نتأمل بعض مراحل حياة دبلوماسي مصري بارز هو عبد الفتاح عمرو باشا ١٩٠٩- ١٩٨٨ من خلال المواقف الفارقة في تاريخه وتاريخ وطنه.
تعبير طه حسين الذي أنصفه من حيث أراد انتقاده
صاغ الدكتور طه حسين المعنى الذي كان يُعبر عن غيرة بعض ساسة المصريين من عبد الفتاح عمرو باشا بعبارة تبدو للوهلة الأولى وكأنها انتقاد لعمرو، بينما هي عند التدبُّر ترفعُ من قدر اختيار عمرو لهذا المنصب، قال طه حسين عن عمرو: إنه يصلُح سفيراً لبريطانيا في مصر أكثر مما يصلُح سفيراً لمصر في بريطانيا.
في خضم اندلاع المقاومة الشعبية في 1951، كانت حكومة الوفد قد استدعت السفير عبد الفتاح عمرو للقاهرة للتشاور حسب التعبير الدبلوماسي في 11ديسمبر 1951، وفي هذه الفترة عينه الملك مستشارا له في 24 ديسمبر 1951، فلما حدث حريق القاهرة بعد شهر من هذا التعيين ذهب بعض مُحرّرو جريدة المصري إلى اتهام عبد الفتاح عمرو باشا وحافظ عفيفي باشا بالتعاون مع السفارة البريطانية بتدبير حريق القاهرة الذي انتهى إلى إقالة وزارة الوفد، وفرض الأحكام العرفية.
علاقته بأحمد حسنين باشا
تُشير التقارير الأمريكية التي ترجمها الدكتور رءوف عباس في كتابه “شخصيات مصرية بعيون أمريكية” إلى أن أحمد حسنين كان يوغر لمن يثق بهم من الصحفيين أن يُشيروا إلى أن عبد الفتاح عمرو باشا هو سفير مصر غير الرسمي في بريطانيا، وذلك تمهيداً لتعيينه سفيراً، ومن الحق أن نقول إن حسنين باشا لم يكن بحاجة إلى مثل هذا الإيعاز، كما أن عبد الفتاح عمرو باشا لم يكن هو الآخر بحاجة إلى هذا الإيعاز، وأكثر من هذا، فإن الملك فاروق نفسه لم يكن بحاجة إلى هذا الإيعاز، لكن كتبة التقارير للمخابرات الأمريكية لا يجدون حرجاً في شغل بعض سطور التقارير أو استغراقها في التأكيد على سطوع الشمس أو حرارة الجو.
لكننا في مقابل هذا لا نستطيع أن نُنكرَ أن حيل الساسة المصريين كانوا قد جرّبوا ما حدث من إزاحة مكرم عبيد وحلول أمين عثمان محله بسهولة واقتدار، قد أصابهم القلق من هذا الجيل الجديد الذي بدأ يقفز في سهولة إلى مواقع استبقاها جيل الباشوات مكرم عبيد والنقراشي وماهر وبهي الدين بركات وعبد الهادي بدوي.
تعيينه في السلك الدبلوماسي وصعوده السريع
لما اعتزل عبد الفتاح عمرو باشا ممارسة الإسكواش بناء على رغبته في المحافظة على الوظيفة والأقدمية …الخ) عُيّن مستشاراً قانونياً في السفارة المصرية في لندن 1939، واحتفظ بهذه الوظيفة حتى 1943، وفي أثناء شغله لهذه الوظيفة اختير سكرتيراً لغرفة التجارة المصرية البريطانية من 1940 ـ 1942. عام 1943 وفي سن مُبكّرة عن أقرانه جميعاً مُنح الباشوية، فإذا تذكرنا أن من مُنحوا الباشوية في ذلك الوقت كانوا من مواليد القرن السابق أدركنا مدى القفزة التي قفزها عبد الفتاح عمرو باشا في البروتوكول المصري.
في 11 نوفمبر 1945، أصبح عبد الفتاح عمرو باشا وزيراً مفوضاً لمصر لدى بريطانيا العظمى قبل أن يصل السادسة والثلاثين، هكذا كان من السهل انتقاد النقراشي (رئيس الوزراء) بديلاً عن الملك فاروق في هذا التعيين، ومن أطرف ما يُمكن للقارئ المعاصر أن يتصوره وأن يعرفه أن الدكتور طه حسين نفسه اندفع بحُكم الحزبية إلى كتابة مقالات يُهاجم فيها هذا الاختيار لابن الصعيد، ونحن نعرف أن طه حسين في ذلك الوقت كان وثيق الصلة بنجيب الهلالي باشا (ابن الصعيد هو الآخر) الذي كان وزيراً للمعارف حتى إقالة حكومة النحاس في 1944.
عودته المفاجئة إلى بريطانيا للمشاركة في عزاء الملك جورج السادس
ومن الطريف أن عودة السفير عبد الفتاح عمرو إلى أداء وظيفته سفيراً لمصر في بريطانيا تمّت بمصادفة تاريخية ذلك أن الملك جورج السادس توفي فجأة في 6 فبراير 1952 في عهد وزارة علي ماهر فأرسلت الحكومة المصرية وفدها في هذا العزاء وضمّ الوفد الأمير محمد عبد المنعم وعبد الفتاح عمرو باشا، ومن ثم بقي عمرو في لندن ليؤدي وظيفته من دون أوراق اعتماد جديدة، وقد قام عبد الفتاح عمرو باشا بدور بارز في مفاوضات وزارة علي ماهر باشا مع البريطانيين ثم في مفاوضات وزارة الهلالي باشا مع البريطانيين.
بعد قيام الثورة مباشرة وفي أغسطس 1952، وقّع الأوصياء على العرش قراراً بإحالة السفير عبد الفتاح عمرو باشا إلى التقاعد، وتعيين الدكتور محمود فوزي سفيراً
قصة زواجه السري
على أن الأطرف من هذا كله في حياة عبد الفتاح عمرو باشا، وهو ما لم تتناوله الصحافة المصرية في ذلك العهد بالقدر المعتاد الآن من صراحة الصحف الصفراء، أن عبد الفتاح عمرو باشا عُيّن في منصب السفير الذي خلا قبلها بعام، عندما استقال منه السفير حسن نشأت باشا لسبب كان موجوداً في عبد الفتاح عمرو باشا نفسه، فقد كان حسن نشأت قد تزوج من بريطانية، وكان القانون الديبلوماسي المصري (ولا يزال) لا يسمح بزواج الديبلوماسيين المصريين من أجنبيات، وهكذا استقال حسن نشأت باشا فإذا بمن يحل محله مُتزوّجٌ (ولكن بالسر وليس بالعلن) من بريطانية، وهكذا تمكّن عمرو باشا من الحصول على منصب السفير، وعلى كلّ الأحوال فإن عبد الفتاح عمرو باشا أصبح سفيراً لمصر منذ 1945 وحتى قيام الثورة في 1952.
فصله بعد قيام ثورة ١٩٥٢
وفيما بعد قيام الثورة مباشرة وفي أغسطس 1952، وقّع الأوصياء على العرش قراراً بإحالة السفير عبد الفتاح عمرو باشا إلى التقاعد، وتعيين الدكتور محمود فوزي سفيراً لحكومة الملك الطفل أحمد فؤاد الثاني إلى بريطانيا، ومن الجدير بالذكر أن الدكتور محمود فوزي كان يكبر السفير عمرو بتسع بسنوات، وعلى كل الأحوال فقد بقي عمرو في بريطانيا عقب إقالته وإلى أن توفي.
نجاحاته
حقّق عبد الفتاح عمرو باشا في أدائه لمنصبه نجاحات بارزة من وجهة نظره لا من وجهة نظر الحقيقة المجردة:
– أول هذه النجاحات هو معاونته القصوى في الوصول إلى صيغة معاهدة صدقي بيفين (1946) التي تُعتبر أفضل النصوص التي وصل إليها المصريون في مفاوضاتهم المُتكرّرة مع البريطانيين.
– ثاني هذه النجاحات هو تعاونه البارز مع وزير الخارجية الوفدي محمد صلاح الدين باشا في التفاوض مع البريطانيين، صحيح أن هذا التعاون توقف في صيف 1951، عندما بدأ القصر يخطط للغدر بحكومة الوفد، لكن المراحل التي توصل إليها صلاح الدين باشا كانت تَدين بجزء كبير من الفضل لعبد الفتاح عمرو، ومع هذا فإن محمد صلاح الدين تحمّل عمرو باشا وأبقى عليه في لندن رغم خلافاتهما المُعلنة، وهو ما يُحسَبُ لصلاح الدين باشا، وللوفد.
– ثالث هذه النجاحات وهو نجاح غير مرغوب في أية دولة دستورية، هو أنه بدأ يخلق خطاً موازياً لمفاوضات مصر مع البريطانيين، وذلك باعتباره مستشاراً غير رسمي للملك للشئون الخارجية أو البريطانية، وقد كانت حكومة الوفد منتبهة إلى هذا، وتمكّن إبراهيم فرح وزير الخارجية بالنيابة (في أثناء سفر صلاح الدين) من أن يضع تصرّفات عبد الفتاح عمرو باشا في إطار فردي شخصي لا يُعبّرُ عن مؤسسات الدولة.
– ومن العجيب أن إلحاح عمرو على القيام بدور كبير دفعه إلى أن يستصدر من الملك قراراً في 24 ديسمبر 1951، أي قبل إقالة حكومة الوفد بشهر بتعيينه مستشاراً للملك للشئون الخارجية في نفس الوقت الذي عُيّن فيه صديقه حافظ عفيف رئيساً للديوان الملكي، لكن هذا التعيين لم يُمهد لما كان ممكناً للملك أن يقوم به من تعيين عبد الفتاح عمرو باشا وزيراً للخارجية، مع إقالة وزارة الوفد عقب حريق القاهرة في يناير 1952، ولو أنه فعل هذا ومكن عمرو من أن يستثمر علاقاته البريطانية، لاستطاع أن يُحقّق شيئاً يُنسبُ إليهما، أي إلى الملك وإلى عبد الفتاح عمرو باشا لكن خيال الملك فاروق وهمته، وخيال عمرو وهمته كانا أبعد عن الوصول إلى مثل هذا التحدي الذي كان ممكناً أن يُغيّر من الصورة.
توفي عبد الفتاح عمرو باشا عن 79 عاماً في 23 يونيو 1988، ولم يكن ينقُصه عن الثمانين إلا شهور.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا