أبدأ بالتنبيه على عدة حقائق، أولها أن المصريين يستخدمون تعبير الباشوات للدلالة على عدة معاني مختلفة وإن كان بعضها متقاربا مع بعضها الآخر، فأما أرقى هذه الاستعمالات فهو للدلالة على حالة من استحقاق الرقي الاجتماعي والاعتراف المُجتمعي بصاحب شخصية ما، فإذا قيل عن طبيب أو أستاذ أو مهندس أو صُحفي أو مقاول إنه باشا فالمقصود أنه ارتقى إلى طبقة القمة بين أنداده، والتعبير ليس إقصائياً أي إنه يسمح بوجود أكثر من باشا وذلك على عكس تعبير الأستاذ أو الزعيم أو المعلم الذي يحاول أن ينفرد بالمجد المُستحقّ لشخص واحد فقط.
ثاني هذه الاستعمالات هو للتدليل على الوصول إلى حالة من الاكتفاء من النفوذ والمناصب ترتبط بالترفع أو التقاعد الاختياري الذي يجعل صاحب هذا اللقب ينصرف عن المنافسة لأنه صار باشا، ولم يعُد هناك مُبرّر لاجتهاده في المنافسة وذلك أن يفكر بعض الناس في أن يُرشحوا شخصاً لامعاً لمنصب النقيب في انتخابات قادمة فيرد عليهم بعضهم بأنه لن يقبل لأنه أصبح باشا أي أصبح مترفعا أو متقاعداً أو متقاعسا عن دخول معارك اثبات الاستحقاق.
ثالث هذه الاستعمالات هي التعبير عمن يقوده استغلال النفوذ إلى مرحلة من الصعود الاجتماعي لم يُؤهل لها، ولك من قبيل ضباط ثورة 1952 الذين اكتفوا من مغانم الثورة بالمغانم المادية، وابتعدوا عن الصراع على السلطة مؤثرين أن يستمتعوا بالمزايا المادية وحدها ومُكوّنين طبقة سمّاها المؤرخ الدكتور حسين مؤنس باشوات وسوبر باشوات ووضع عنها كتاباً مُتميّزاً، ونظراً لأن هؤلاء ابتعدوا عن صراع الحياة العامة فإنهم عاشوا في الظل ولكنه الظل الظليل، وكثير منهم يستمتعون بثروات عقارية أو زراعية بعيداً عن نبض الحياة السياسية أو الحزبية التي ابتعدوا عنها بالجبر أو بالاختيار، ومن هؤلاء بعض أشقاء ذوي النفوذ وأزواج بناتهن.. الخ والقائمة معروفة.
أنتقل إلى الجزئية الثانية في هذا المقال وهي أن الباشوية لم تكن شرطاً لتولي الوزارة فيما قبل 1952 بل على العكس من هذا فإنني أجريت دراسة استعراضية واسعة انتهيت فيها إلى أن … من الوزراء كانوا افندية فحسب عندما اختيروا لتولي الوزارة ومن الطريف في هذا المقام أن أول وزير اختير ولم يكن قد حصل على الباشوية قبل الوزارة هو الزعيم سعد زغلول الذي كان بك فقط عندما اختير وزيراً في 1906 أما أول وزيرين من الأفندية فكانا هما واصف بطرس غالي باشا ونجيب الغرابلي باشا وقد أصبحا وزيرين في وزارة سعد زغلول 1924 وهنا يجدر بنا أن نذكر أن الزعيم مصطفى النحاس حين اختير وزيراً كان مثل سعد زغلول قد وصل إلى درجة البكوية.
أما بقاء واصف بطرس غالي بدون بكوية ولا باشوية على الرغم من أن والده كان رئيساً للوزارة فيعود السبب فيه إلى أنه لم يكن الابن الأكبر لوالده وأن شقيقه الأكبر نجيب هو الذي نال الحظوة فعُيّن وزيراً للخارجية كما نال الباشوية. بعد هذه المقدمات الكاشفة اتحدث بوضوح عن أن نظام مبارك كان يملك كثيراً من المزايا التي مكّنت من تأسيسه لحالة مُتميّزة من الاستقرار والبناء على الاستقرار، ومن ثم حافظ على هذه الحالة، ومن هذه المزايا أن مبارك احتفظ بمجموعة من الشخصيات المثالية والقريبة من المثالية في مواقع متميّزة، وأعطى لها مساحات من الحرية في القرار النهائي فكانت النتيجة ان هذه الخطوة دعمت نظام مبارك بأكثر من اية خطوة أخرى.
ومع أن تقييم الأشخاص يختلف من مراتب لأخرى ومن ناقد لآخر فإن هناك أربع شخصيات امتازت بقدر كبير من الاحترام والترفُع وبالهدوء والكفاءة والثقة والأمانة والمصداقية مما جعل نظام مبارك يجني بفضلها كثيراً من الثمار، ونحن نلاحظ أن هؤلاء الأربعة كانوا قادرين على نيل الوزارة لو لم تقم الثورة وتُلغي الألقاب، كما أنهم كانوا قادرين على نيل رتبة الباشوية لو لم تقم الثورة وتُلغي الألقاب. كما أنهم كانوا قادرين على الوصول إلى ما وصلوا إليه في عهد الرئيس مبارك لو أن عهد الملكية قد طال أو لو أن عهد السادات قد طال.
وهؤلاء الأربعة هم بترتيب أعمارهم:
الأول: الشيخ جاد الحق علي جاد الله مُفتي الجمهورية ووزير الأوقاف وشيخ الأزهر الذي قضى ما قضاه من حياته في عصر مبارك في أرفع المناصب متوليا هذه المناصب الثلاثة على التوالي حتى وفاته في 1996، وقد تخرج في كلية الشريعة 1941 ثم نال العالمية من كلية الشريعة أيضا 1943 وانتظم في سلم القضاء الشرعي حتى أصبح مفتيا للجمهورية في نهاية عهد السادات وبداية عهد مبارك وعاش حياته كلها نزيها أمينا مخلصا شريفا محترما محقا ملتزماً.
الثاني: المستشار فاروق سيف النصر وزير العدل ما بين 1987 و2004 ورئيس المحكمة الدستورية قبل ذلك، وقد ألح عليه الرئيس مبارك في البقاء لكن ظروفه الصحية لم تكن تسمح له. ومن المتواتر أن الرئيس مبارك عرف هذين الرجلين حين كانا قاضيين وحين كان هو لا يزال طالبا في المرحلة الثانوية وذلك بسبب ظروف عملهما في المدينة التي كان مبارك طالبا فيها في المدرسة الثانوية.
الثالث: هو الدكتور مصطفى كمال حلمي رئيس مجلس الشورى 1989 ـ 2004 ونائب رئيس الوزراء (1982 ـ 1986) والوزير (1974 ـ 1978) و(1979 ـ 1982)، وقد عرفه الرئيس مبارك في أثناء عمله نائباً لرئيس الجمهورية واحتفظ بوجوده إلى جواره.
الرابع: هو الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية (1984-1991) والأمين العام للجامعة العربية (1991 ـ 2001) وقد عرفه الرئيس أيضا قبل أن يُصبح رئيساً للجمهورية، واحتفظ بوجوده إلى جواره.
اجتمعت في هؤلاء الباشوات الأربعة صفات الهدوء والتعقُّل والسكينة والتروي والبعد عن المعارك وعن خضم الحياة وصراعاتها، والخلافات الطارئة والصناعية والمحاور والتحزبات. كانت ألفاظهم دقيقة ومحسوبة وكانت تصرفاتهم رزينة وواعية، وكانت أصواتهم هادئة ومؤثرة، وكانت نبراتهم عاقلة ومريحة وكأنهم لا يزالون يعيشون الفترات التي نشأوا فيها في الأربعينيات.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا