أبدا بأن أكرر ما قلته كثيرا من أنه مع كل المجد والعظمة التي حققها الرئيس السادات والتي دخل بها التاريخ من أوسع أبوابه، فإنه لم يستطع أن يتخلص من شبح عظمة النحاس باشا وزعامته ونجاته من محولات الاغتيال الجسدي ثم المعنوي التي بذل فيها الرئيس السادات وسلفه والضباط جهدا كبيرا. وعلى الجانب الآخر فقد أدرك الشعب المصري بفطنته الحضارية أن العناية الإلهية تحرس النحاس باشا من كيد المتربصين به، وللشعب المصري كل الحق في أن يتشبث بمثل هذا المعنى العظيم، لكني بكل عقلانيتي وموضوعيتي وكل ما تعلمت أقف حائرًا وخاشعًا ومشدوهًا أمام عناية الله التي تحفظ كذلك سيرة النحاس بعد وفاته، فما من مغرض أراد بالنحاس باشا وسيرته سوءًا إلا ردّ الله سهامه إلى نحره، وكشف المستور من خبيئة نفسه، وهذا في حد ذاته أمر يصعب فهمه إلا بقدر من الإيمان، ويصعب تصوره إلا بقدر أكبر من الإيمان، ويبدو أن إدراكه يحتاج إلى قدر ثالث من الإيمان يفوق القدرين المطلوبين لفهمه ولتصوره.
ومع أني لست ميالا إلى أن أصور النحاس باشا في صورة الملاك، ولا في صورة البشر الملائكيين، فإني أحسبه يمثل النموذج السامي أو المتسامي من بين السياسيين، ولا أقول من بين البشر، فإن ممارسة السياسة في حد ذاتها تقلل من إنسانية الإنسان دون أن يدري الإنسان أنه يفقد من إنسانيته بعضها، إلا أن يكون هذا الإنسان من ندرة النوادر الذين أتيح لهم أن يمارسوا السياسة مبكرا وأن يبتعدوا عنها مبكرا أيضًا، وأن يتأملوا الحياة من علٍ. لهذا فإن تقييم النحاس باشا ينبغي أن يتم في إطار الصورة التي رأينا فيها كثيرًا من السياسيين المصريين والعرب على مدي الفترة التي امتدت إلى نصف قرن من قبله ونصف قرن من بعده، ولست أظن أحدا يستطيع أن يماري في صعوبة أن يجد للنحاس مثيلا من بين كل هؤلاء الذين تبوؤوا ما تبوأه من مقاعد. ولعل موقفه العاقل والحكيم والوطني من محاولات الاغتيالات المتتالية التي تعرض لها يصور لنا جانبا من هذه العظمة. وننقل عن كتابنا زعيم الأمة وعن الأستاذ علي سلامة تسلسل الاعتداءات على النحاس باشا على النحو التاريخي التالي ثم نعقب ببعض الشائع عن بعض هذه المحاولات التي لا تزال بعض أسرارها تتكشف بينما يبدو بعضها الآخر وهو لا يزال منتظرا لفك الحظر عنه في وثائق أجنبية مهمة:
«الاعتداء الأول: عام ١٩٣٠، في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا، وبينما الزعيم مصطفي النحاس باشا في زيارة سياسية للمنصورة عاصمة مديرية الدقهلية إحدى قلاع الوفد الحصينة يوم ٨ يوليو ١٩٣٠، سدد أحد جنود الشرطة إلى صدر مصطفي النحاس ضربة سونكي مسمومة أبت وطنية المجاهد العظيم سينوت بك حنا عضو الوفد المصري إلا أن يفتدي مصطفي النحاس فتلقاها عنه في ذراعه، ونجا الزعيم ولم يبرأ سينوت بك من جراحه التي مات متأثرا بها».
«الاعتداء الثاني: عام ١٩٣٧، وفيه أطلق عز الدين عبد القادر أحد شباب حزب مصر الفتاة الرصاص على سيارة الزعيم بمصر الجديدة، حينما كان في طريقه لحضور مؤتمر وطني ببولاق مصر، وكان وقتها رئيسا للوزارة، فأخطأه الرصاص ونجا الزعيم من هلاك محقق».
ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ محمد الصباغ نشر مؤخرا ما يدل على أن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه كان من المتهمين في هذه الجناية، وكان ترتيبه الثاني والعشرون بين المتهمين، كما نعرف من التاريخ فإن الرئيس جمال عبد الناصر كان في ذلك الوقت لا يزال طالبا في الكلية الحربية، لكن الطبيعة المفرطة في الإنسانية والذكاء التي كانت نحكم تعامل الوفد والنحاس باشا مع القضايا السياسية كانت كفيلة بألا يتطور الأمر إلى فصل أو سجن أو اختفاء قسري أو قتل.
«الاعتداء الثالث: عام ١٩٣٨، وفيه لجأ المتآمرون إلى وضع متفجرات في موتور سيارة الزعيم، ولكن يد الله كانت أسبق من يد المدبرين، فاكتشف أمرها وتم انتزاعها ونجا الزعيم بفضل من ربه».
اعلان
«الاعتداء الرابع: عام ١٩٤٥، وفيه اهتدي المتآمرون إلى طريقة جديدة للخلاص من حياة الزعيم، فألقي أحد العسكريين من أعوان الملك قنبلة على سيارة الزعيم وهي تخترق شارع قصر العيني وهو في طريقه إلى النادي السعدي لحضور أحد الاجتماعات الكبيرة، وشاءت إرادة الله أن تخطئه ولم يصب أحد من المحيطين به بسوء».
«الاعتداء الخامس: عام 1948، وقد تم بصورة أعظم وأخطر من تلك الصور السابقة، فقد تم وضع شحنة ناسفة من الديناميت في إحدى السيارات وتركوها في مفترق الطرق مواجهة لمنزل الزعيم بجاردن سيتي، وكان لانفجارها دوي هائل أيقظ القاهرة والجيزة، وقد دمرت واجهة المنزل واقتلعت أبوابه ونوافذه، واخترقت قطعة ضخمة من الحديد نافذة حجرة نوم الزعيم وتعلقت بناموسية سريره، وحال هذا النسيج الواهي بينها وبين الزعيم فلم يصب بسوء، وقد اعترف أحد العسكريين المشار إليه في الاعتداء السابق باشتراكه في هذه الجريمة النكراء [طبعا فإن القارئ يدرك أن الرئيس السادات هو المقصود] .. والاعتراف سيد الأدلة».
«الاعتداء السادس: في نوفمبر سنة 1948، وبينما الزعيم مصطفي النحاس وفؤاد سراج الدين باشا سكرتير عام الوفد المصري، يغادران السيارة التي كانت تقلهما أمام باب منزل الزعيم بجاردن سيتي، وبينما هما في طريقهما إلى داخل الدار، انهال الرصاص عليهما من مدفع رشاش سريع الطلقات من إحدى السيارات التي كانت تقل المجرمين الآثمين فافتدي الله الزعيم بثلاثة من حراسه الخصوصيين الذين يقومون على خدمته لقوا مصرعهم في الحال وكتب الله للزعيم ولسراج الدين النجاة، وانطلق المجرم الآثم بسيارته تاركا خلفه ضحاياه الذين تركوا وراءهم أولادهم وذويهم».
وصف النحاس باشا لمحاولة اغتياله ونسف منزله
وصف النحاس باشا نفسه في المذكرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا محاولة الاغتيال بنسف منزله وصفًا عاطفيًا دقيقًا فقال: «… بينما أنا كذلك إذا بي في ليلة مظلمة وساعة متأخرة من الليل وأنا نائم في فراشي، بوغت بصوت انفجار هائل مدمر وقع على منزلي وهدم أركانه وأطار زجاج النوافذ وهدم الجدران ووقعت قنابل الديناميت على المنزل في كل مكان، فاستيقظت مذعورًا وسمعت صراخ حرمي فذهبت إلى حجرتها فوجدت شظايا الزجاج قد ملأت يديها، ونظرت إلى الدور الأول للمنزل فإذا بي أفاجأ ببواب المنزل وأسرته صرعي تسيل دماؤهم وتفارقهم أرواحهم».
«لقد ارتج حي جاردن سيتي كله وما حوله واستيقظت عدة أحياء مجاورة على صوت الديناميت الذي روع الآمنين وهرع أعضاء الوفد والشباب والصحافة حين سمعوا بالنبأ وامتلأ البيت بالوافدين الذين كانوا يسيرون على الزجاج المتناثر في أرجاء المنزل وقطع الديناميت الواقعة في كل ناحية من نواحيه وحجرة من حجراته». «لقد استيقظت من نومي على دوي الانفجار وأبلغت النائب العام وتركت كل شيء على حاله فلم تمتد يدي إليه، وكانت قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمة جلاله ورحمته بعبد يعرف له حقه ويؤدي واجبه لم تطلق في عهده رصاصة على وطني ولا سعي في ضرر إنسان ولا فرط في حق من حقوق ربه أو حقوق وطنه، وشاءت قدرة الله أن تنزل قطعتان كبيرتان من الديناميت الذي نسف المنزل على الكلة «الناموسية» التي كنت أنام تحتها وأمامي كتاب الله على الكومودينو سقطت هاتان القطعتان من الشظايا فتعلقت إحداهما بخيط الناموسية الرقيق ولم تسقط على رأسي ولم تود بحياتي، ولو سقطت لأصابتني في مقتل».
«وحضر الذين حضروا من محققين وجمهور، ورأوا هذا المنظر العجيب فرددوا قول الشاعر القديم:
وقـايـة الله أغنت عـن مضاعـفة مـن الدروع وعـن عـال مـن الإطَم
ورددت أنا قول الله العظيم في كتابه الكريم “فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين”.
وبدأ النائب العام (محمود منصور) التحقيق وكان خبر الحرس الحديدي الذي تحدثت عنه من قبل معروفًا لديّ، ثم جاءني من يقول لي أنهم أرادوا قتلك فنجاك الله، وإن ذلك الحرس يعمل لحساب الملك، وإن قوامه ضابطان من الجيش المصري أحدهما يسمي محمد أنور السادات والآخر اسمه عبد الرؤوف نور الدين ومعهم أخرون، ولا يستبعد أن يعاودوا الكرة ويحاولوا ارتكاب جريمة القتل وما يماثلها مرة أخرى.
كانت هذه المعلومات لدي حين سألني محمود منصور النائب العام عمن أتهم، فقلت له على الرغم من أني أعرف أسماء ضباط من الحرس الحديدي هم في نفس الوقت ضباط في الجيش المصري يعملون لحساب فاروق، على الرغم من هذا كله فإنني لو ذكرت لك أنهم هم المجرمون فستحفظ التحقيق وحتى لو قدمت لك الدليل المادي، لأني أعلم أنكم كلكم خدم مطيعون وتستبيحون كل شيء في سبيل إرضائه.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا