كان البابا كريستوفورس الثاني بطريرك الروم الأرثوذكس في الإسكندرية أول زعامة دينية على الإطلاق انتبهت إلى ما يمليه الضمير الوطني على العرب جميعا في حرب فلسطين، وقد جاهر هذا البابا الشجاع برفض حل الدولتين، كما جاهر برفض توجه الأمم المتحدة المنحاز للرؤية الأمريكية، وجاهر برفض إشراف الفاتيكان على ال/اكن المقدسة ودعا إلى التمسك ببقاء القدس في يد المسلمين وقد أسانيده الواضحة في كل هذه التوجهات، من حسن حظ التاريخ الإسلامي والعربي أن الأستاذ الشيخ محمود شاكر بما عرف عنه من الفضل والوعي والاستبصار والوطنية والشجاعة والجسارة والوضوح سجل هذا الموقف للبابا العظيم في مقال له في مجلة الرسالة، وهو مقال متاح في أكثر من موضع من مواقع تراثنا الفكري والتاريخي
من ثناء الأستاذ شاكر على البابا كريستوفورس الثاني بطريرك الروم الأرثوذكس
نكتفي بهذه الفقرة الحافلة بدفء الحب وصادق التقدير:
” …. يتلألأ قلبه بنور الإخلاص والإيمان، تكلم فأبان عن نفس حرة أفزعت (اليهود المسئولين في مدينة الإسكندرية) أي يهود مصر، فأقبلت طائفة منهم تريد أن تثني هذا الرجل الجليل عن إذاعة حديثه، فأجابهم بأنه ما قال ما قال إلا وهو يعتقد أنه قول صريح سليم، وليس إقحاماً للدين في السياسة، وأنه يقصد حماية التراث المقدس للمسيحية، وإنه إنما يتكلم عن عقيدة وإيمان بما يقول. ذلكم هو الرجل النبيل غبطة البابا كريستوفورس الثاني بطريرك الإسكندرية وإفريقية الأرثوذكس.
ذكاء البابا كريستوفورس في رفض فكرة الدولتين
يلخص الأستاذ محمود شاكر الآراء الذكية الحاسمة للبابا كريستوفورس فيقول ضمن ما يقول: “… جاء في هذا الحديث أن غبطة البطريك الأعظم للروم قد دهش لإنشاء دولتين في فلسطين، ودهش أيضاً من أن تكون أمريكا والاتحاد السوفيتي هما الداعيتين إلى هذا التقسيم. ثم قال:” وإنه لتزداد دهشتنا أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذه المحاولة الجريئة رغم أحداث التأريخ الدالة على فساد هذه الفكرة وخطرها. ولهم العبرة فيما حاوله الإمبراطور جوليان الروماني. ولا ندري كيف فكرتا في وضع الأراضي المسيحية المقدسة في حماية أولئك الذين رغبوا دائماً، جماعات وأفراداً، في أن يعيشوا حتى يروا اليوم الذي لا يسمع فيه ذكر للمسيح. وهل يستطيع إنسان أن يتصور اليهود حرساً وحماة للأمكنة المقدسة. وهم الذين سيعمدون إلى تدنيسها بمجرد السيادة فيها؟”
ذكاء البابا كريستوفورس في رفض فكرة السماح للفاتيكان بالسيادة في فلسطين
” ونحن نرى أيضاً أنه لا يمكن أن يسمح للفاتيكان أن تكون له السيادة في فلسطين، فإن الحروب الصليبية قد برهنت على فساد هذه الفكرة. ولهذا فإننا نحن الروم الأرثوذكس نرى أنه في حالة إلغاء الانتداب الدولي على الأراضي المقدسة، أو عدم وجود دولة عربية مكان هذا الانتداب، أن تعطي للمسلمين حماية هذه الأراضي، لأنهم منذ مارسوا حكمها في هذه القرون الطويلة، قد برهنوا على أنهم جديرون بثقتنا”.
إشادة الشيخ محمود شاكر بفهم البابا كريستوفورس للقضية
يورد الأستاذ الشيخ محمود شاكر بعد هذا رأيه الواضح في الاعتزاز بشهادة بابا الروم الأرثوذكس وتقدير ما وراء هذه الشهادة من فهم عميق للتاريخ الحديث والقديم وهو يصف حديث البابا كريستوفورس بأنه: “…. كلام رجل مؤرخ عالم بصير لا يدفعه إلى ما يقول هوى لشيء ولا رهبة لمكروه، فإن غبطة البابا كريستوفورس قد قضى طفولته وشبابه في فلسطين، وقد عرف بنفسه شعور اليهود ضد العرب وضد الأرض المقدسة، كما قال متكلم بلسان البطريركية الرومية.
“إن حديث هذا الشيخ الأجل سوف يصير قطعة من تاريخنا يرويه أربع مائة مليون عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وهو حدث يفسر كل ما كنا نقول به من أن مشايعة الدول الأوربية والأمريكية للصهيونية الفاجرة، قائمة على الصليبية الحمقاء. فهم يحاربوننا حرباً صليبية لا يستثنون فيها مسلماً ولا نصرانياً في الأرض الإسلامية والعربية وقد كان بعض الناس يعيب علينا هذا الرأي، ولكن حديث البطريك الأعظم قد كشف الغطاء عن كل ذلك، ومهد للتاريخ أرضاً جديدة يدرس فيها هذا الصراع بين أهل الشرق العربي الإسلامي من مسلمين ونصارى، وبين الغرب الصليبي من نصارى ويهود. ولكن نصارى الشرق غير نصارى الغرب، فهؤلاء قوم ملئت قلوبهم أحقاداً صليبية مظلمة لا عقل فيها ولا ضمير لها، أما نصارى الشرق فهم يعرفون تمام المعرفة أن نصارى الغرب قوم مفترون جاهلون متعصبون يريدون أن يدنسوا هذه الأرض المقدسة باليهود عداوة للمسلمين، غير ناظرين إلا بالعين الصليبية البغيضة، لا بعين الإنصاف والحق كما ينظر نصارى المشرق. وحسبنا هذا البيان من البطريك الأعظم، فإنه حسنة لن ينساها له مسلم إلى أن تقوم الساعة”.
موقف اليهود من حديث بابا الروم الأرثوذكس
وبعد كل هذا الوضوح يعقب الأستاذ الشيخ محمود شاكر ملخصا موقف اليهود المصريين المنحاز ضد العرب الذي جعلهم يسارعون إلى البابا في محاولة منهم لإيقاف نشر هذا الحديث الصريح، وينتقد الأستاذ شاكر موقف اليهود المصريين بكل وضوح فيقول: “أحب أن أنبه القارئ، وأنبه قومي العرب في كل مكان، وفي مصر خاصة، إلى أنه ما كاد (يهود مصر) يعلمون نبأ إذاعة هذا الحديث في الصحف حتى تبادروا إلى غبطته يريدون أن يثنوه عن نشره وإذاعته. فما معنى هذا الذي يفعله اليهود الذين خلعنا نحن عليهم الجنسية المصرية؟
وينتقد الأستاذ شاكر أيضا غفلة الحكومة المصرية
“وماذا تقول حكومتنا في هؤلاء القوم الذين يريدون أن يكونوا أعواناً للصهيونية في قلب بلادنا في هذه الساعة؟” أو يحدث هذا في مصر في الأسبوع الماضي، وإذا بنا يقرأ اليوم (8 ديسمبر سنة 1947) أن الشرطة العراقية ألقت القبض عند الحدود العراقية السورية على ثلاثة يهود عراقيين من موظفي شركة الزيت العراقية ومعهم جهاز إرسال لاسلكي. فما معنى هذا؟ “ليعلم اليهود أن العرب لن يقبلوا أن يكون للطابور الخامس عمل في بلادهم”
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا