كان الطيّار حسن عاكف الطيّار الخاص للملك فاروق واحداً من الشخصيات المؤثرة التي عرفتُها في مُقتبلِ حياتي، وقد تعلّمت منه الكثير الذي لا أزال أذكره به من فنون الحياة والتعامل معها بطريقة سلسة لا تجلُبُ المتاعب ولا تُحطم الأعصاب، فقد كان هذا الطيّار بحُكم مهنته وتفوُّقه البارز فيها قادراً على سبيل المثال على درجات عُليا من الحكم الفوري والإنصاف الموضوعي والحياد العاطفي والثبات الانفعالي وهي في رأيي رباعية لابد منها لمهنتين خطرتين، أولاهما مهنة طبيب الرعاية المركزة، وثانيتهما وأقدمهما مهنة الطيار، وما من مرة تحدثت بهذه الفكرة إلى زملائي من أطباء الرعاية المركزة التالين لي في السن والمتفوقين علىّ في العلم والمهارة، إلا واستحضرت صورة هذا الرجل الفذ.
لهذا الطيار وجود بارز في حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية سنتحدث عنه إن شاء الله في مقام آخر، لكني في هذا المقام أحب أن أذكر أن السبب في معرفتي بهذا الطيار العظيم كان بسيطاً وطريفاً، وهو أنه شقيق العالم المصري الكبير الدكتور أحمد زكي الذي كتبت عنه ثالث كتاب كبير ألّفْتُه، فلما جاء موعد نشر ذلك الكتاب في الهيئة المصرية العامة للكتاب رأى رئيس مجلس إدارتها الدكتور عز الدين إسماعيل أن يُعيد بنشره افتتاح سلسلة أعلام العرب في إصدارها الثاني بعد أن كانت قد توقفت. وبالطبع فقد أضاء لي الطيّار حسن عاكف كثيراً من معالم حياة أخيه الدكتور أحمد زكي (1894 ـ 1975) وبما وفر للباب الأول من كتابي عن ذلك الرجل العظيم كثيراً من العمق والاتساع وصواب الرؤية والرأي.
من زاوية ملازمة ومتلازمة، فإن فرصة اللقاء بمثل هذا الرجل التاريخي أتاحت لي كثيراً من التصويبات لكثير من الانطباعات عن بعض الوقائع التي حدثت في عهد الملك فاروق، ومع كل الاحترام للاعتقاد السائد في أن الطيّار حسن عاكف كان من القلائل الذين حاولوا أن يُنقذوا الملك والملكية بعمل عسكري فإن الرجل فيما فعل وفيما رُوِيَ لم يكن يخرُج عن الحدود التي يفرضها عليه منصبه أو وظيفته، لكنه مع ذلك أصبح مكروهاً عند رجال ثورة يوليو 1952.
وفيما يبدو، فإن كل الأخبار التي رُوِّجت بعد وفاة الرئيس السادات عن علاقة كل من الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات بالملك فاروق وحاشيته تحملُ كثيراً من المبالغة في تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، لسبب بسيط، هو أن طيّار الملك نفسه كان أولى بأن يكون على رأس تنظيم من هذه التنظيمات التي قيل إن الملك أسَّسها سواء للانتقام من خصومه، أو للحفاظ على عرشه، أو للتعاون مع حلفائه من الأمريكيين أو غيرهم. وربما أن مجمل القول الصادق في هذه القضية يذهب بها إلى حدود البدايات أو النوايا بدلاً من أن يجزم بوجود تنظيم أو تنظيمات.
لكن العامل الأهم من تقييم الصدق في هذا التخمين أو ذلك التوليف، هو أنني أستطيع أن أقول بثقة إن كل التأليفات والروايات التي تناولت هذه الفترة استوحت أحداث ثلاثين عاماً (1952 ـ 1982) وأسقطتها على فترة ما قبل 1952 التي كان أقطابها يعيشون في هدوء وراحة بال إلى أبعد مدى، ولم يكن بالهم ينصرف إلى هذا الحكم المتراكم من المؤامرات والترتيبات التي تصورها المذكرات والروايات التي صدرت بعد ذلك، وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن الفريق أول محمد أحمد صادق والفريق سعد الشاذلي اللذين كانا يشغلان (معاً) منصبي القائد العام للقوات المسلحة، ورئيس الأركان ما بين 15 مايو 1971 وحتى أكتوبر 1972 كانا من الذين خدموا في حراسة الملك فاروق نفسه، ولهما مع الملك وفريق الحراسة صور كثيرة متعددة ليست نادرة ولا ممنوعة.
أقفز إلى بعض الذكريات التي نجحت أن أستقطرها من الطيّار حسن عاكف حين كُنت ألتقيه قبل عام 1980 في منزله بالقرب القريب من ميدان روكسي وفي نفس الشارع الذي يؤدي إلى بيت الأستاذ عباس محمود العقاد، وكعادة أيِّ شاب مشغول في ذلك الوقت بفكرة الجماعات الإسلامية، من ناحية، وعلاقة الدولة بالدين من ناحية أخرى، فقد سألت الطيّار حسن عاكف عن السبب الذي جعل الملك فاروق يُطلق لحيته في وقت من الأوقات ثم يعود إلى حلاقتها، وإذا بي أفاجأ بما لم أكن أتصوَّرُ سماعه، وهو التشخيص البسيط جداً الذي كان أساتذتنا في ذلك الوقت يُحذروننا أننا قد نُهمله في ظلِّ حرصنا على إظهار عضلاتنا العلمية، وإذا بالطيَّار حسن عاكف يُصارحني أن الملك أُصيب بخربشة شديدة في وجهه، وبعد محاولات متعددة لمعالجة آثار هذه الخربشة حتى لا يظهر أثرها في ذلك الوجه الأبيض النوراني، فقد وجد صاحب هذا الوجه أن أفضل طريقة هي أن يُطلق لحيته لفترة من الزمن تكفي لالتئام موضع الخربشة، فلمّا التأم هذا الموضع عاد الملك فاروق إلى حلاقة ذقنه على النحو المُعتاد.
على أن الطريف في الموضوع أن الملك بلحيته كان أجمل منه بدون هذه اللحية، أما سبب هذه الخربشة فيستطيع القارئ أن يحدسه، وإن كنت بما عُرف عني لا أستطيع كتابته.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا