لا أعرف أحدا ممن درسوا الفلسفة في مرحلتهم الجامعية وظفها لخدمة الإيمان الديني واليقين الرباني على نحو ما فعل الشيخ محمد الغزالي (1917 ـ 1996) ، وإن كنا نعرف كثيرين في كل اللغات والحضارات ممن وظفوا الأدب لخدمة اليقين ، أما الشيخ الغزالي فقد وظف الفلسفة على نحو ما وظف الكثيرون الأدب ، وربما بأفضل مما وظفوه، وقد اعتبر الفلسفة مهارة و وظفها فيما تستخدم فيه المهارات القادرة على معالجة النصوص والتراثيات، واعتبر الفلسفة أداة واستخدمها فيما تستخدم فيه الأدوات القادرة على بناء موقف وصياغة توجه ، كما أنه اعتبرها مجموعة من الودائع القابلة للصرف و المضاربة والمرابحة واستثمرها على أفضل ما أتيح له .
ولست أجد تفسيرا لهذا التميز أفضل من أن أقول إنه اعتبر الفلسفة في المقام الأول أدبا صرفا، وتعامل معها كما يتعامل مع الأدب، بالتعلم والاهتداء والاقتداء والتناص والتماهي والاستشهاد والتطعيم، أو فلنقل إن الشيخ محمد الغزالي تعامل مع الفلسفة كما يتعامل مع الأدب: بالاستدعاء من رصيده من النصوص والمحفوظات، وكما يتعامل مع الأدب باللجوء المؤّمن مع ملكات النقد والموازنة والتحليل الأدبي.
علاقته بالأدب
ولعلي أبدأ الحديث عن حياة الشيخ محمد الغزالي بأن أضرب مثلا من علاقة هذا العالم الجليل بالأدب في تعامله مع التراث الحديث، فقد أنجب الشيخ تسعا فعاش منهم سبع من البنين والبنات، وقد آثر ان يستقي أسماءهم من قصيدة أحمد شوقي «نهج البردة»، وهكذا سمى أولاده: هدى، وإلهام، وسناء، وعفاف، ومنى، وضياء، وعلاء.
من هذه اللمحة العابرة نستطيع أن نشير إلى رأينا المجمل في كتاباته، وأنه كان نسّاجا وكان يعد غزله لنفسه، ولهذا جاء منتجه الفكري نسيج وحده، ونسيج وحده فقط، وهي مكانة لا تتاح إلا للنوادر الذين يبذلون من أجلها جهدا تتقاصر دونه الهمم.
إذا أردنا أن نقارن الشيخ محمد الغزالي بأحد من معاصريه الذين شغلتهم فكرة الهوية فبوسعنا أنه نستدعي الدكتور جمال حمدان لنجد النحات في مواجهة النساج يعبران عن فهمين عميقين ومختلفين للهوية.
من البداية غير التقليدية أنتقل للبداية التقليدية في الموسوعات وكتب الطبقات لأشير إلى ما ينبغي أن نشير إليه من أن اسمه هو نفسه اسم مركب، وقد سماه والده هكذا تيمنا بالإمام الشيخ الغزالي ، أما اسمه بالكامل فهو محمد الشيخ الغزالي أحمد السقا، ومن المهم أن نذكر أن السيدة زينب الغزالي الداعية الإسلامية والسياسية المعاصرة له ليست شقيقته ولا أخته، وهو خطأ وقع فيه كثيرون جدا عند حديثهم عن وفاته وعن وفاتها، ومن الطريف أن أحد أشقائها سمي محمدا وكان شيخا بالوظيفة والتعلم كما كان ذا حضور مجتمعي و شعبي ، وهو ما زاد من اختلاط الأمور وسهل التورط في مثل هذا الخطأ المتكرر، أما لقب عائلتها فهو الجبيلي.
النشأة والعمل الدعوي
ولد الشيخ محمد الغزالي بمحافظة البحيرة سنة 1917، وتلقي تعليما دينيا تقليديا والتحق بكلية أصول الدين بالأزهر وحصل منها على الشهادة العالية، ثم حصل على الشهادة العالمية في الدعوة والإرشاد.
قضى الشيخ الغزالي حياته المهنية في مصر في مجال الدعوة، وقضى حياته الوظيفية كلها في وزارة الأوقاف في الخطابة والوظائف الدينية القيادية. وكان من الذين أتيح لهم أن يتعايشوا مع نظام ثورة يوليو بصعوبة متفاوتة في عدة مواقع وظيفية مهمة.
وفي هذه الفترة وصل به ترتيب الأمور أنه كان يخطب الجمعة في الأزهر الشريف، ثم انتقل إلى جامع عمرو بن العاص، وتبعته جماهيره، وفي هذه الفترة كان أكبر موقف معارض للنظام فيه هو أنه شنت باسمه حملة شهيرة علي تعديلات قانون الأحوال الشخصية (1979).
وفي أخريات عهد السادات استقبله الرئيس السادات وأعلن عن تعيينه وكيلا لوزارة الأوقاف لشؤون الدعوة.
لكنه على المستوى العربي مارس أيضا الأستاذية المحكومة بالجدران فقد درّس الشيخ الغزالي بجامعة أم القرى في مكة المكرمة. كما شارك في تطوير كلية الشريعة بقطر، وخدم الدعوة في قطر خمس سنوات.
أما إسهامه الأكبر في مجال التعليم الإسلامي فكان هو دوره في إنشاء جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بالجزائر، امتدادا متطورا للأزهر الشريف، ويذكر للرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الفضل الوفي في هذا الإنجاز بحبه وتقديره للشيخ الغزالي وقدرته على استضافته، كما أنه ترأس المجلس العلمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة.
نال الشيخ محمد الغزالي كثيرا من التكريم ومنح جائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام، كما حصل على أعلي وسام من الجزائر، وعلى عدد من الجوائز الأخرى.
انضمامه لجماعة الاخوان
على صعيد الحياة الموازي للمهنة والوظيفة انضم الشيخ الغزالي مبكرا إلى جماعة الإخوان المسلمين، وتتلمذ تلمذة مباشرة للشيخ حسن البنا الذي أطلق عليه لقب «أديب الدعوة»، وصعد نجمه في هذه الجماعة واختير سكرتيرا لتحرير مجلة «الدعوة» كما أصبح في سن مبكرة من أشهر خطباء جماعة الإخوان المسلمين، وقد احتفظ في الوقت ذاته بوظيفته في وزارة الأوقاف.
لكن تجربته السياسية والفكرية والتنظيمية في جماعة الإخوان مرت بأزمة أدى هو حقها ونال هو أيضا مغبتها ، ومن وجهة نظر تاريخية جامدة فقد اختلف مع المرشد الثاني للإخوان المسلمين و احتدم الخلاف لدرجة أنه ترك جماعة الإخوان في بداية الخمسينيات من القرن العشرين وسجل تجربته في عضويتها في كتاب لم يخل من الهجوم الصريح علي بعض رموز الجماعة.
أما تاريخه مع تقييد الحرية فيتلخص في أنه مع بداية حياته قضى في معتقل الطور بسيناء قرابة العام سنة 1949، كما قضى أقل من عام في سجن طرة عام 1965.
أما في مطلع ثورة 1952 فإنه بسبب خلافه المعلن مع الإخوان لم يصنف من الحزب الذي حسب معاديا لعبد الناصر، ومن ثم نجا في وقتها من محنة الديكتاتور وإن لم ينج بعدها.
لو كان صحفياً
مثل الشيخ محمد الغزالي نمطا فريدا من الدعاة الإسلاميين المتيقظين لحركة المجتمع من حولهم، ولو أنه كان صحفيا لكان أولى الصحفيين العرب بمكانة صاحب العمود اليومي الحي الأول وليكون النظير العربي للكاتب الأمريكي والتر ليبرمان فقد كانت لديه قدرة فائقة على متابعة الصحف اليومية والتقاط الأخبار اللافتة للنظر منها والتعقيب عليها بصورة مباشرة وذكية من مخزونه العقيدي والفكري عن الدين الإسلامي والسياسة الإسلامية.
نعم.. فقد كان الشيخ محمد الغزالي من أفضل المعقبين والمعلقين على الأحداث بما أوتي من قدرة على توظيف أساسيات علمه في التصدي لما ينزغ من أحداث ووقائع ومشكلات، وقد أفادته بلا شك متابعته الدائبة والمحبة لأدبيات أعلام الفكر في الزمن الذي نشأ فيه، وقد كان على سبيل المثال يتمثل بقدرات الأستاذ العقاد في التحليل والنقد وتكوين الأحكام.
وقد أثبت الشيخ محمد الغزالي نجاحا باهرا في القدرة على التميز في متابعة القضايا التي تعرض لها، وعلى سبيل المثال فقد أجاد عرض مأساة الإسلام بالحبشة، وهو الذي كشف عن مأساة المسلمين في سجون الحبشة، وهو الذي لفت النظر إلى ما حدث حيث خرج من سجن هرر وحده أكثر من سبعة آلاف شخص، ظل بعضهم مقيد الرجلين واليدين على شكل قوس لمدة أكثر من عشرة أو خمسة عشر عاما، فلما أفرج عنهم لم يعودوا إلى حالتهم الطبيعية، إذ تشكل عمودهم الفقري بهذا الشكل المقوس!
جمع الشيخ محمد الغزالي بين التميز بقدرات خطابية عالية، إذ كان قادرا على تحريك الجماهير وأسر العقول بخطبه، وبين التميز أيضا بأسلوب مشرق في الكتابة والتأليف بالتجديد والدقة والحرص على سلامة المنطق، وعلي روح الفكرة وجمال العرض.
كان الشيخ الغزالي من أكثر المؤلفين الإسلاميين انتباها إلى الكتابة بلغة عصرية في الموضوعات العقيدية وعلاقتها بالسلوك الاجتماعي واليومي للمسلم، وقد جمع في كتابته بين مهارتي تأليف المقال والكتاب ومن هنا جاءته ميزة خلود أعماله على الرغم من أنها واكبت أحداثا عابرة في زمانها.
كما سيد قطب
نأتي إلى المضامين الفكرية في أعماله فنبدأ بالإشارة إلى أن الشيخ الغزالي شأنه شأن الأستاذ سيد قطب كان من أوائل الذين انتبهوا إلى الكتابة عن موقف الإسلام من المذاهب الاقتصادية المعاصرة، ومن الفكر الاقتصادي بوجه عام، وكان انتباههما موازيا لموجات الجدل الفكري التي سادت العالم في هذه الفترة في المفاضلة بين الرأسمالية والشيوعية.
نشر الشيخ محمد الغزالي كتاب «الإسلام والأوضاع الاقتصادية» في طبعته الأولى (1947) مركزا على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وأفاض في الحديث عن الأسباب الاقتصادية للرذائل المنتشرة في المجتمع الإسلامي، وأرجع أسباب هذه الرذائل إلى الثلاثية المعروفة: «الفقر الكاسح، والجهل الطاغي، والمرض الموغل»، متحدثا عن أوبئة السرقة والزنا والبطالة، ومنتقلا إلى ما تسببه المعيشة الكريمة من ترفع وإباء، وأوضح أنه يقصد بالمعيشة الكريمة معيشة الكفاح المثمر لا معيشة الترف العاطل.
وذهب الشيخ محمد الغزالي إلى أن جوهر العلاج الصحيح متاح في نصوص التشريع الحاسمة، إذ وضح حق الناس في المال، وشرح مكانة الزكاة من الاقتصاد الإسلامي، ومشروعية فرض الضرائب ومعنى الصالح العام.
وقد استأنف الشيخ محمد الغزالي هذا التوجه في كتابه «الإسلام والمناهج الاشتراكية»، فشرح ما يراد بالتأمين الاجتماعي، وتوزيع الملكيات، وموضع الفرد من الأمة، ومسؤولية الأمة عن الفرد، وتحدث عن الملكيات الزراعية في مصر، وانتقد عمل مؤسسات الربا والاحتكار والاستغلال، وشركات التأمين، وحقوق العمال.
هكذا توصل الشيخ محمد الغزالي في كتابيه هذين إلى ما عرف عنه من معارضة مبكرة لفكرتي الرأسمالية والشيوعية معا، دون أن يسمي الإسلام طريقا ثالثا.
وبعد سنوات أكد الشيخ محمد الغزالي ملامح رؤيته الاقتصادية لمنهج الإسلام ورؤيته الإسلامية لقضايا التنمية الاقتصادية في كتاب ثالث بعنوان «الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين».. وفيه أثبت الشيخ محمد الغزالي أن للإسلام منهجا عادلا في تحقيق التكافل الاجتماعي، الذي فشلت في تحقيقه المذاهب الأخرى.
وعلي نحو ما اشترك الشيخ محمد الغزالي مع الأستاذ سيد قطب في التوجه نحو الدراسة الاجتماعية فإنه كان مثل الشيخ محمود شلتوت واحداً من الأفذاذ الذين عنوا بالحديث عن الطبيعة التشريعية للدين الإسلامي، وذلك في مواجهة الاستدراج الطبيعي والمقصود إلى العلمانية، وقد ألف الشيخ الغزالي كتابه «العقيدة والشريعة» مستهدفا في المقام الأول نقد كتاب المستشرق جولدتسيهر في الموضوع نفسه، وفيه فند الشيخ الغزالي عثرات ذلك المستشرق المجري ، فوقف وقفة ناقدة عند قوله: «إن الإسلام ليس من صنع محمد، لكنه من صنع الأجيال بعده، وإن رسول الله جاء بتعاليم استقاها من اليهودية والمسيحية حين اتصل بهما».
وأوضح الشيخ محمد الغزالي فروقا بين التشريع المدني والمكي، ملخصا ما قرره الفقهاء، ومؤرخو التشريع بشأن هذه الفروق، ومفندا ما قاله جولدتسهير بتأثير اليهود في شريعة محمد (!!)
رده على خالد محمد خالد
في صعيد ثالث فقد عبرت كتابات الشيخ الغزالي عن وعيه الذكي لخطورة تطويع الفكر الإسلامي للآراء والموجات الوافدة المبهرة، ومن هنا جاءت مواقفه المتميزة في تناول القضايا السياسية والاجتماعية، وقد تعمق موقفه هذا مع كل قضية جديدة تثار، أو مع كل موجة من موجات الإعجاب بالتوجهات الحديثة، وقد تصدى الشيخ الغزالي لبعض محاولات عصرنة الإسلام سياسيا بطريقة تتعارض مع جوهر العقيدة الاسلامية المتكاملة.
وكان أبرز جهود الشيخ محمد الغزالي المشهورة في هذا رده المبكر والعاصف على صديقه خالد محمد خالد، وقد حظي كتابه «من هنا نعلم» الذي رد به على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» بقبول واسع ومستمر، ويذكر التاريخ أن الأستاذ خالد محمد خالد مؤلف الكتاب الأول قد رجع بعد تجربة طويلة عن كل سطر قاله في كتابه «من هنا نبدأ»، وألف كتابا آخر تحت عنوان «دين ودولة».
وفي صعيد رابع كان الشيخ محمد الغزالي من الشجاعة بحيث تناول قضايا التعصب بفقه مقارن بين سلوك الديانات المختلفة في كتابه «التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام»، الذي نقض به كتاب «جاك تاجر» المعروف، وقد كتب الأستاذ الشيخ الغزالي كتابه ـ كما قال ـ على مضض، لأنه لا يريد أن يكون كتابه دافعا لإثارة الثوائر بين عنصري الأمة المصرية.
وقد تحدثت فصول هذا الكتاب عن الإسلام بين العصبية والتعصب، وعن المسلمين وأهل الذمة، وعن مسلك عمر الفاروق في معاملة أهل الكتاب، وعن الفتح الإسلامي في العصر الأول، وعن أسلوب التوسع والمعاملة في تاريخ الديانتين. وتحدث عن دخول المسيحية في مصر، وكيف دخلها الإسلام، مسجلا موقف الصليبيين من نصارى الشرق، وموقف الأقباط من الاحتلال الفرنسي.
على صعيد خامس انتبه الشيخ محمد الغزالي إلى دور الداعية في ميدان جلاء عقيدة الإسلام عصر المادية. وعلي حد الوصف الذكي للدكتور محمد رجب البيومي فإن الذي دفع الشيخ الغزالي إلى تأليف كتابه «عقيدة المسلم» كان هو ما لمسه من قصور في توضيح عقيدة المسلم للجمهور المسلم وغير المسلم علي حد سواء، ، حيث اقتصرت معرفة هذه العقيدة علي ما جاء في كتب علم الكلام، المسمى بعلم التوحيد، وكان رأي الشيخ الغزالي أن «هذه الكتب لم تعد تؤدي رسالتها في إحياء العقيدة، وإذكائها في نفس المسلم علي وضع يجعلها تترقرق دما في عروقه، لأن هذه الكتب تعرضت لآفات كثيرة، أهمها أنها سلكت سبيل الفلاسفة في تقرير حقائقها الإيمانية، فجعلت المنطق الأرسطي سبيل التدليل وآية الإقناع».
«والمنطق الجدلي كما نشهد في أمور كثيرة يثبت الشيء ونقيضه، لأنه يفترض صحة المقدمات، ولا يهتم إلا بالنتائج، إذ ذاك تجيء النتيجة باطلة وفق المقدمة إذا كانت باطلة، كما أنه نوعٌ من البحث يؤدي إلي الجفاف الفكري، وغايته أن يكون تمرينا عقليا، لا اهتداء قلبيا، والقارئ المعاصر تحوطه الشُّبه من كل اتجاه، شُبه الكفرة من الماديين والملاحدة والعلمانيين، ولا يجد في كتب التوحيد ما يشفي الغلة».
وهكذا قدم الشيخ محمد الغزالي في كتابه «عقيدة المسلم» فصولا من علم التوحيد بصورة جيدة وبأسلوب جديد، يقنع العقل، ويرضي العاطفة معا، معتمدا في هذا على كتاب الله وسنّة رسوله، وعلى المشاهدات المحسوسة في ملكوت السماوات والأرض.
وفي مواضع عديدة تحدث الشيخ محمد الغزالي عن رأي الدين الإسلامي في مسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار، ومجال العقل ومجال الوحي، وموقف الاستشراق من علم الكلام، وأبان عن دوافع الاستشراق السيئة في تعقب أقوال المبتدعة والمنحرفين، ليلصقها بالإسلام لصقا مكرها كله احتيال وافتعال.
وشأن كل دعاة الإخوان المسلمين فقد انشغل الشيخ محمد الغزالي كثيرا بقضية التربية بمعناها الواسع.
مؤلفاته
وقد اثبت الشيخ محمد الغزالي تمكنه من فهم القيم التربوية وتقديمها أيضا في كتابه «خُلق المسلم»، وفيه حديث عن الأخلاق من زاوية الإسلام، دون تعويل على آراء الفلاسفة وعلماء الأخلاق، وإنما هو يتحدث عن الأخلاق نفسها لا عن أخلاق جديدة يبتكرها، وقد أثبت ثراء الإسلام بالنظريات البانية للأخلاق دون حاجة إلى الشطط في تفسير النصوص.
ويأتي في هذا الإطار كتابه «فقه السيرة»، فهو في رأي الدكتور محمد رجب البيومي يمثل كتابا جامعا بين منطق العقاد وروحانية الشيخ الغزالي الداعية «المتصوف»، وقد أردف الدكتور البيومي موضحا أنه يقول: «المتصوف» عن عمد، لأن تصوف الشيخ الغزالي تصوف عملي مكافح، يدفع إلى التأمل، ويدعو إلى البناء، في ظل حب من الله، وخشية من عقابه».
لم تقف علاقة الشيخ محمد الغزالي بالتاريخ عند حدود روايته الأمينة ولا عند حدود الاستفادة من دروسه لكنه كان مؤرخا منشئا صاحب رؤية ورأي ونقد، فقد أبدى آراء شجاعة في أداء مصطفي كمال أتاتورك نشرها مبكراً، إذ صوره جبانا يحارب أمته، ويقضي على دينها ليظفر بالبقاء في الحكم بدلا من أن يحارب دول أوربا، وكذلك فعل مع تاريخ عبد الناصر.
وفي هذا الإطار كان حديث الشيخ محمد الغزالي المبكر والصريح عما رصده من ظواهر الاستعمار الداخلي المنكفئ على لذاته وأنانيته، وأنه كان السبب في الاستعمار الخارجي، كما أنه صار أداته في البطش والقهر.
كان الشيخ محمد الغزالي دارسا متفقها في تاريخ الأديان، وبخاصة الديانة المسيحية، ومن الحق أن نقول إنه أنصف الغربيين المعاصرين في علاقتهم بديانتهم، والقارئ لكتابه «كفاح دين» يدرك هذه الحقيقة.
وقد أكد الشيخ محمد الغزالي في هذا الكتاب على فكرة أن المسيحية انفصلت عن الدولة اسما لا فعلا، فالمعتقد المسيحي في الغرب موضع عناية كبيرة، وأثره متغلغل في توجيه السياسة الأوربية، وشاراته في المدارس والجامعات بارزة، والانطلاق من جوهره في وجوه النشاط أمر غير منكور، بل إن النازية والفاشية استظهرتا بالكنسية في سياساتهما ورسمتا الصليب على أعلامهما.
واعظ ايزنهاور
ولفت الشيخ محمد الغزالي النظر إلى أن واعظ «إيزنهاور» قد حضر إلى القاهرة في رسالة تبشير، وأن أيزنهاور رئيس جمهورية الولايات المتحدة كانت لا تفوته صلاة بالكنيسة.
كان الشيخ محمد الغزالي محبذا لتطبيقات الديمقراطية وروحها المحققة للصواب، وكان يشير كثيرا إلى أن تسعين في المئة من الديمقراطية البريطانية إسلامي المنبع والوجهة، ولولا أن مجلس العموم البريطاني ومجلس اللوردات قد اشتركا في إباحة بعض الرذائل التي يأباها الله كالشذوذ لكانت الديمقراطية الإنجليزية من أجمل صور الشورى التي نحبها لبلادنا.
وكثيرا ما عبر الشيخ الغزالي عن إعجابه بأداء سيدات أوربيات وصلن إلى مقاعد الحكم، وكان موقفه الساطع من السيدة مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية نموذجا لهذا الإعجاب.
وفي هذا الإطار تحدث الشيخ محمد الغزالي أيضا عن آثار الرأسمالية البارزة في الاستغلال المادي الصارخ، وأرجع إليها ما في الشرق الإسلامي من تأخر وانحطاط، وقال إنها سببت الشلل العقلي لكثير من البسطاء السذج، فأصبحوا يدورون حول ساداتهم كالآلة في المصنع، لا يناقشونهم الرأي أو يقاسمونهم الربح، بل هبطت بنفوسهم إلى مستوي العبيد.
على اليد الأخرى كان الشيخ محمد الغزالي يتحدث عن الشيوعية على أنها «الشيوعية الملحدة الكافرة»، مؤكدا أن الشيوعية تهدم الأصول المقررة في الإيمان بالله، واليوم الآخر، وتجعل العالم قطيعا يقترف المنكرات دون خوف من حساب رباني، إذ كثيرا ما يفلت المجرم من قانون الأرض، ولكن اعتقاده في عدالة السماء يؤرقه ويضنيه، فإذا زال هذا الاعتقاد تحول المجتمع إلى وحوش كواسر وفي هذا الإطار كان يلفت النظر إلي أن كبار الشيوعيين يعيشون عيشة كبار الرأسماليين في منازلهم، ويقولون غير ما يفعلون،
يقتضينني الإنصاف هنا أن اشير إلى أن الشيخ محمد الغزالي كان من القلائل الذين لم يتكسبوا بنقدهم العنيف للشيوعية.
لقد نشر ابنه المهندس ضياء ديوان شعره بعد وفاته، وقد كتب أستاذ الأدب الكبير الدكتور مصطفي الشكعة (1917- 2011) مقدمة ضافية لهذا الديوان، معبرا عن قيمته الأدبية، وجودته الفنية.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا