الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / لويس عوض الذي فتت الناصرية بالتشويش المغناطيسي

لويس عوض الذي فتت الناصرية بالتشويش المغناطيسي

أتيح لي أن أعرف الدكتور لويس عوض (1915 ـ 1990) في السنوات الأخيرة من سبعينيات القرن الماضي، وقد كان حفيا بي ومقدرا ومرحبا على عكس ما عرفت فيما بعد عن عاداته السابقة

للدكتور لويس عوض مكانة مختلف عليها إلى أقصى الحدود ، فيما بين الوجوه اللامعة من مثقفينا ذوي الاهتمامات الثقافية المتعددة ، ومن المؤكد أنه هو نفسه الذي جنى على نفسه ، كما أنه هو نفسه أيضا الذي شق لها مكانة وموضعا و موقعا ، ومن المؤكد أن معركته مع العلامة الأستاذ محمود شاكر قد أثخنته بالجراح حتى الآن لكنه هو الذي فعل هذا بنفسه ، أما أثره الذي لا يزال باقيا فهو ما قام به في فترة نضجه في السبعينيات من تحليله المتأني للتجربة الناصرية ، وقد مارس في هذا التحليل كل مهارات البحث العلمي المتاحة لأمثاله من أساتذة الأدب ومحللي النصوص ، فإذا بالناصرية تتفتت على يديه بسهولة على الرغم من أنه لم يقصد ذلك ، و إذا نتائج قراءاته تلمس الحقيقة التي لم يصل إليها المعنيون بالفلسفة والاجتماع والنظم السياسية والاقتصاد السياسي ، وإذا بأثر تحليله قد فاق كل الآثار الأخرى التي اقتصرت على مقاربات دافئة أو متحمسة ، ولم تفعل ما فعله الدكتور لويس عوض من قبيل قوله مخاطبا الناصرية : إنك إذا كنت تريد تكرار تجربة محمد على باشا فلابد لك من إبراهيم باشا وليس عبد الحكيم عامر ، وعلى هذا النمط من الاستعانة بالمجال الذي يخلقه الرنين المغناطيسي أو بالأحرى الطنين المغناطيسي (الأقرب إلى التشويش منه إلى الحث والتوليد ) ناقش الدكتور لويس عوض الناصرية وحللها ، و قلّب أقنعتها السبعة باقتدار ، وذلك من قبل أن يتاح لنا في الطب العمل و الإفادة من تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي بكل ما تتيحه من التصوير الدقيق والرسم المبهر لكل كيان وعضو ووظيفة . .
أتيح لي أن أعرف الدكتور لويس عوض (1915 ـ 1990) في السنوات الأخيرة من سبعينيات القرن الماضي، وقد كان حفيا بي ومقدرا ومرحبا على عكس ما عرفت فيما بعد عن عاداته السابقة في التعامل المبكر مع الآخرين، وربما كان هذا بحكم تقدم سنه، وربما كان هذا بحكم انفساح الأجواء الأدبية وتقلص سلطته في عصر سابق، ولا أنكر أن سلوكه هذا قد أسرني وبخاصة أني كنت أراه متجهماً وكثير الهجوم في شجاعة على أسماء كثيرة من المشاهير وغير المشاهير على حد سواء.
في صالون لويس
وقد شدني في صالونه أكثر من عامل من عوامل الجاذبية والاستمتاع، فقد كان الصالون حافلاً بالنميمة الصادقة والكاذبة على حد سواء، ولا أزعم أن حاستي التاريخية والسياسية في تمييز الصادق من الكاذب [في ذلك الوقت] كانت قد نمت إلى مستواها المعقول ولا المعروف ، لكنني من ناحية أخري كنت أستطيع معرفة كذب كثير من الروايات التي يتداولها رواد الصالون بحكم العلم بالوقائع أو بحكم العلم عن طريق الحواس، وعلى سبيل المثال فكم من مرة بدأ الصالون بفقاعة كاذبة تروي حدثاً من الأحداث على مستوي بيوت السياسيين الكبار، وسرعان ما كان يتضح لي كذب الرواية كلها من خلال شيء أعرفه أو أعلمه علم اليقين، وبالتالي كان ينهار كل التحليل والتنبؤ الذي قدمه الدكتور لويس عوض لرواد صالونه.
وشيئا فشيئا بدأت أدرك أن قدرا كبيرا من مشاعر الكراهية والانتقام والرغبة في التشفي تسيطر على أحكام هذا الرجل حتى تجبره على ترويج هذه الأحكام وعلى البعد عن الصواب، ومع هذا فإن متعة الاستماع إلى النميمة وإلى التحليل الآني والتلقائي لعناصرها جعلاني أحتفظ بصلتي المتقطعة بهذا الصالون الأهرامي المثير.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد كان من أسلحة الدكتور لويس عوض في صالونه إرجاع أي انحراف خلقي إلى أخلاق البورجوازيين، وإرجاع أي تحالف جديد في نطاق السياسة إلى المصلحة المباشرة التي هي سمة من سمات المجتمع الرأسمالي، وإرجاع أي التزام خلقي أو ديني جديد إلى التأثر بأموال السعودية أو بسلطتها المعنوية على النظام المصري.
من ناحية أخري وهذا وجه من وجوه المفارقة المفهومة فإن الدكتور لويس عوض كان منتبها بشدة إلى ما نسميه في السياسة: ” دكتاتورية الطبقة العاملة” أو ” دكتاتورية البروليتاريا ” بل إنه كان قد جعل هذه الفكرة محورا لروايته ” العنقاء” أو ” تاريخ حسن مفتاح “
ويتصل بهذا أنه كان مناهضا لكثير من جماعات الشيوعيين في مصر مع أنه في تصنيف الأغلبية شيوعي، وقد وصل الأمر به إلى المنع من دخول الاتحاد السوفيتي، مع انه كان معتقلا بارزا بسبب الشيوعية في الواحات، كما وصل الأمر به أن هاجمته جريدة البرافدا التي هي جريدة الحزب الشيوعي واتهمته بمحاولة التخريب في الحركة الماركسية المصرية”.
الفرانكو آراب هي لغته في الحديث اليومي
كان الدكتور لويس عوض على الدوام يتحدث بلغة أقرب ما تكون إلى “الفرانكو آراب”، وإن كانت فرانكو آراب من طبقة مثقفة، وعلى الرغم من أنه كان أستاذاً للإنجليزية والأدب الإنجليزي، فإنه كان يلجأ إلى المفردات الفرنسية والتعبيرات الفرنسية والاستشهادات الفرنسية أكثر من لجوئه إلى المفردات والتعبيرات والاستشهادات الإنجليزية، ولم يكن “للأنجلو آراب” في حديثه عُشر ما “للفرانكو آراب”.
كنت أعرف مسبقاً من قراءاتي أن زوجته فرنسية، لكن هذا لم يكن بمثابة المبرر الكافي لمثل هذا السلوك، ويبدو لي الآن أن الدكتور لويس عوض كان بحكم الطبع، والطبع سابق على التطبع بما فيه من دراسة، ميالا إلى النمط الفرنسي في التفكير، وربما أن امتزاج هذا الميل مع طبيعة دراسة الإنجليزية مع إتقانه المبكر للغة العربية والحديث والكتابة بها كان بمثابة العامل الأول في تكوين أسلوبه المميز في التعبير والنقد على حد سواء، وهو أسلوب أخذ من اللغات الثلاث ومن آدابها.
وسرعان ما اكتشفت في الدكتور لويس عوض قدرة فائقة (حتى وإن كانت خاطئة أو مغرضة) على التصنيف السريع للبشر والاتجاهات والمثقفين، وكانت قدرته على هذه الناحية تتطور تلقائيا إلى مواقف نقدية أو تقييمية حادة، وربما غير مبررة.
وكان اكتشافي لهذه الظاهرة المتجسدة فيه سابقا على ما عرفناه فيما بعد من ميل المثقفين إلى الظاهرة التي نسميها التنميط.
قدرته على وضع السيناريوهات الجذابة
في مرحلة تالية مباشرة لهذه المرحلة اكتشفت قدرة الدكتور لويس عوض الرهيبة على وضع سيناريوهات معارك مقبلة يشغل بها حوارييه وأتباعه، وقد راعني على سبيل المثال أنه حدثني ذات يوم أن الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور معرض عن قريب للغضب من السلطة، وبالتالي فإنه معرض لأن يفقد منصبه كرئيس للهيئة المصرية العامة للكتاب، ولم يكن مثل هذا التفكير مستبعداً في ذلك الوقت الذي كان يحفل بسرعة تغيير الأشخاص في كثير من المواقع، وبخاصة في المواقع الوزارية والمواقع القريبة منها، لكن الغريب في الأمر أن هذا الحديث دار على باب صلاح عبد الصبور نفسه وبعد أن خرجنا من لقائه، وسرعان ما استطرد الدكتور لويس عوض إلى خوفه من أن يأتي أديب يميني سماه بالاسم ليشغل موقع صلاح عبد الصبور، وكان هذا الأديب يشغل وظيفة في وزارة الثقافة، كما كان مشغولاً تماماً وراضياً تماماً برياسة تحرير مجلة ثقافية كبيرة في ذلك الوقت، ولم يبد لي من بعيد ولا قريب أنه معني بأن يشغل هذا المنصب بكل تبعاته، وبخاصة أنه كان بحكم القواعد البيروقراطية في ذلك الوقت بعيداً تماماً عن الهيئة ومناصبها، ولما شرحت وجهة نظري للدكتور الدكتور لويس عوض كان رده: أن كلامي قد يكون صحيحاً جملة وتفصيلاً، لكن هذا الشخص هو البديل الطبيعي لصلاح عبد الصبور لو أن الدولة أرادت أن تحتفظ بهذا الموقع في جيبها “اليمين”.
ومن المدهش أن أحدا في الدولة لم يكن يفكر على هذا النحو التآمري المكتمل الصنعة الذي كان طابع العصر الناصري، بل إن هذا لم يحدث عندما جاءت الفرصة تلقائيا بعد وفاة صلاح عبد الصبور المفاجئة التي وقعت بعد شهر أو شهرين من حواري هذا مع الدكتور لويس عوض.
على هذا النحو كنت قد أدركت ملامح تفكير الدكتور لويس عوض وطريقته في الحياة وفي النقد، وهكذا فإن انبهاري به لم يزدد ولم يتنام، كما أن ارتيادي لصالونه بدأ يقل.
وفيما بعد عام أو عامين كانت علاقتي بتوفيق الحكيم قد توثقت إلى حد أن أفضيت له برأيي في الدكتور لويس عوض فإذا به على عكس توقعي، يقرني تماماً على كل جزئية في رأيي، بل ويزيد ما يدعم وجهة نظري، بل يزيدني علماً بما لم أكن أعلم، ويزيدني فهماً بما لم أكن قد فهمت.
نشأة متأثرة بروافد الثقافة العامة
اسمه الكامل: لويس جرجس حنا عوض.
ولد بقرية شارونة بمركز مغاغة بمحافظة المنيا، في أسرة من الطبقة المتوسطة، كان أبوه موظفاً من العاملين في خدمة السلطة البريطانية في حكومة السودان. تلقى تعليما مدنيا، وعندما التحق بمدرسة المنيا الثانوية كان في الرابعة عشرة من عمره، وفيها بدأت شهيته تتفتح لكل الثمار المعرفية، وبدأ وعيه يشتد، وأنشأ مع زميليه: عبد الحميد عبد الغني (وهو الصحفي الكبير الذي تولي رئاسة تحرير أخبار اليوم، وعمل في الأمم المتحدة وعرف باسم عبد الحميد الكاتب)، وحلمي رفاعي مجلة “الإخاء”، ويروي الدكتور لويس عوض أنه بينما كان عبد الحميد عبد الغني يوقع مقالاته باسم “المازني الصغير”، فقد كان هو (أي لويس عوض) يوقع مقالاته باسم “العقاد الصغير”، وهو يومئذ لا يزال في الرابعة عشرة من عمره، وحصل على الشهادة الثانوية منها (1931).
تخرج الدكتور لويس عوض في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة (1937)، وكان الدكتور رشاد رشدي قد تخرج قبله في دفعة 1935. وقد كنت لاحظت أن الدكتور لويس عوض تخرج في الجامعة في سن أكبر من المعتاد في أبناء تلك السنوات ، وظللت أبحث عن إجابة لهذا السؤال حتى عرفت أنه بعد حصوله على البكالوريا تمرد على رغبة والده ودخل كلية الآداب، ضاربا بطموحات أسرته عرض الحائط، لأنها لا تناسبه، ولا تتفق مع ميوله، لكن والده لم يمهله طويلا، فجاء إلى القاهرة وسحب أوراق ابنه، غير أن الوقت كان قد انتهي لدخول الحقوق فألحقه بمدرسة التجارة العليا، ولم تتفق مدرسة التجارة العليا مع ميول لويس عوض، فانقطع عن الدراسة عامين عاد بعدها إلى دراسة الآداب.
وبعد تخرجه مباشرة كان من حظه أن يوفد إلى كمبردج لدراسة الدكتوراه (1937)، وكان موضوع رسالته “تقاليد التعبير الشعري في الأدبين الإنجليزي والفرنسي”، وقد أتاحت له تلك البعثة فرصة الاطلاع على الأدب الإنجليزي، ودراسة الحضارة الإنجليزية في منبعها، لكنه قطع بعثته وعاد إلى مصر (يونيو 1940) بسبب أحداث الحرب العالمية الثانية.
عند عودته إلى مصر كان تفكيره أن يعمل في الجامعة التي أوفدته للدراسة في إنجلترا، لكنه فوجئ بـ ” سكيف” رئيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة يخبره بأنه رشحه للعمل في مدرسة ثانوية لأنه لم يكن له جدول في الجامعة، غير أن طه حسين سانده ومكن له أن يلحق بالعمل في قسم اللغة الإنجليزية، وقد روي الدكتور لويس عوض القصة من وجهة نظره في مواضع كثيرة وبطرق مختلفة، وعلقنا عليها في كتابنا من بين سطور حياتنا الأدبية 1984 وهو الكتاب لذي أصبحت فصوله أجزاء من كتابي “ثلاثية التاريخ والأدب والسياسة”.
بين كمبردج وباريس

كان الدكتور لويس عوض حريصاً على الاتصال بالثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية طيلة فترة بعثته إلى كمبردج، وقد كان كثير السفر إلى فرنسا في تلك الفترة، وهو صاحب الرواية القائلة بأنه تعرف على زوجته الفرنسية “فرانس” تحت تمثال أوغست كونت في ساحة “السوربون”، وتزوج منها في عيد الحرية (1947)، وقد بقيت هذه السيدة معه حتى نهاية حياته، ولم ينجب منها لأنه كان عقيما ـ على حد قوله.
لعل أبرز صياغة تصور قصة زواج الدكتور لويس عوض ممن أحبها على عجل هي تلك الصياغة التي قدمتها سناء البيسي:
“عندما سافر لويس الطالب في جامعة كمبريدج بإنجلترا إلى باريس لزيارة أصدقائه محمد مندور.. الناقد الكبير، وصفوان.. الدكتور مصطفي صفوان عالم النفس الشهير في باريس، بمناسبة أعياد 14 يوليو في فرنسا، حيث تتحول عاصمة النور إلى شعلة من الصخب والرقص في كل مكان”.
“في البيت والطريق والمطعم والحديقة.. في قلب الحي اللاتيني، وعلى دقات الطبول وعزف الموسيقي انساقت أقدام الرفاق الثلاثة مع الرقصات الجماعية العشوائية التي يسهل فيها التعارف بلا أستار ومقدمات، وتصطدم قدم إحدى الحسان بساق مندور فتميل للاعتذار الذي يتلقاه لويس متداخلا بتعلىق يفجر ضحكتها تاركة زميلها في الرقص لتدور معه يبلعهما خضم الحلقة المتباعدة على أنغام المرح، ويعود مندور وصفوان ينتظران الضيف الغائب بلا جدوي، حتى خيوط الصباح التي تأتي بطرقات منظومة تقود لويس إليهما بخطوات لم تزل محلقة تهدر بكلمات إعجابه بالفرنسية القادمة لباريس من الريف. يروي العائد من قلب الحلم أنه قد دعاها بعد إرهاق الرقص لمقهى مجاور لساحة السوربون، وقال لها وقالت له.. خلاص.. وقع لويس في حب الفرنساوية معلنا للصديقين نيته في الزواج منها، رافضا رأيهما بأنها مجرد نزوة”.
“وغاب الحبيب وعاد وقد شبك في ذراعه عروس ليلة العيد في الحي اللاتيني، وتفرق الصحاب كل في طريق وعادوا للالتقاء في ساحات العمر”.
ومع هذا فقد أصابه الملل من كثير من عاداتها:
“أسر لنا أنه قد انتهي إزاءها بتخصيص يومين من كل أسبوع يسمح لها فيهما بالتمادي في الشراب”.
“وعذرت بعدها الرجل عندما عرفت أنه لجأ لعزلة اختيارية في بيت ريفي بدهشور في الفيوم جعله صومعة لإبداعه بعيدا عن صخب زوجة هوايتها استضافة قطط بئر السلم”.

بعد أن عاد الدكتور لويس عوض إلى مصر بسبب الحرب العالمية الثانية ، عاد ليستكمل بعثته، وقد قضي الدكتور لويس عوض وقتاً طويلاً حتى تمكن من نيل درجة الماجستير من جامعة كمبريدج (1943)، لكنه لم يتمكن من الحصول على الدكتوراه في هذه البعثة رغم طول مدتها، وقد عاد الدكتور لويس عوض إلى الجامعة وعمل فيها مدرساً، وكانت الجامعة تجيز التعيين في هذه الوظيفة بالماجستير، وفي هذه الفترة بنى الدكتور لويس عوض مجده وصيته اللذين استمرا معه طيلة حياته، ونحن نلاحظ أنه بنى هذا المجد بجديته في أداء وظيفته، و ما تبعها من الإشادة بحرصه على فتح الآفاق أمام تلاميذه، وبدمجه للأدب والفن في محاضراته وجلساته.
ومع أن الدكتور لويس عوض لم يكن من الذين اعتقلوا في حملة حكومة إسماعيل صدقي على الشيوعيين من الكتاب والمفكرين والصحفيين الذين قبض عليهم في يوليو 1946 بتهمة الشيوعية والتآمر على قلب نظام الحكم، إلا أنه كان قد صدر أمر باعتقاله وقد أنقذه من الاعتقال وجوده في فرنسا، وعند عودته كان قد أفرج عن المعتقلين الذين كان من بينهم: سلامة موسي، ومحمد مندور، ورمسيس يونان، وأنور كامل، وأحمد رشدي صالح.
ارتيابه الدائم في الغرب

وعلى الرغم من ميل الدكتور لويس عوض الكامل إلى الغرب فإنه على المستوي الشخصي ظل ينظر إلى علاقته الشخصية هو نفسه بالغرب بارتياب، ويروي الدكتور أسامة الباز أنه:
“كان ينظر إلى أي شيء أجنبي بارتياب… إذا قابله أحد في باريس سلم عليه يقول إن المخابرات الفرنسية أرسلت له واحدا، ولو جاء له جواب من دار النشر تقول له نريد تكتب اسمك في أمريكا يتهم المخابرات الأمريكية…”
” أي شيء خارج مصر كان ينظر إليه بالريبة وكان لا يراه في القريبين منه فكرا، وكان مستعدا أن يسمع لهم ولكن من جانب الريبة”.
فصله من الجامعة

عمل الدكتور لويس عوض مدرسا في جامعة القاهرة من دون أن يحصل على الدكتوراه كما قلنا، وقد بقي كذلك حتى سافر إلى الولايات المتحدة (1951) في منحة من منح مؤسسة روكفلر حيث حصل على الدكتوراه (1953) عن رسالة “أسطورة بروميثيوس في الأدبين الإنجليزي والفرنسي”، وعين بعد عودته أستاذا مساعدا بكلية الآداب جامعة القاهرة، وسرعان ما فصل (1954) من الجامعة مع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات لأسباب سياسية.
وبعد فصله من الجامعة بدأ مرحلة من العمل خارج جامعة القاهرة:
عمل في البداية في الأمم المتحدة لمدة عامين (1955 ـ 1956)، وقد عمل مترجما في إدارة المؤتمرات وكتب هناك “المكالمات أو شطحات الصوفي”، واستقال عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر (أكتوبر 1956).
وعند عودته انتقل للعمل الصحفي في جريدة “الشعب” (1957)
ثم عين بجريدة “الجمهورية” مشرفا على الملحق الأدبي
وفي أثناء الوحدة (1958) سافر إلى سوريا ليعمل أستاذا بجامعة دمشق ولم تطل إقامته.
وعاد ليشغل منصب مدير عام الثقافة بوزارة الثقافة والإرشاد القومي بناء على اختيار الدكتور ثروت عكاشة
ثم اعتقل (1959) مع عدد كبير من اليساريين، وكان معظم هؤلاء قد اعتقلوا في ليلة رأس السنة (1 يناير 1959)، لكن الدكتور لويس عوض اعتقل في وقت تالٍ (28 مارس 1959)، ويروي أنه كتب في المعتقل مسرحية “الراهب” حيث اكتملت خيوطها وأحداثها وشخصياتها ومواقفها.
الإفراج المبكر عنه والانتقال للصحافة

أفرج عن الدكتور لويس عوض مبكراً عن أقرانه (1962)، وعاد إلى عمله في جريدة “الجمهورية”، ثم مستشارا ثقافيا لجريدة “الأهرام”
وقد عهد إليه الأهرام بمتابعة عروض مسارح الدولة في القومي والحكيم والجيب والعالمي، كما أتاح له الأهرام فرصة السفر سنوياً إلى لندن وباريس ليكتب عن عروض المسرح في العاصمتين، ثم اضطر إلى الاستقالة من عمله في الأهرام بسبب المعركة التي قادها الأستاذ محمود محمد شاكر ضده في مجلة “الرسالة” نظرا لمقالاته التي نشرها على صفحات الأهرام بعنوان “على هامش الغفران” (1965)، ونحن نلاحظ أن قوة حجة الأستاذ محمود شاكر وصواب معلوماته وتمكنه من مادته كانت كفيلة تماماً بأن تزعزع وجود الدكتور لويس عوض في الأهرام رغم قوة الأهرام ونفوذ رئيس تحريرها، وذلك على الرغم من أن الأستاذ شاكر لم يتح له أن ينشر ردوده في الأهرام، وإنما نشرها في مجلة “الرسالة” التي تعتبر محدودة التوزيع جدا إذا ما قورنت بالأهرام.
بقي الدكتور لويس عوض في الأهرام حتى جاء عهد السادات، وآثر أن ينضم للاتجاهات المناوئة للسادات، وهو ما كان سببا في فصله من الاتحاد الاشتراكي (فبراير 1972 ـ سبتمبر 1973) على يد ما يسمي لجنة النظام، واستتبع هذا طبقاً لنظام تحالف قوي الشعب المتبلور في الاتحاد الاشتراكي خروجه من منصبه الصحفي، وقد أعيد هو وزملاؤه قبيل حرب أكتوبر مباشرة، وبعد حرب أكتوبر سافر إلى جامعة كاليفورنيا لثلاثة أشهر (مارس 1974 ـ يونيو 1974)، وعاد إلى هذه الجامعة مرة أخري أستاذاً زائراً (1974 ـ يونيو 1975).
وفي الثمانينيات اختلف مع رئيس تحرير الأهرام فطلب إنهاء عقده، واتخذ لنفسه مكتباً خاصاً، ثم عمل بعدها بفترة (1983 ـ 1986) كاتبا في مجلة المصور.
أساتذته الثلاثة الذين تمسك بالولاء لهم

ظل الدكتور لويس عوض يقدم نفسه للمجتمع على أنه حصيلة التلمذة لثلاثة من أقطاب الفكر هم: العقاد، وطه حسين، وسلامة موسي، وكان الدكتور لويس عوض واعياً تماماً لهذا التقديم الذي يقدم به نفسه، وكان يقصد به نوعاً من أنواع الحصول على كل المزايا، وذلك في مقابل تصنيف الكثيرين له على أنه امتداد طبيعي لسلامة موسي في بعض أفكاره، وكانت هذه الفكرة شائعة ومسيطرة ومنطقية وتجد الدليل في كثير من تصرفاته ومواقفه، والواقع أن الدكتور لويس عوض أخذ من كثيرين غير هؤلاء الثلاثة وترك كثيراً جداً من هؤلاء الثلاثة أيضاً.
وقد تمادي الدكتور لويس عوض في نسبة نفسه إلى هذه المدارس الثلاث وبدا حريصا على أن يصور نفسه معانيا من البلبلة الفكرية بين اتباع مسار واحد من الثلاثة الذين أتيح له أن يصورهم على أنهم أساتذته، وهو يعبر عن حجم بلبلته بعبارات تفوق البلبلة نفسها، ونحن نجتزئ للقارئ قوله:
“… تواجد الثلاثة معا وقد أحطتهم بدرجة عالية من التقدير، وهكذا وجدتني حينا رومانسيا يترجم شلي، وحينا عقلانيا ديكارتيا، وحينا ثالثا يساريا أوربيا من القرن الماضي، ولكني في هذه الفترة لم أكن مطالبا بأي صيغة توفيقية بين الينابيع الثلاثة، إذ كنت لا أزال في مرحلة التلقي”.
وهو يعاود التعبير عن هذا المعني بطريقة أدق فيقول:
“إن الذي حرث أرض فكري هو العقاد، وإن الذي بذر فيها البذور هو سلامة موسي، وإن الذي سقي نبتها وتعوده حتى زكاه وشذبه تشذيبا هو طه حسين، وما جدوى الغرس والسقيا في أرض لم تحرث، ولم يشق أديمها ساعد الفلاح”.
ومع أن كثيرين لا يوافقون الدكتور لويس عوض على ما وصف نفسه به فإن كاتب سيرته الدكتور عبد الناصر هلال تقبل هذه الفكرة وأعاد عزفها في قوله: “إنه يمكن النظر إلى الدكتور لويس عوض على أنه امتداد مستنير لمسيرة الرواد الثلاثة في علاقة تكاملية، حيث تضافرت في نفسه مثالية العقاد، ومادية سلامة موسي، وعقلانية طه حسين، واستطاعت هذه المؤثرات أن توجهه توجها ثوريا مميزا!!”.
وإذا جاز لي أن أصور الأمر من زاوية أخري أكثر قرباً من الحقيقة فإني أحب أن أقول إن علاقة الدكتور لويس عوض بطه حسين تبلورت في اتجاه واحد هو علاقة الصالون التي تربط رجلين متزوجين من سيدتين فرنسيتين، وأستطيع أن أزعم أن العلاقة لم تتعد هذا الإطار فيما بعد خروج الرجلين من الجامعة.
ومن المعروف أن طه حسين كان لا يجد حرجاً في أن يخطئ الدكتور لويس عوض في معظم آرائه، وأن ينسب إليه الجهل لا بالتراث العربي فحسب ولكن بالتراثين اليوناني واللاتيني أيضا.
وقد وصف طه حسين “مذكرات طالب بعثة” بأنها ليست أدباً على الإطلاق، جاء هذا فيما سجله عنه الدكتور محمد الدسوقي في كتابه “أيام مع طه حسين”.
كذلك فإن طه حسين في حديث له مع ثروت أباظة عن الدكتور محمد مندور استطرد فقال: إن الدكتور لويس عوض دعي ولا يعرف شيئا.
وفي موضع ثالث يروي الدكتور محمد الدسوقي أنه في يوم الإثنين 3 أبريل 1973 زار طه حسين الأستاذ رشاد عبد المطلب، والدكتور ناصر الدين الأسد، وكانا يحملان إليه هدية من الأستاذ محمود محمد شاكر هو كتابه “أسمار وأباطيل”، ولما عرف طه حسين أن موضوع هذا الكتاب يدور حول مناقشة الدكتور لويس عوض في قضايا التراث الإسلامي، قال: “إن الدكتور لويس لا يميزه من الناحية الثقافية إلا إجادته الإنجليزية، أما قضايا التراث الإسلامي فلا مجال له فيها”.
على أن هذا كله لم يمنع طه حسين (على نحو ما روي محمد الدسوقي في موضع رابع من الكتاب نفسه) من شكر الدكتور لويس عوض على كلمة كتبها في “الأهرام” تمجيداً للعميد (ديسمبر 1968).
تأثره بالعقاد ومحاولته تقليده في فهم الفن التشكيلي

أما علاقة الدكتور لويس عوض بالعقاد فقد كانت أقرب الأمور إلى الفخر الذي نمارسه ككتاب حين نُذكّر القراء والمتلقين أننا درسنا في تلك المدرسة الراقية المحترمة المنضبطة، والواقع أن الدكتور لويس عوض بذكائه كان أحرص الناس على هذا المعني، وقد ظل يفخر به ويكرره بكل ما أمكنه على مدى فترات حياته الممتدة حتى وإن اختلف مع العقاد في توجهاته وانتماءاته، وقد أحس الدكتور عبد الناصر هلال بكثير من هذا المعني ولكن في إطار من الإعجاب بالدكتور لويس عوض حتى إنه يقول:
“… ومن المؤكد أن الدكتور لويس عوض تأثر بشغف العقاد بالحرية، فعشق الحرية، وأصبحت جزءا منه، حتى تبلور هذا التأثر بلهيب الحرية، فكتب قصيدا منثورا يرمز فيه لمصر بعنوان “معشوقتي السمراء”.
كذلك فقد كان العقاد بمثابة المنبع الضخم الذي استقى منه الدكتور لويس عوض كثيراً من ثقافته الأولى، وهو يعبر عن هذه الفترة من حياته فيقول:
“كنت أحسب زمنا أن الذي عرّف جيلي بفكرة الاشتراكية هو سلامة موسي، فإذا بي أجد أن العقاد هو أسبق الذين وضعوا أسس النظرية في بلادنا، ولولا أني أحب الاحتياط في القول لقلت إن العقاد هو أبو الاشتراكية المصرية، ففي كتابه “الفصول” الذي نشر عام 1922 بحث مستفيض عن سر تطور الأمم، يدافع فيه عن المذهب الاشتراكي”.
كذلك فإني أستطيع القول بأن علاقة الدكتور لويس عوض بالفن التشكيلي ونقده لم تكن إلا محاولة متواضعة على طريق العقاد الذي أبدع في هذا المجال إلى حد بعيد تقاصرت جهود الدكتور لويس عوض عن أن تصل إلى مثله، وقد أشرت إلى هذا المعني في كتابي ” الانطباعات الذكية في كتابة تاريخنا الثقافي والفني ” نقلا عن الأستاذ بدر الدين أبو غازي.
وقد ظل الدكتور لويس عوض حريصاً على أن يقدم نفسه في صورة الناقد التشكيلي القادر على أن يميز عناصر الإبداع الفني على نحو ما هو قادر على أن يميز عناصر الإبداع الأدبي، لكن أحداً لم يعن بهذا الجانب من نشاطه، وقد واكب هذا أنه كان معروفاً بصداقته لعدد من التشكيليين السرياليين اليساريين: رمسيس يونان، وجورج حنين، وكامل التلمساني، فقد شاركهم عنايتهم بالفكر والفن، وانشغالهم اليومي بالثقافة، كما أنه ظل حريصاً على ارتياد المعارض الفنية.
الأستاذان اللذان أثرا فيه بأكثر مما اعترف هو

ومع احترامي لما كان الدكتور لويس عوض يرويه عن نفسه، ويصور به تكوين هذه النفس وهذا العقل، فإني أراه قد تأثر أكثر ما تأثر باثنين هما الدكتور محمد مندور، والدكتور رشاد رشدي، ومع أنه ظل يهاجم رشاد رشدي حيا وميتا وكان هجومه في الخفاء أكثر منه في العلن، فإننا نراه في كل ما أنتج حريصاً على أن يكون بمثابة الصورة الأخرى من رشاد رشدي في كل توجهاته، وكانت علاقته برشاد رشدي أشبه بما تجنح إليه صحف المعارضة ذات الأقلية المحدودة في محاولة مناقضة لكل تصرف تقوم به قوة الأغلبية، ولا مانع من أن تشوه صورة وفكرة إنجاز الأغلبية، ولا مانع أيضاً من محاولة نفي كل ما هو قائم على أرض الواقع.
وعلى الرغم من أن الدكتور لويس عوض لم يعترف بهذا المعني صراحة، وهو أمر طبيعي، فقد كان المعنى واضحاً تماماً، وكان معروفاً للمعاصرين جميعاً حتى أولئك الذين كانوا يبغضون رشاد رشدي أو يتحفظون عليه.
وقد أكد الدكتور لويس عوض على كل ما كان ينتقده في رشاد رشدي بإظهار حب عميق، وامتنان أعمق وأشد للدكتور محمد مندور، الذي يمكن لي أن أعتبره بمثابة المعلم الحقيقي للويس عوض، على الرغم من أن فارق السن لم يكن يسمح بهذا، لكن الحقيقة أن التلمذة على محمد مندور هي التي حجبت عن الدكتور لويس عوض تأثير كل جيل الثلاثة الكبار الذين ظل الدكتور لويس عوض يذكر أستاذيتهم له.
ومع أني أعتقد أن انطباعي هذا سوف يلقى قبولا كثيرا فإني أدرك أيضاً أنه سيلاقي بعض إعراض، وبعض ازورار.
وقد ظل الدكتور لويس عوض على اعتزازه بالتلمذة المباشرة على زميله الدكتور محمد مندور، وقد تكرر تعبير الدكتور لويس عوض في كثير من كتاباته عن الامتنان للدور التثقيفي الذي بذله معه محمد مندور.
والواقع أن فضل محمد مندور على الدكتور لويس عوض امتد حتى شمل تقييم إنتاج الدكتور لويس عوض نفسه، ومن المدهش أن محمد مندور كان صاحب الفضل أيضاً في تدشين رؤية الدكتور لويس عوض النقدية، وهو الذي وصف منهج الدكتور لويس عوض في النقد بأنه منهج تفسيري، وهو أيضاً صاحب المقال الشهير الذي صنع مجد الدكتور لويس عوض كناقد، بل ربما لا يزال بمثابة الحجر الأساسي في مجد الدكتور لويس عوض كناقد، وهو مقاله في مجلة “المجلة” في 1959.
موقفه من الشعر كان سببا لشهرته

ونأتي إلى الدكتور لويس عوض وعلاقته بالشعر، ومن الجدير بالذكر أن نقول إن أهم عوامل شهرة الدكتور لويس عوض في المحيط الأدبي تمثلت في موقفه من الشعر: الشعر العربي، والشعر الحر، والشعر الأجنبي.
ومن الإنصاف أن نشير أيضا إلى أنه كانت له إسهامات شعرية وإن كانت ضعيفة حتى باعترافه هو. فقد نشر الدكتور لويس عوض مجموعة قصائد بالعامية المصرية في ديوانه “بلوتو لاند وقصائد أخري” (1947)، وقد قدم لهذه القصائد بمقدمة طويلة شرح فيها فكرته عن حتمية إحلال اللغة العامية الفصحى، وعلى الرغم من استطراداته الطويلة إلا أنه لم يقدم من التبريرات لدعوته إلا إيمانه بما حدث من قبل في تاريخ أوربا، عندما حلت العاميات الأوربية محل اللاتينية وتطورت هذه العاميات حتى أصبحت بمثابة جوهر اللغات الأوربية الحديثة التي نعرفها.
ومن الإنصاف أيضاً أن نشير إلى أنه كان من أوائل الذين حاولوا “ممارسة” شعر التفعيلة، لكنه لم يترك فيه شيئاً ذا بال، وسرعان ما هدته غريزته إلى أن يشرع في الهجوم على الشعر العربي وتراثه، وأن يوطئ بهذا الهجوم للدعوة إلى الشعر الحر وإلى أنه يمثل البديل المنطقي.
وقد استغل الدكتور لويس عوض بذكائه صلاحية المحطة الفارقة بين عهد الملكية وعهد الثورة ليبشر بثورة الشعر الحر وليربط بطريقة ما بين هذا وذاك، ومع أن مثل هذه الدعوات سرعان ما تنحسر إلا أنها تترك كثيراً من المكاسب لصاحبها وبخاصة إذا كان من طراز الدكتور لويس عوض أو من طراز عشاق النظريات التي تبدو وكأنها نقد، وتبدو أيضاً وكأنها تاريخ.
هكذا يعد بعض النقاد ومؤرخي الأدب الدكتور لويس عوض من رواد شعر التفعيلة (الشعر الحر)، وذلك أنه نشر في بلوتلاند بعض قصائد من شعر التفعيلة، لكن أحداً لم ينتبه إلى هذا الدور إلا بعد بزوغ حركة الشعر الحر ومحاولة التأصيل التاريخي لها.
ونحن نعرف الآن، بعد أن انجلت معارك التحزبات ودعاوي السبق، أن الدكتور لويس عوض لم يكن كما صوره بعض عشاقه أول رواد شعر التفعيلة، وإنما سبقه منذ العشرينيات كل من نقولا فياض (1924)، وحسن كامل الصيرفي (1927)، وخليل شيبوب (1932)، ومحمود حسن إسماعيل (1933)، وعلى أحمد بأكثير (1936)، ثم يأتي الدكتور لويس عوض (1938).
وقد وصف الدكتور لويس عوض نفسه نماذجه الشعرية التي كتبها تطبيقاً للنموذج الشعري الأوربي فقال إنها ـ على حد تعبيره ـ “نماذج ركيكة ليس صاحبها بشاعر أصلا”، ولعله كما يري جهاد فاضل كتبها للتسويق والترويج في الدرجة الأولى، أو لمحاولة شق الطريق لا أكثر.
وفي خاتمة بلوتلاند المنشورة مع الطبعة الجديدة الصادرة بمناسبة مرور خمسين عاماً على صدورها لأول مرة، نفهم أن قصائده هذه كانت موضع تندر العقاد وطه حسين وأمين الخولي وسواهم، ولا شك أن قسماً كبيراً منها سيكون موضع تندر كل جيل آخر.
وعلى النقيض من هذا الحكم القاسي الذي يصدره جهاد فاضل نرى الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وهو ينسب الفضل في ازدهار الشعر الحر أو حتى في نشأته إلى الدكتور لويس عوض ويقول بصوت عالٍ:
“إنه لم يقدم لنا مجرد تجربة خجول مترددة مرتعشة، وإنما قدم لنا المبرر النظري الذي نستطيع به أن نخرج عن الأشكال الشعرية التقليدية، وأن نجرب تلك الأشكال الشعرية التي سادت فيما بعد”.
“إن الدكتور لويس عوض لم يكن بعيدا عن الشعر العربي كما كان يزعم، ولم يحجب نفسه عن الاطلاع على آثار الأدب العربي على مدى اثني عشر عاما، كما جاء في المقدمة، إلا إذا كان قد قرأ قراءة عميقة وواسعة في العشرين عاما التي سبقت انصرافه عن قراءة الشعر العربي …….. لأنه أولا يكتب في بحر الرجز ويجيد الوزن، وإن أفلت منه في بعض الأحيان، وله معجم شعري لا يمكن أن يقع عليه إلا مَنْ كان قارئاً للشعر العربي القديم، وله صور شعرية موفقة، وإن كان هو ينفي عن نفسه في المقدمة صفة الشاعر”.
ورأيي المتواضع أن أحمد عبد المعطي حجازي كان في مثل هذه الفقرات يعطي الدكتور لويس عوض أكثر من حقه، ورأيي أيضاً أنه كان يمارس نوعا من الإسقاط من ذاته على لويس عوض، فما ذكره حجازي ينطبق (بصورة كبيرة جداً) على حجازي نفسه الذي لم يُكتشف حتى الآن في مجال هذا الاكتشاف، لكنه لا ينطبق على الدكتور لويس عوض إلا بصورة ضئيلة جداً.
مأزقه مع الشعر العربي
أما الدكتور عبد القادر القط فقد كان أكثر قدرة على فهم مأزق الدكتور لويس عوض مع الشعر العربي، وهو يلخص مشكلة الدكتور لويس عوض مع الشعر العربي في أنه وجد نفسه مفتوناً بالأدب العربي كشاب مقبل على دراسة آداب أجنبية مليئة بالخيال، ومليئة بالأساطير، ومليئة بملاحم وفنون من الشعر ليست موجودة في الأدب العربي. كان مفتوناً بمثل هذه المظاهر فأثقل شعره بكثير من الاقتباسات من الشعر الفرنسي والإنجليزي، والإشارة إلى الملاحم والأساطير الإغريقية دون أن تكون داخلة في نسيج الصورة الشعرية. وفي موضع آخر.. مليئة بكثير من الإشارات والاقتباسات التي لا تتيح للشاعر إطلاقا أن يبني صورته الشعرية من وحي موهبته الخاصة”.
ويستطرد الدكتور عبد القادر القط فيقول:
“لكن طبعا هذا شيء مألوف عند الشاب الذي يفتن بثقافته في بداية حياته، ويزهو بهذه الثقافة ويريد أن يفرضها على القارئ، لكن بعد هذا صفت هذه الرؤية وأصبح الانتفاع بهذه الثقافة انتفاعا عميقا جيدا، نفع به الدكتور لويس كثيرا من اتجاهاتنا الفكرية والأدبية.
ويلتمس الدكتور عبد القادر القط العذر للدكتور لويس عوض حين يرى أن الدكتور لويس عوض آمن بضرورة التطور، ولعله لإقباله على الثقافة الغربية، وإيمانه بضرورة التزود بقيمها الحديثة، حتى يمكن للإنسان أن يكون مثقفا بالمعنى الصحيح، وناقدا بالمعنى الصحيح، آمن بأن الشعر العربي قد تجمد، وأنه لم يعد صالحا لمسايرة روح الحضارة الحديثة، لذلك رأى أن الشعر العربي قد مات منذ أن مات شوقي عام 1932، وأنه قد بدأ بداية جديدة، وطبعا هناك نوع من التناقض لأنه لم ينص على “ما هذا الشعر الذي مات”.
” فإذا أضفنا إلى ذلك أن إحساسه باللغة ضعيف بالفطرة علمنا كيف تأتي له أن يطالب “بكسر عنق البلاغة” … طبعا هذا أيضا يجر عليه شيئا من المتاعب، حين يدخل في حوار مع الناس، لأن كسر رقبة البلاغة لابد أن يقوم على علم وعلى خبرة، وليس على قلة دراية، لأن الذي يريد أن يكسر البلاغة العربية لابد أن يكون خبيرا، كيف يكسرها وإلا كسرته هو أصلا. طبعاً كان يؤتى من هذه الناحية، حين يريد أحد مهاجمته في أفكاره، لكن هذه الألوان من التعبير المسرفة لا تدل في الحقيقة على مضمون الفكرة التي كان يريدها.
مشكلته مع الثقافة العربية

لعل الحديث عن موقف الدكتور لويس عوض من الشعر لا يستقيم إلا بإلقاء بعض الضوء على حقيقة مشكلته مع الثقافة العربية.
ونحن نرى أن نبدأ بذكر حقيقة مهمة وهي أن نشأة الدكتور لويس عوض كانت نشأة “براجماتية” تعنى بقيمة اللغة الوظيفية في الوقت الذي لا تعنى بقيمتها الوطنية ولا التاريخية، كما أنها لم تكن تعنى بطقوس الدين، وكان هو نفسه يكرر الحديث على أن والده كان يشجعه على دراسة اللغة العربية، ويحضه هو وأخاه الأكبر على حفظ القرآن الكريم، وأنه كان يرشوه بالمال ليحفظ “مجنون ليلي”، أو “مصرع كليوباترا” عن ظهر قلب.
وفي المقابل فإن عائلته الصغيرة ـ حسبما يروي ـ لم تكن تقيم للطقوس الدينية وزنا، ولم تكن تهتم بإقامة الشعائر المتعارف عليها عند أصحاب الديانة المسيحية كصلاة الأحد مثلا، ولا تلتزم بالصيام كباقي الأسر المسيحية، وهو يري أن أباه لم يكن يصلي أو يصوم، كما لم يكن يدعو أبناءه للالتزام بتنفيذ مثل هذه الأمور (!)
ويبدو لنا أن مشكلة الدكتور لويس عوض الممتدة مع الثقافة العربية ظلت متمثلة في محاولته الدائبة نفي هذه الثقافة العربية، وعلى الرغم من المساعدات والتسهيلات التي قدمت له فإنه لم يستطع أن يحقق أي نجاح يذكر في محاولاته، ومن ثم فإنه زاد من ضراوة حملاته على التراث والجذور العربية والإسلامية في ثقافتنا المعاصرة دون جدوى، وكان حريصاً على تجاهل كل أصل عربي في أي عمل أدبي راجعاً بالأعمال المعاصرة إلى الأساطير الفرعونية أو الإغريقية كي ينفي التراث العربي.
وليس من شك في أن معرفة الدكتور لويس عوض بالتراث العربي كانت ناقصة في أغلب الأحيان، وكانت مشوهة في كثير من الأحيان، وكان هو نفسه مسئولاً عن تشويه هذه المعرفة بقصد واضح، وقد تكفل الأستاذ محمود شاكر بكشف أمثلة بارزة لجهل الدكتور لويس عوض بكثير من كتب التراث العربي التي لم يكن يعرف أسماءها، وفي هذا المجال فإن تفسير سامي خشبة يبدو أقرب التفسيرات إلى المعقولية، وهو القائل بأن معرفة الدكتور لويس عوض بالتراث القومي لم تبدأ إلا في فترة متأخرة من حياته بعد خروجه من المعتقل وتصدره للحياة الثقافية.
وربما يجدر بنا أن نشير إلى ما يتعمد كثيرون القفز عليه وهو أن ” مفصلة ” الدكتور لويس عوض وتمفصله في الأهرام (والتعبيران من استحداث كاتب هذه السطور لوصف الحالة) بالمكانة التي أعطيت له كان يمثل حلقة من حلقات جهود مساعدة النظام السياسي في الستينيات في العمل الدائب على قلقلة بعض الانتماء بالمقدسات في الدين والتاريخ.
وقد كانت كتاباته عن أبي العلاء المعري نموذجا بارزا لتأثير الفقر المعرفي على تكوين الأحكام الأدبية.
كان الأستاذ سامي خشبة في قمة ذكائه حين شخص هذه الحالة وقال بكل وضوح إن الدكتور لويس عوض لم يقرأ عن أبي العلاء سوى ما كتبه طه حسين، واستند إلى مقتطفات طه حسين، وأسقط نقل طه من هذه المصادر فوقع في أخطاء جمة.. لهذا السبب فإن كتابه “على هامش الغفران” لا يمكن أن يدخل باب بناء معرفتنا الثقافية، بل يدخل في باب إمدادنا ببعض الرؤى الخاصة عن علاقة الثقافة العربية بالثقافة الغربية وبالثقافة المسيحية، هذه المقولة نفسها ـ أي العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية والثقافة المسيحية ـ مقولة شائعة لم يبتكرها د. الدكتور لويس عوض أو د. طه حسين، وإنما هي مقولة شائعة في أقوال المستشرقين، وهي مقولة صحيحة.
وقد لفت سامي خشبة نظرنا إلى أن الدكتور لويس عوض تجاهل كل الأسانيد العلمية والمعلومات الموثقة وذهب ببحث عن أسانيد ضعيفة في حياة المعري… وما كان أجدره في الحديث أن يلتمس أسانيده في الحجج الموثقة، لكنه لم يكن يعرفها لأنه لم يرجع إلى المصادر الأصلية.
فهم الرومانسية على أنها تعني الثورة

وعلى صعيد مختلف نجد الدكتور محمد عناني ينصف الدكتور لويس عوض من زاوية أخرى، متجنبا الحديث عن مأزق الدكتور لويس عوض ومثالب منهجه وأدائه فيما يتعلق بالشعر العربي.
يرى الدكتور محمد عناني أن الرومانسية الحقيقية التي فهمها الدكتور لويس عوض هي الثورة، الثورة على القواعد والقوالب الجامدة، وهذا كان جوهر عمل الدكتور لويس عوض الأدبي والنقدي والفكري: ” ثورته كانت ثورة رومانسية بكل معني الكلمة، وكانت تستند إلى نظرية أعرفها بحكم تخصصي في الأدب الإنجليزي، وهي نظرية الثورة على الأدب، ما يسمي الآن بالأدب أو “بأدبية الأدب”، والثورة على الأدب هنا هي على الأدب الرسمي، والدعوة إلى الأدب الحقيقي الذي هو بطبيعته غير رسمي، أي يأخذ تيارا جديدا يبتعد به عن التراث بحثا عن توازن دقيق بين المادة الأدبية والوسيلة التي يعبر بها الأدب عن هذه المادة”.
محاربته للتراث العربي
لا شك عندي في أن الدكتور لويس عوض طيلة حياته ظل يبذل جهوداً جبارة ومستميتة في سبيل أن ينزع من الأمة العربية سلاح الثقة بالتراث الذي كان غيره يعتز به إلى أبعد الحدود، وفي كتابه “مقدمة في فقه اللغة العربية” عبر عن أمله في أن ينزع عن الأمة سلاح الثقة في اللغة التي كُتب بها التراث العربي، معبراً عن رغبته العارمة في وأد الحديث عن مشروع حضاري جديد أو خاص، والواقع أن نظرته إلى التراث العربي لا تختلف عن نظرات بعض المستشرقين القدامي، لكن نظرته كانت للأسف الشديد مشحونة بكمية أكبر من الحقد، فهو لم يكن يخفي أنه ضد المشروع الحضاري العربي. وكان رغم إجادته اللغة العربية يجاهر بالتعبير عن كراهيته لها، وقد كتب في مقدمة “بلوتولاند” أنه لم يقرأ حرفاً واحداً باللغة العربية بعد سن العشرين وسن الثلاثين إلا عناوين الأخبار في الصحف السيارة وبعض المقالات الشاردة التي ألزمته الضرورة قراءتها. وقد أكد هذه الفكرة في كتابه “مذكرات طالب بعثة” حيث قال: إن العربية أغلال يجب تحطيمها.
لهذا فإن سامي خشبة كان من الذكاء حين قال أن كتابات الدكتور لويس عوض في علوم اللغة العربية قد عانت أيضا من المشكلة المتمثلة في الفقر المعرفي الحاد، وعدم القدرة (والرغبة) في الإفادة من جهود مَنْ سبقوه من علماء اللغة العربية، كما أنه شخص المشكلة في علاقة د. لويس بثقافة أمته القومية، فهو حين يتعرض لمشكلات اللغة على سبيل المثال لا يتعرض لأي علم من علوم اللغة مطلقا، ولا يتعرض لما يتعرض له اللغويون العرب لقضية فقه اللغة لأن اللغويون العرب كتبوا الكثير في فقه اللغة. ولهذا فإن سامي خشبة يعتقد ويتنبأ بأن دوره الفكري سوف يشحب مع مرور السنين مع ظهور أجيال متخصصة أكثر تزودا بالمعرفة العلمية بالثقافة العلمية والمناهج في البحث والنقد وإعادة بناء هذه الثقافة.
ومن الأقوال المشهورة والطريفة أن الدكتور لويس عوض نفسه كان يروي أنه قد عاهد “الثلوج في كمبردج” ألا يكتب كلمة واحدة إلا باللغة المصرية، لكنه سرعان ما نكث عن عهده بعد أقل من عام واحد من عودته من البعثة.
الترجمة: مجاله الأكبر

بعيداً عن الشعر واللغة ومواقف الدكتور لويس عوض التي صنعت وبلورت شهرته وقدمته كمفكر، فليس من الصعب أن نكتشف أن الترجمة كانت تمثل النشاط الأكبر للدكتور الدكتور لويس عوض على مدي تاريخه، ومع هذا فإن صورته المنطبعة في الأذهان تكاد ترجع بهذه الصفة خطوات بعد صفات كثيرة فضل هو نفسه أن تضفى عليه، وعمل بكل جد واجتهاد على أن يصنع ويصوغ شهرته من خلالها، لكنه تأمل حياته بتمعن، بعد أن انتهت الحياة وبعد أن انتهى ضجيجها، يدلنا على ما ذكرناه من أن الترجمة كانت بمثابة نشاطه الأكبر.
وقد تعددت الصور التي ظهر بها الدكتور لويس عوض مترجماً:
فكان مترجما محترفاً.
كما كان مترجماً متصرفاً.
كما كان مترجماً منكرا أي مترجم غير معترف بأن ما يكتبه هو ما ترجم وليس ما ألف، أقصد أنه كان يقدم بعض الإنتاج المترجم على أنه من تإليفه، بينما هو ترجمة حرفية أو شبه حرفية.
ونحن نلاحظ ما يلاحظه كثيرون من أن الدكتور لويس عوض لم يلتزم مذهباً فكرياً أو نقدياً واحداً فيما نقله من الآثار الأدبية الأوربية إلى العربية، ويعود هذا إلى تأثره التام بالمصادر التي كون منها فكرته التي عرضها في كتبه، وعلى سبيل المثال فقد كان أقرب إلى الماركسية، بل كان ماركسيا صريحا في كتاب “مقدمة الأدب الإنجليزي الحديث”، على حين كان رومانتيكيا في كتابه “برومثيوس طليقا”.
بدأ الدكتور لويس عوض نشاطه الأدبي بأن نشر ترجمته لفن الشعر لهوراس (1945)، ثم أتبع ذلك في العام التالي بترجمته قصيدة الشاعر شيلي “بروميثيوس طليقا” (1946) وهي القصيدة التي ينظر إليها اليساريون وغيرهم على أنها كانت بمثابة مانفستو ثوري في ميدان الأدب والسياسة.
فإذا أضفنا إلى هذا ما حفلت به مقدمة عمله الثالث وهو ديوانه “بلوتولاند” (7491) من دعوته إلى إحلال العامية محل الفصحى فإنه يمكن لنا أن نقول إن آراء الدكتور لويس عوض الأولى أو الآراء التي تبناها وجدت طريقها إلى القارئ من خلال مقدمات ترجماته، وقد كانت مقدمات الترجمة أقرب إلى الترجمة منها إلى أن تكون رأياً أصيلاً!!
حصر الدكتور عبد الناصر هلال ما قدمه الدكتور لويس عوض من الترجمات المباشرة التي التزم فيها بالترجمة الحرفية للنص الإنجليزي:
“فن الشعر” للشاعر الروماني هوراس، وقد اكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة في تاريخ النقد الأدبي في العالم العربي، حيث طرحت مقدمته (كما أشرنا من قبل) بقوة ووضوح قصة الصراع بين القديم والجديد في اللغة والأدب، وقد صدر ضمن سلسلة الروائع التي كانت تصدرها مكتبة النهضة المصرية (1945).
مسرحية “برومثيوس طليقا” (مكتبة النهضة المصرية 1946) للشاعر شلي، وهي مسرحية شعرية، أو دراما غنائية كما يسميها لويس عوض، ذات فصول أربعة، وكانت مقدمته لها في حينها بمثابة دراسة متميزة عن الحركة الرومانسية ومقدماتها وملابساتها الفكرية والاجتماعية.
“صورة دوريان جراي” للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد (دار الكاتب المصري 1946)، وقد استهلها الدكتور لويس عوض بمقدمة “استفزازية” ـ على حد وصف الدكتور ماهر شفيق فريد ـ تنتهي بقول أوسكار وايلد: “لا نفع في الفن إطلاقا”.
كذلك فقد أسهم الدكتور لويس عوض في مشروع نقل مسرحيات وليم شكسبير إلى اللغة العربية، فقام بترجمة المسرحية الكوميدية “خاب سعي العشاق” (دار المعارف، 1960)، وفي هذه المسرحية لم يقتف الأثر الأصلي كلمة كلمة، وإنما كان يحافظ على معطيات المعاني وإيحاءاتها وإن حملها كلمات أخرى تتفق مع الأصول.
و ترجم الدكتور لويس عوض مأساة شكسبير للمسرح القومي “ أنتونيوس وكليوباترا” (دار الكاتب العربي، 1967)، ثم جمعت هذه المسرحية مع مسرحية “خاب سعي العشاق” وصدرتا حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1989 في كتاب واحد يقول الدكتور هلال إنه بعنوان “البحث عن شكسبير” بينما أذكر أن ذلك العنوان كان لكتاب صدر قبل ذلك وضم بعض مقالاته عن شكسبير وقد عرض المسرح القومي مسرحية “أنطونيو وكليوباترا” من ترجمته (1977) بالكتابة الشائعة لاسم أنطونيو وبإخراج برنارد جوس ( وهو مخرج إنجليزي) وبطولة حمدي غيث وسميحة أيوب، وقد نشر النص المترجم مع طبعة جديدة من كوميديا “خاب سعي العشاق” التي نشرت طبعتها الأولي كما ذكرنا في1960 .
وفي الستينيات ترجم الدكتور لويس عوض ثلاثية “أورست” لإيسخيلوس، وقد عرض منها مسرح الجيب “أجا ممنون” (1966) من إخراج كرم مطاوع، وقد نفذ المخرج فيها تجربة المنصة البارزة التي يحيط بها الجمهور من 3 جهات، ثم “حاملات القرابين” التي عرضت على المسرح القومي (1968) من إخراج المخرج اليوناني الزائر تاكيس موزينيدس بمساعدة أحمد عبد الحليم، ثم “ الصافحات ”، وقد نشرت الثلاثية في كتاب واحد (1981) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، نظرا لوحدتها المسرحية، مع المحافظة على مقدمتها التي توضح بنية المسرح اليوناني القديم.
كذلك فإني أذكر أن الدكتور لويس عوض ترجم للشاعر والأديب الإنجليزي صمويل جونسون “الوادي السعيد” (القاهرة: دار المعارف، سلسلة اقرأ، 1971)، ولا أزال أحتفظ بنسختي التي كانت ضمن مجموعة من الكتب التي حصلت عليها كجائزة وهي ترجمة غير مشهورة ويندر نسبتها له على الرغم من صدورها في سلسلة “اقرأ”.
كذلك فقد ترجم الدكتور لويس عوض “شبح كانتر فيل” لأوسكار وايلد، لكني لم أعثر عليها فيما صنفه الدكتور عبد الناصر هلال من ترجمات الدكتور لويس عوض
ترجمة الأعمال النقدية
وفي مجال ترجمة الأعمال النقدية فقد ترجم الدكتور لويس عوض بعض أهم نصوص النقد الأدبي التي عرفت في تاريخ الثقافة الغربية، وأصدرها في كتابه الشهير “نصوص النقد الأدبي ـ اليونان” (دار المعارف، 1965)، وفيه ترجم مختارات من محاولات “ايون” والجمهورية” ومسرحية “الضفادع” لأرسطو فانيس، بالإضافة إلى معجم كلاسيكي رتبه أبجديا وقد نص على غلاف هذا الكتاب أنه الجزء الأول، لكنه حتى وفاته لم يتبعه بجزء آخر.
ومن الإنصاف أن نذكر أن الدكتور محمد عناني كان يري في الدكتور لويس عوض مترجما قديرا أعاد صياغة نص شكسبير بعربية يحسد علىها، برغم كل ادعاءاته أنه ليس له شأن باللغة العربية(!!)، وهو يشير إلى أن الدكتور لويس عوض بسط الصورة بسطا حتى نستوعب جمالها في النص الأصلي.
ويتصل بالترجمة لا بالنقد ما قدمه الدكتور لويس عوض على أنه دراسات أدبية مقارنة في مجال ما أسماه “الدراسات المقارنة”، فقد أولع الدكتور لويس عوض ولعا كبيرا بأن يضع نفسه ضمن أصحابها، مع أن أعماله لم تكن تهيئ له هذا الدور في الأدب المقارن، فقدم: “أسطورة أورست والملاحم العربية” (دار الكاتب العربي، 1968)، وفيه قارن بين ثلاثية أسخيلوس وبين ملحمة “الزير سالم”.
ولم يجد الدكتور عبد الناصر هلال حرجاً في أن ينتقد ما قام به الدكتور لويس عوض في هذه الدراسة، وهو يري أن ما قام به خطأ من حيث المبدأ، لأن هذا التوجه لا يخضع لظاهرة التأثير والتأثر، وهي شرط قيام الدراسات المقارنة عند المدرسة الفرنسية.
كذلك يري الدكتور هلال أن كتاب الدكتور لويس عوض عن أسطورة أوريست والملاحم العربية “من أسوأ ما كتب في الدراسات المقارنة، فخياله يجمح به ويحل محل الدرس العلمي المتأني، بل محل حسن الإدراك العادي”.
وفي كتاب “مقدمة في فقه اللغة العربية” أراد الدكتور لويس عوض أن يثبت أن اللغة العربية تنتمي إلى نفس الأصول التي ينتمي إلىها مجموع اللغات الهندية الأوربية، وعرض فيه الصراع بين الفرق الدينية. وقد صودر هذا الكتاب بموجب مذكرة قدمتها إدارة البحوث والنشر بالأزهر (6 سبتمبر 1981) إلى جهات أمن الدولة لمصادرة الكتاب على أنه يحوي تهجما على اللغة العربية والدين الإسلامي، وتمت مصادرته (1982).
قدرته على الأستاذية

نأتي إلى ميدان ثالث بعيد عن الشعر ومأزق الدكتور لويس عوض في التعامل مع الشعر العربي، وبعيداً عن الترجمة التي لم يكن صاحبها حريصاً على أن يقدم نفسه بها، نستطيع أن نقول إن قيمة الدكتور لويس عوض الحقيقية التي بقيت له في الجيل الذي سبق جيلي تتمثل في أستاذيته الأكاديمية الصارمة التي ظلت تترك أثرها على كثير من تلاميذه، من قبيل عنايته بتعليمهم الموسيقى الكلاسيكية، ونصوص المسرح اليوناني، وتعويدهم الانتباه إلى ربط الأدب بالتاريخ والاجتماع، وقد كان الدكتور لويس عوض في أحاديثه ومحاضراته يجول بمهارة بين الأدب والفن والتاريخ والسياسة، مما سهل على محبيه أو دفعهم إلى وصفه بالمفكر منذ مرحلة مبكرة.
ونحن نلاحظ أن الدكتور لويس عوض كان حريصاً على أن يبدو وكأنه المفكر الذي يتبنى كثيراً من القيم الغربية مثل العلمانية والليبرالية والديمقراطية، لكن تأملنا لخطابه الفكري والنقدي سرعان ما يكشف لنا عن أنه كان نموذجاً للأبوة غير الكاملة، التي تؤدي دورا في توظيف الدعوات والقيم في توجيه النقد إلى أوضاع قائمة، أو في الترويج لأفكار غريبة عن التيار، ومع أن اسمه ارتبط في بعض الأحيان بحركات فكرية وأدبية وأيديولوجية عملت من أجل التحديث والتقدم، فإنه ظل على الدوام ملتزماً حدود ذاته و منكفئا عليها تماما في دعوته، وحدود ما يريد أن يقصه لا آفاق ما يريد أن يدعو إليه.
وقد ظل الدكتور لويس عوض يعبر، حتى من دون وعي وحتى من دون انتباه، عن التأثر الوقتي بالمصادر التي يرجع إليها، ولهذا السبب نرى الدكتور عبد القادر القط وهو يلفت النظر إلى الدرس المستفاد من تجربة الدكتور لويس عوض في أهمية الإيمان بأن الناقد الأدبي لابد ألا يعتمد على مجرد الاستعداد الفطري أو الموهبة، بل لابد له أن يتزود بزاد كبير من الثقافة، وبخاصة الناقد الغربي، الذي لا يمكن أن تغني عنه ثقافته العربية وحدها، بل لابد أن يتزود بتراث غربي، وبتراث قديم من الأدب الإغريقي واليوناني.
ظل الدكتور لويس عوض أيضا حريصاً على أن يبدو في ثورة المثقف الثائر والمجدد، وقد بذل جهداً كبيراً من أجل أن تلتصق هذه الصورة بنشاطه وإنتاجه، وحتى ألجأه هذا الحرص إلى كثير من الشطط في الآراء وفي المفهوم على حد سواء، ومع أننا لم نكن ندرك مثل هذه الحقيقة في حياته بهذا الوضوح، إلا أن مضي الزمن كان كفيلاً بأن يتيح لنا الوصول إلى جوهر الحقيقة فيما يتعلق بآراء لويس عوض، وفيما يتعلق بمنهجه أيضا. فقد ذهب الحماس الذي كان يؤطر رؤاه، وذهب مجد الجسارة الذي كان يُضفيه مريدوه على سلوكه وبقي لب الموضوع تحت ضوء الحقيقة الساطع، وبعيدًا عن أصداء الأضواء الصناعية التي هي طابع الاحتفاليات والمهرجانات.
لا أعتقد أن بوسعي أن أجد وجها للاختلاف مع من يقولون بأن الدكتور لويس عوض تبنى منهجا خاطئا في التجديد لأنه تبنى منهجا مبنيا على الإيمان المطلق بصحة النموذج الغربي واعتباره معيار الصحة والجدارة، وكان مع هذا حريصاً على أن يسقط أي قيمة للتراث العربي شعراً وأدباً ولغة وتاريخاً وحضارة، ومع أنه كان حريصاً على أن يصور أنه لم يصل إلى هذا الحكم إلا بعد دراسة واستنتاج، فإنه كان كثيراً ما يندفع ويصرح بعداوته للتراث العربي، واقتناعه المبكر بهذه العداوة، وتمكنها منه.
ولهذا يري الأستاذ جهاد فاضل بعد تحليل دقيق لرؤي الدكتور لويس عوض أنها “ليست مجرد وجهات نظر حول التجديد نتفق حولها أو نختلف، وإنما هي شيء آخر، إنها جولة جديدة في تلك المعركة القديمة المتجددة بين العروبة وبين أعدائها. وفي التاريخ الحديث لهذه المعركة ينبغي أن يُنظر إلى الدكتور لويس عوض على أنه الأب الروحي للخطاب الشعوبي المعاصر، وبخاصة في مجال الأدب والثقافة. فهو أول مَنْ صاغه على الصورة التي رأيناها، وليس يوسف الخال وسعيد عقل وأدونيس سوى مرددين لهذا الخطاب ومنتفعين به، لا أكثر.
وإذا كان الدكتور لويس عوض يصنف نفسه في عداد تلامذة بعض الشعوبيين الذين سبقوه، الذين نظروا إلى مصر دائما على أنها أمة تامة لقيت من العرب كما لقيت من فاتحين آخرين شروراً مختلفة، وفي عداد هؤلاء الدكتور طه حسين، فإن النظرة البالغة العدائية إلى العرب لم تبلغ عند هؤلاء المتقدمين ما بلغته عنده، فإذا كان التنظير عندهم هو سيد الموقف، فإن التنظير مضافاً إلىه إطلاق العنان للغريزة هو أبرز ما يميز خطاب لويس عوض”.
توظيف الشك والغرائبية

وقد استندت قدرة الدكتور لويس عوض كمفكر على اللجوء إلى أدوات تقليدية والإسراف في استخدامها، وهو سلوك مهني لا ينم عن حكمة وإن كان كفيلا بالشهرة، وعلى سبيل المثال فقد صاحب قدرة غريبة على توظيف الشك توظيفاً متعنتاً ومتعسفاً للانتقاص من قيم التراث العربي وقاماته، وفي دراسة مشهورة له عن المعري عنوانها “على هامش الغفران” (1964) شكك بأصالة فكر أبي العلاء المعري وفلسفته، وذلك عن طريق اعتبار المعري مجرد صدى لرهبان بيزنطية، وتلميذاً لأديرتهم، وطبعة لتراث الغرب الحضاري الذي أبدعه اليونان.
وكان في بحث له قد ذكر أن ابن خلدون كان (كالمعري) يعرف لغات أجنبية، وقد أراد بذلك أن يوحي لقارئه أن ابن خلدون أخذ نظرياته في علم الاجتماع عن الأوربيين، في حين أن الأوربيين أنفسهم ـ ومنهم باحث فرنسي كبير متخصص بابن خلدون هو إيف لاكوست ـ يقول صراحة في كتاب له عن ابن خلدون: إن ابن خلدون لم يكن يعرف من اللغات إلا اللغة العربية، وكذلك ذكر الدكتور طه حسين المتخصص أيضا في ابن خلدون عندما تصدى للرد على الدكتور لويس عوض.
ومع كل هذا الذي نأخذه على الدكتور لويس عوض فإننا لا نستطيع أن ننكر أن بعض تأويلاته وتفسيراته قد لقيت هوى في نفوس مَنْ أرادوا الأمور على نحو ما صورها، ومن هؤلاء من يزعمون أنهم تقدميون ويساريون وشيوعيون ودعاة تجديد، وعلى سبيل المثال فإننا نرى الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلفت النظر إلى أن الدكتور لويس عوض كان هو الذي كشف لجيله عن أن شيلي لم يكن فقط شاعر المجتمع الإنجليزي، لكنه بالتأكيد والتحديد شاعر البرجوازية الإنجليزية. ويستطرد حجازي من هذا إلى قوله:
” وهكذا استطاع الدكتور لويس عوض أن يضع أيدينا على تلك القيم التي يمكن أن يكون لها طابع طبقي في وقت من الأوقات، لكنها في ذات الوقت لا تفتقر إلى المعني الإنساني الشامل، لأن الطبقة في فترة من الفترات تعبر عن أحلام الإنسانية وآمالها”.
ويري ألفريد فرج أن قدرة الدكتور لويس عوض كناقد تمثلت في أنه كان يلح على أن يصنف الأعمال التي ينتقدها ضمن إطار الأعمال الإنسانية أو المسرح الإنساني بوجه عام.
ويقول ألفريد فرج إن هذا يستفزنا بشدة ضده، وكنا نقول له إنه لا يمكن قياس المسرح المصري الحديث بمساطر وقياسات أقدم منه وأبعد منه، ولكنه كان يلح علينا في هذا.
ونعود إلى التأمل في الطابع المسيطر على تفكير الدكتور لويس عوض ونقده، لنقول إن الدكتور لويس عوض كان من الذين يكثرون من تعمد اللجوء إلى الغرائبية في الآراء من أجل أن يصنعوا لأنفسهم مكانا في الصف الأول من أصحاب الآراء، وقد جعل حياته كلها وآراءه كلها في سياق هذا الشذوذ، مع أن بعض الشذوذ يتقبل في النقد ويحسب لصاحبه قدرته على الدفاع عنه، إلا أن البعض الآخر يبقي مصطبغاً بوضوح برغبة صاحبه في الشذوذ من أجل الشهرة، لكن مشكلة الدكتور لويس عوض تمثلت في إدمان هذه الغرائبية، وفي تكوين سياق متصل من الآراء المعادية لمشاعر أمته من ناحية، ولحقائق العلم والتاريخ من ناحية أخري.
ومن العجيب الذي لا ينتبه إليه كثيرون من المفتونين بجرأة الدكتور لويس عوض أنه ظل يعتبر سليمان الحلبي قاتلاً ومجرماً في حين يعتبره الباحثون والمؤرخون المصريون بطلاً وطنياً وقومياً، وفي المقابل فإن موقفه من المعلم يعقوب الذي كان جاسوساً وعميلاً يرتفع به إلى مرتبة صاحب أول مشروع للاستقلال!! وذلك على الرغم من أن المعلم يعقوب (1745 ـ 1801) كان مجرد عميل خائن وغبي، خرج على إجماع الأمة إبان الحملة الفرنسية على مصر وخان وطنه وشعبه من الأقباط والمسلمين على حد سواء، وكوّن فرقة من أراذل الأقباط (على حد تعبير الجبرتي العظيم) الذين نبذتهم طائفتهم وأصبحوا سوط النهب الفرنسي لمصر.
ومع ذلك فإن الدكتور لويس عوض ظل يصور المعلم يعقوب على أنه صاحب أول مشروع لاستقلال مصر!! ويقدمه في صورة الزعيم في الوقت الذي لا يصفه الجبرتي إلا بيعقوب اللعين، الذي منحه الفرنسيون لقب “جنرال” وعينوه “قائمقام ساري عسكر الفرنسيين”.
توجهاته المتعصبة ضد الأفغاني

واستمرارا للتوجه المتعصب نفسه فإن الدكتور لويس عوض كان ينظر إلى جمال الدين الأفغاني في دراسة مشهورة له، على أنه زنديق، ملحد، مجدف، متفرنج في الفكر والسلوك، علماني، ثيوقراطي، ثوري، رجعي، تقليدي، محافظ، وسطي، عدمي، دهري، غامض، مريب، جاهل، غبي في الفكر وفي السياسة، شغل نفسه بسفاسف الفكر وسفاسف السياسة، مزدوج الشخصية، بل ومتعددها، متذبذب، متناقض.. إلى آخره.. في حين يقول الأستاذ الإمام محمد عبده عن الأفغاني: إنه لا يبالغ إذا قال إن ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة هو أقصي ما قُدر لغير الأنبياء.
كذلك فقد أثبت سامي خشبه أن كتابات الدكتور لويس عوض عن كثير من الموضوعات قد أتت على درجة كبيرة من الخفة وأحيانا من السطحية، وضرب مثلا بكتابته عن صلاح عبد الصبور فقد كتب عن صلاح عبد الصبور مقالين طويلين في الأهرام، لكن العجيب أن المقال الأول بأسره ليس فيه إلا اسم صلاح عبد الصبور، وهو لم يتناول في المقال إلا علاقة مراسلة بين اثنين من الرهبان الفرنسيسكان في إيطاليا، ثم يستكمل هذه القصة في المقال الثاني ولا يتناول صلاح عبد الصبور إلا في حدود 200 سطر.
كذلك يري سامي خشبة أن تأمل كتاباته عن نجيب محفوظ أو عن الشعراء المحدثين الآخرين أو المعاصرين له ستكشف لنا أنه لا يكاد يجيد قراءة لغة هؤلاء الشعراء، ولا يكاد يعرف الإحالات الثقافية والمعرفية التاريخية التي يشيرون إليها، مع أن الشعر الحديث فيه إحالات كثيرة خصوصا للثقافة العربية ومفرداتها التي يتضح فعلاً أن الدكتور لويس عوض لا يعرفها وبالتالي لا يستطيع أن يعرف إلام يحيل إليه هؤلاء الناس، فلا يستطيع قراءة النص أو إضاءته أو نقده بالتالي”.
علاقته بالمذاهب السياسية

وربما يقودنا هذا كله إلى سؤال مهم عن علاقة الدكتور لويس عوض بالمذاهب السياسية، وكنا قد لمسنا هذه الفكرة لمسا سريعا في حديثنا عن الترجمة، وها قد جاء الوقت لنتأمل مذهب الرجل الذي خاض في كل هذه المجالات، واتبع كل هذه الأساليب.
الواقع أن فكر الدكتور لويس عوض السياسي كان أقرب ما يكون إلى الأفكار النظرية المطلقة، ولم يكن يخلو من السذاجة في كثير من الأحيان، وعلى سبيل المثال فإنه كان يصور لزملائه في المعتقل أن إدارة المعتقل ستلتزم بالقوانين الرومانية وغيرها في معاملتها لهم، مما كان مثار سخريتهم الدائمة حتى بعد عقود طويلة من تجربة المعتقل نفسها.
وعلى الرغم من ميل كثير من المثقفين إلى تصنيفه على أنه شيوعي أو ماركسي، فإن الدكتور لويس عوض كان حريصاً على مهاجمة هذه المذاهب، وكان أميل إلى صيغة الاشتراكية الديمقراطية، وكان ميالاً إلى التقدمية في الفكر والثورة على القديم دون أن يدفع هذا به إلى خانة الشيوعية، ولم يكن اعتقاله في عهد عبد الناصر إلا من قبيل الاحتياط الذي دفع أجهزة الأمن إلى إدراج اسمه مع الشيوعيين، ومع أنه كان في وسعه أن ينهي الاعتقال بالإشارة إلى بعض آرائه في نقد الشيوعية إلا أن ذكاءه الفكري وعناده الشخصي اجتمعا عليه ليدفعاه إلى نوال هذا المجد بالبقاء في المعتقل مع أصحاب الرؤي السياسية المناهضة للثورة.
أشار الدكتور عبد الناصر هلال إلى أن ما قدمه الدكتور لويس عوض من تعبير عن الاشتراكية لم يكن صورة لاشتراكية توفيقية، وإنما كانت هذه الاشتراكية ـ في نظر هلال ـ “تلفيقية” حيث تبعد عن أرض الواقع بمساحات شاسعة، ولا يمكن أن تُشيد وتقوم على هذه الرؤية، غير أنه قدم لنا صورة يوتوبية لاشتراكية محددة، ومجتمع اشتراكي محدد، وهي اشتراكية إنسانية، وكثيرا ما كان الدكتور لويس عوض يطلق عليها “اشتراكيتنا”، أي اشتراكية الحقبة الناصرية التي كانت تتلمس طريقتها الزاخرة بكافة التناقضات والسلبيات”.
لم يكن يؤمن بالفن للفن

وكان الدكتور لويس عوض يري أن مدرسة “الفن للفن” منافية للحياة، لأنها تعزل الفنان عن الحياة والمجتمع، وتفصل مادة الفن عن صورته، وتقيم فوق المجتمع الإنساني والحياة الإنسانية دولة لا يُعلى عليها، هي دولة الجمال المطلق، وفي مثل هذه الدولة تكون غاية الغايات هي اللذة والسعادة، وأنها حقا لغاية من غايات الحياة، ولكن إذا قلنا إنها الغاية الوحيدة أو التي لا غاية وراءها، فقد جعلنا من الحياة شيئا ساذجا لا يستحق أن يعاش، ويمكن في ظل سعيها للجمال أن تتقيد بتعريفات ومقاييس ونواميس فنية موضوعية مستمدة من الخارج، ومستخلصة من التجربة الإنسانية في مختلف العصور.
وكان الدكتور لويس عوض يري أيضاً أن مذهب الفن للفن والأدب للأدب مذهب سلبي ضيق الحدود، وأنه كانت له ضرورات تاريخية فيما مضي، ثم انقضت هذه الضرورات، أو انقضىأكثرها على أقل تقدير، ويري أنه من المذاهب التي تبسط الفن فتعزل مادته عن صورته، أو شكله عن مضمونه.
وفي مقابل هذا كان الدكتور لويس عوض يقف من السريالية والفن السريالي موقف الرفض والعداء، فيقول:
“أنا من أعداء الفن السريالي، ولم يحدث أن حمل إلى شيء، سواء أكان في الفن التشكيلي أو الأدب، وكنت دائما أقف أمام هذه الأشياء موقفا فاترا أو معاديا، ولو أني أتحاشى ذكر هذا التعبير”.
كذلك كان الدكتور لويس عوض يرى أن البنيوية وسيلة من وسائل الهرب وعدم الالتزام، ويلوذ بها المثقف الذي يريد أن يهرب من الالتزام السياسي، كما كان يهرب إلى الماركسية فيلجأ إلى الوجودية السارترية.
وأظننا بعد هذا كله في حاجة إلى تأكيد القول بأن الدكتور لويس عوض لم يكن صاحب انتماء محدد قوي، لكنه كان بحكم توجهاته يؤثر اليسار بالميل إليه، لكنه بالطبع عانى من تعتيم اليسار وإن يكن قد حظي في معظم الأوقات بمظلتهم التي ترحب بوجود أمثاله تحتها.
علاقاته السياسية ونقده للناصرية

لكن الأمر الذي لم يعن به المحللون عناية كافية كان هو أن ارتباط بيئة الدكتور لويس عوض أو ارتباط أسرته بالوفد والحركة الوطنية قد زوده بميول وفدية مبكرة حمته من الانبهار بالأنظمة الشمولية وما توفره من جاذبية.
وعلى الرغم من احتضان الدكتور لويس عوض للماركسيين ومعارضي السادات في السبعينيات والثمانينيات، فإن هؤلاء لم يغفروا له موافقته على كامب ديفيد وتحمسه لها.
ومن الجدير بالذكر أن الدكتور لويس عوض تمتع في عهد السادات بعلاقة جيدة بمؤسسة الرياسة، وإن شابها بعض الفتور في كثير من الأحيان، وقد كان الدكتور لويس عوض أحد الذين ساعدوا السيدة جيهان السادات في كتابة رسالتها، كما أن رياسة الجمهورية نعته في عهد الرئيس مبارك، ومن المفهوم بالطبع أن هذا كان بمبادرة من أسامة الباز.
ومن العجيب الذي قد لا يصدقه القراء اليوم أن الدكتور لويس عوض كان ، كما أشرنا في البداية ، واحداً من أهم الذين بدأوا نقد التجربة الناصرية بعنف شديد وإن تظاهر بالدفاع عنها، وقد كان تأثير أحاديثه الشفوية (في مكتبه أو صالونه ) في نقد هذه التجربة من أكثر الأسلحة الفتاكة التي وجهت إليها، وقد جمع الدكتور لويس عوض أوليات هذه المقالات الناقدة للناصرية في كتاب شهير له هو “أقنعة الناصرية السبعة”، ومن الطريف أنه هو نفسه أخفاه من أعماله بعد هذا، وربما يكون السبب أنه لم يجد ما كان يتوقعه من نظام السادات من مكافأة مجزية على هذا الهجوم.
وقد ذهب لطفي الخولي إلى القول بأن الدكتور لويس عوض كان أقرب إلى الانتماء إلى الفكر المادي، وإن كان يحن حنينا فيه شجن إلى الفكر المثالي، وأنه قد تأثر بالماركسية، خاصة بمنطق الجدل الذي أخذه عن هيجل والذي كان يري أن ماركس قد صحح منطق هيجل في الجدل والصراع، ثم يقول لطفي الخولي مستطردا:
“برغم أننا نقول إنه لم يكن ماركسيا وبالتأكيد، إلا أن الدولة وأجهزة أمنها اعتبرته ماركسيا وسجنته مع عودة ورفاقه كماركسيين”.
ويري لطفي الخولي أن الدكتور لويس عوض كانت تتنازعه قضية الصراع بين الالتزام الوطني في الحركة الوطنية والالتزام الاجتماعي في خدمة الطبقات الكادحة والوصول إلى نوع من الاشتراكية سماها في مقاله المعروف “الإنسانية الجديدة”، حيث يزاوج مزاوجة صحيحة بين الذات والموضوع …. بين الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، ومن هنا كان هذا الالتزام يسبب له إشكالية حول استقلاليته كمفكر ومبدع دون أن يرتبط بجماعة سياسية ممكن أن تحد من تفكيره وحركته وتجعله ملتزما لتنظيم وليس ملتزما لما يؤمن به من أفكار تبلورت لديه من خلال معاناته الفكرية والأدبية.
وفي هذا الإطار روي الدكتور لويس عوض نفسه أن نشأته في قريته شارونة وإقليم المنيا تأثرت جدا بثورة 1919 وحزب الوفد، لكنه لم ينضم إليهما على الإطلاق، لكنه حدث استثناء وحيد أنه عندما أعلن عن قيام حزب الوفد الجديد انضم الدكتور لويس عوض إليه لكنه سرعان ما اختلف معهم واستقال احتجاجا على ما سماه الحجر على حرية الرأي والديمقراطية الداخلية داخل الحزب، وبالتالي ما اعتبره قيودا على حركته الفكرية والسياسية.
وفي مقابل هذه التعميمات التي يميل إليها لطفي الخولي في تقييم الفكر السياسي للدكتور لويس عوض فإننا نرى محمد عودة أكثر تحديداً في رؤيته لفكر لويس عوض، وهو يقول في صراحة ووضوح: إن الدكتور لويس عوض “تأثر بما رآه في إنجلترا حيث كان مسرحها السياسي قد انقسم إلى محافظين وعمال، وتبلور العمل السياسي فيها إلى صراع بين العمال والمحافظين، وتطور حزب العمال من حزب فابي إصلاحي إلى حزب اشتراكي ديمقراطي حقيقي بفضل لاسكي الذي غير الفكر الاشتراكي البريطاني ونقله من الفابية إلى الديمقراطية الاشتراكية، أي طعّم الفابية بالماركسية والصراع الاجتماعي الطبقي.
وهو يشخص هذا التطور الفكري فيقول إن تأثير لاسكي انعكس على مدرسة العلوم السياسية في لندن، لكن الجامعات الأساسية مثل أكسفورد كانت تخرج حكام الولايات ولكن تسرب إليها عناصر شعبية وعمالية، لكن الفكر اليساري الذي صبغ بريطانيا في هذا الوقت انعكس في هذه الجامعات، وكان أن تطور حزب العمال من حزب إصلاحي إلى حزب أساسي ثم تطور الفكر الاشتراكي من الفابية العاجزة إلى الاشتراكية الحاسمة”.
ويري محمد عودة أن الدكتور لويس عوض عاش هذه الفترة بكل كيانه وتأثر بها في فكره السياسي.
لفت ألفريد فرج على ما سبقه إليه محمد عودة فيقول إن تكوينه في جامعة كمبردج في الثلاثينيات قد وفر له الاحتكاك بكل التيارات الفكرية من الشيوعية إلى الفوضوية إلى الاشتراكية الديمقراطية.
وكانت كمبردج هي المركز الذي يعزز كل التيار البريطاني المؤيد للثورة الإسبانية.
وكان طلبة كمبردج كلهم بمختلف هويتهم يساهمون في جع المال وجمع البطاطين لجمهورية أسبانيا التي كانت في ذلك الوقت تعاني من هجوم الفاشية عليها، وكان الجو العام جوا مسيسا في كمبردج بكل معني الكلمة، وكان في نفس الوقت مناخا ثقافيا معمقا بكل معني الكلمة.
تكريمه
لم تخل حياة الدكتور لويس عوض من بعض مظاهر التكريم الرسمي وقد حصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي من الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العلم (1964)، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية عن عام 1988 قبل وفاته بفترة قصيرة.
توفي الدكتور لويس عوض في 9 سبتمبر 1990.

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com