كان الميل إلى ألمانيا ميلا ممتد الأصل، ليس بسبب عداوة للمحتل البريطاني فحسب.. ولكن بسبب التحالف الذي حدث قبل ذلك وانتهى إلى هزيمة مشتركة لدولة الخلافة العثمانية والكيان الإسلامي كله مع الألمان.. وكانت هذه الهزيمة «الشرقية» بحاجة إلى ثأر، شأنها في ذلك شأن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى التي دفعتها دفعًا إلى إشعال الحرب العالمية الثانية على يد هتلر. وأعود فأقول، إن هذه الفكرة التي قربتها للقارئ في الفقرة السابقة لا يمكن أن تكتب الآن مفصلة بهذه الصراحة ولا بهذا الوضوح، لأسباب كثيرة منها: مشكلة الحديث عن النازية، ومنها تجريم الحديث عن الميول النازية، ومنها الخوف من الاتهام التلقائي أو الأوتوماتيكي بالمعاداة للسامية، ومنها الميل أو الاضطرار إلى الخروج من شرنقة الإسلام إلى شرنقة الدول الحديثة عند الحديث مثلًا عن دول العالم الإسلامي في العصر الحديث.. ومن الدينية إلى العلمانية.
لكن الحقيقة التي لا يمكن أن نتغاضى عنها تقول بأن الشعور الإسلامي كان جريحا بسبب الحرب العالمية الأولى ونتيجتها.. سواء في ذلك أكان المسلم يشعر بانتماء إلى دولة الخلافة العثمانية، أم كان يشعر بعداء لها.. لكنه كمسلم كان يذكر ويدرك ويلاحظ ويرى بوضوح أن دولة الخلافة انتهت وأن «التتريك» بدأ، وأن تركيا الكمالية أو الأتاتوركية أصبحت شبه عدوة لهذا العالم الإسلامي الذي كانت تقوده حتى سنوات مضت.. أي أننا نستطيع أن نتأمل بتعجب واندهاش ذلك الإنسان في 1917 الذي هو نفس الإنسان في 1927، بعد أن زاده عقد من الزمن نضجًا.. فهو في 1917 كان يدين بالولاء للدولة العثمانية ويتجه نحو إسطنبول.. لكنه في سنة 1927 كان يشعر بأن إسطنبول التي كان يدين بالولاء لها أصبحت ضده على طول الخط.
نجد صدى أو رد فعل مباشر لهذا الشعور المكبوت عند الحركات الشعبية الناشئة حديثا (في ذلك الوقت) في العالم الإسلامي والاتجاهات اليمينية على حد سواء.. سواء في ذلك الحاج أمين الحسيني في فلسطين، وعلي ماهر باشا وأمثاله في مصر، وأحمد حسين وحسن البنا والإخوان المسلمون، وأنور السادات.. واتجاهات كثيرة في المغرب العربي.. كل هذه الاتجاهات كانت تتوجه لمعاداة بريطانيا وفرنسا من خلال الحماس للمحور.. لا نقول الانضمام للمحور ولا التعاون مع المحور، لكننا نقول بدقة شديدة: الحماس للمحور.. وكان الظن أن المحور كفيل بأن ينجي هذه البلاد أو هذه الأوطان من الاستعمار القائم.
أكثر من هذا، فقد كانت هناك دعاية محورية ممتازة تقوم بها إذاعة برلين في الحرب العالمية الثانية، وكانت تخاطب أمثال هؤلاء باللغة العربية وتدعو لأهدافها، وتعد هؤلاء الشباب وهؤلاء المتحمسين وهؤلاء البشر وهذه الشعوب بالحرية والخلاص من نير الاستعمار البريطاني والفرنسي.. وتعدهم بغد أفضل. لهذا كله، لم يكن غريبًا أن يكون هناك تعاون من نوع ما بين أنور السادات بوصفه شابًّا متحمسًا وبين المحور.. وقد أخذ هذا التعاون صورًا كثيرة جدًّا.. لكننا لا نستطيع التحقق من الروايات المرسلة عن المشاركة العسكرية، وإن كنا نستطيع أن نرسم بعض ملامحها من خلال ما جرى في المحاكمات.
وقد قدمت الأدبيات التاريخية المتاحة روايات كثيرة عن وقائع كثيرة في إطار النشاط المصري الموالي للمحور على مستوى الضباط الشبان الذين كان أنور السادات واحدًا منهم، ونحن نستطيع أن نشير بسرعة إلى أنه كانت هناك محاولة لعبد اللطيف بغدادي، وأحمد سعودي، وأنور السادات، ووجيه أباظة للاتصال بالألمان من خلال طائرة تصل إلى الخطاطبة، ثم غيّر الألمان مسار هذا الطريق الجوي وجعلوها تصل إلى جبل آخر بالصحراء الغربية، ولكن في لحظة معينة توقف هذا الاتصال أو انقطع. في وقت آخر كان هناك اتصال للاتفاق على الذهاب إلى بيروت بالطيران عن طريق دمياط، وفي ذلك الوقت كانت مدينة بيروت نفسها تقع تحت حكم حكومة فيشي الموالية للمحور.
وكانت هناك محاولة ثالثة، وهي المحاولة الأشهر التي قام بها عبد المنعم عبد الرؤوف، وحسين ذو الفقار صبري مع أستاذهما عزيز المصري للهرب إلى مكان اختلفت الروايات في تحديده، لكن الهرب لم يتم ولم يبلغ مقصده بسبب خطأ فني في تشغيل الطائرة، فبدلا من أن يقوم الفني المسؤول عن التشغيل بفتح صمام الزيت لتبريد المحركات قام بإغلاقه.. وبالتالي سرعان ما ارتفعت حرارة الطائرة فانفجرت.
وعندما أحس الذين كانوا يهربون بالطائرة بارتفاع درجة حرارتها هبطوا بها اضطراريا.. وفي لحظة الهبوط انفجرت الطائرة وسقطت فقطعت خطوط الضغط العالي للكهرباء في المنطقة التي سقطت فيها.. وترجلوا من الطائرة وتركوها تشتعل.. وسألوا: أين هم؟ فعرفوا أنهم بين مدينة قليوب ومدينة قها.. وكان عزيز المصري يعرف مأمور مركز قليوب فتوجهوا إليه وطلبوا منه أن يساعدهم بسيارة تعيدهم إلى القاهرة لأنهم كانوا ـ حسب روايتهم ـ في مناسبة اجتماعية في الزقازيق وتعطلت بهم سيارتهم.. ولم يسألهم المأمور كيف تعطلت بهم السيارة ولا كيف يمكن أن يساعدهم في إصلاحها لهم، وإنما مكنهم بسرعة من سيارة أوصلتهم إلى القاهرة، وهناك اختبأوا في بيت الفنان المثال العظيم عبد القادر رزق في إمبابة.
وبعد لأىٍ تم اكتشاف هؤلاء الضباط الهاربين الذين كانوا من ذوي الحيثية الفائقة، ورويت روايات كثيرة ومتعددة من مصادر كثيرة عن الوسيلة التي مكنت من الوصول إلى مخبأ هؤلاء، لكن أقرب هذه الروايات إلى المعقولية هي ما يروى عن ملاحظات ذكية للبوليس السياسي، حيث لاحظ أحد أفراد هذا البوليس السياسي أن الفنان عبد القادر رزق يشتري من محلات «جروبي» أكلا كثيرًا.. فمن العادة في الولائم أن الفرد قد يشتري أكلًا كثيرًا يوما ما أو بصفة أسبوعية.. لكن أن يشتري كميات كبيرة كل يوم من محلات جروبي فذلك ليس شيئا طبيعيا.. فتتبع (رجل البوليس السياسي) عبد القادر رزق حتى وصل إلى بيته.. وهكذا تقرر مداهمة البيت وعندما ذهب ضابط البوليس السياسي إلى البيت وقام بطرق الباب وفتح له اكتشف وجود عزيز المصري فاستأذنه في أن يقبض عليه، لأن نجم البوليسي السياسي نفسه كان تلميذا لعزيز المصري أيضًا.. وتم القبض على عزيز المصري وزميليه وظلوا في المعتقل إلى أن جاءت حكومة الوفد بعد حادث ٤ فبراير 1942 وألغت محاكمتهم، وحررتهم.
والواقع الذي لا شك فيه أن أنور السادات كان مشتركا في كل هذه المحاولات.. وكثيرا ما يقول أعداء أنور السادات، إنه كان حريصًا في اللحظات الأخيرة من معظم هذه المحاولات على أن يغير دوره، بحيث لا يصبح في المواجهة.. وبالطبع فإن هذا جائز الصواب.. كما أنه مبرر أيضًا. لكن الحقيقة المنصفة لا تستطيع أن تقف عند القول بأن أنور السادات كان ذكيا لدرجة أن تجاوزته الاتهامات أو أدركته البراءة بعد الاتهام في كثير من الأعمال السرية التي شارك فيها.. ذلك إنه فُصل وأدين مرة واثنتين بسبب هذه المحاولات الوطنية.. فليس معنى عثورنا على أكثر من تصرف مرحلي من السادات في مغامرة أو أخرى أنه كان على طول الخط يبتعد عن مناطق الخطر أو عن المواجهة.. وإنما الواقع أنه كان يقترب من مناطق الخطر، وكان من الضروري أن يكون حذرا في بعض التصرفات.. وأنه كان من الضروري أن يقوم بالتمويه في بعض الأحيان الأخرى.. لكن لا أحد في النهاية ينكر مدى التضحية التي قدمها أنور السادات من صحته.. ومن جهده.. ومن حياته.. ومن ماله.. ومن وظيفته.. ومن مجده.. ومن كل شيء في هذه الفترة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا