور باشا، وعدلي باشا، وثروت باشا، والنحاس باشا، ومحمد محمود باشا (4 مرات)، وسري باشا (مرتين)، والنقراشي باشا، وإبراهيم عبد الهادي باشا. وليس من العدل أن يقال إنه اشترك في كل الوزارات غير الوفدية، ذلك أنه لم يشترك في وزارات على ماهر ولا أحمد ماهر ولا إسماعيل صدقي ولا عبد الفتاح يحيي ولا حسن صبري ولا محمد توفيق نسيم ولا الهلالي باشا! ولولا هذا لكان قد عمل مع كل رؤساء الوزارات في ذلك العهد.
وفاته
توفي في يناير سنة 1954 في أصعب لحظات الأزمة الأولى لعهد الثورة مع الإخوان المسلمين، وقبل أن تشهد مصر أزمة مارس ١٩٥٤.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا