هذا الملك هو الملك الإسباني فيليب الثاني الذي لايزال يعد من أشهر ملوك العصر الوسيط، والذي آلت إليه أكبر إمبراطورية في عصره، فهو ابن كارلوس الرابع الذي كان بمثابة أقوى وأبرز الملوك المتعصبين الذين واجهتهم الدولة العثمانية في عهد صعودها الواثق، وقد وزاد فيليب في مساحة الإمبراطورية التي ورثها عن أبيه، في وقت ما، بزواجه من ملكة بريطانيا، وكان معروفا بالتعصب الديني الشديد والمتوارث الذي كان يتغذى أيضا على اختلال عقلي موروث وذي ملامح وعلامات لا يمكن إنكارها.
لكن هذا الاختلال العقلي كان مستورا بحكم الستار الحديدي حول الملوك في عصر ندرة المعلومات، وبفضل قوة الدور التنفيذي والتوجيهي الذكي المكمل الذي كانت الحاشية تؤديه باتصال، لكن فيليب الثاني (ونظامه) على الرغم من تعصبه الشهير والموروث كان حريصا كل الحرص على ألا ينخرط بقدر الإمكان في حروب مع المسلمين، صحيح أنه لم يعلن هذا التجنب صراحة لكن التاريخ يقول بأنه كان على الدوام يتفادى مثل هذه المواجهة المباشرة حتى إنه نصح ابن شقيقته الملك البرتغالي سبستيان 1554- 1578 بعدم دخول الحرب التي شهدت نهايته المبكرة ونهاية جيشه ودولته على يد الأسطول العثماني في معركة الملوك الثلاثة الشهيرة 1578.
نعرف أن فيليب الثاني عاش واحدا وسبعين عاما (1527 ـ 1598) وكان عمره من الأعمار الكبيرة في زمنه، حكم إسبانيا لأكثر من أربعين عاما ما بين 1556- 11598 أدرك فيها السنوات العشر الأخيرة من حكم سليمان القانوني وقد عاش يرنو إلى ما يمكن له أن يستفيد به من نظام العثمانيين الاجتماعي من دون أن يجرؤ على تحدي التعاليم الكاثوليكية بصراحة ووضوح على نحو ما فعل هنري الثامن الذي حكم ما بين 1509 و1547 أو ابنته الثانية الملكة البروتستانتية المؤثرة إليزابيث الأولى 1533- 1603 التي حكمت ما بين 1558- 1603 (وهي التي كانت معاصرة لفيليب الثاني، زوج أختها الكبرى وعاشت عمرا طويلا مثله) وقد حاول فيليب الثاني أن يقتدى بتجربة الملك البريطاني هنري الثامن في تكرار الزواج تقليدا للمسلمين، فتزوج أربع مرات وذلك على الرغم من أنه عاش عقديه الأخيرين بلا زواج، لكن الغريب في أمر زيجات هذا الملك أمران، الأمر الثاني أنه كرر الزواج ممن كن مرشحات للزواج من ابنه، وهذا ربما يكون “مبلوعا” بصعوبة، لكن الأمر الأول الذي يصعب بلعه حتى الآن أنه استحل لنفسه أن يتزوج ابنة أخته وهو ما لم تكن الكاثوليكية تجيزه حتى إن أجازته اليهودية التي كان يعاديها كما يعادي الإسلام.
وتذهب بعض الكتابات التاريخية إلى أنه في الحالتين التي تزوج فيهما من كانتا مرشحتين للزواج من ابنه، كان هو المعتدي على حق ابنه، وليس هذا بمستغرب على تاريخه مع هذا الابن الذي صورته الكتابات الملكية مختلا عقليا يستحق نهاية مبكرة على ما سنروي، تأمل الأن في زيجات فيليب ونتأمل من خلالها تاريخه وتاريخ الصراع السياسي في أوروبا:
1- تزوج فيليب الثاني من ماريا مانويلا أميرة البرتغال (1527 ـ 1545) وهي ابنة خاله وابنة عمته في الوقت ذاته (فقد كان خاله على نحو ما هو موجود أيضا في مجتمعاتنا متزوجا من عمته) كان خاله هو جوان الثالث (1502-1557) القطب المهم في الحياة الأوربية في ذلك الوقت وملك البرتغال (1521 ـ 1557) وقد دام زواجهما لأقل من عامين (نوفمبر 1543 ـ يوليو 1545) لكنها توفيت قبل أن تبلغ الثامنة عشرة من عمرها وذلك بعد ولادتها لابنه البكر بأيام معدودة، وقد أسمى ابنه منها كارلوس، وعاش هذا الابن حتى توفي 1568 وتصفه كتاباتهم بأنه كان مختلا عقليا، لكن بعض المؤرخين ذهبوا إلى أنه قتل بالسم بناء على أوامر والده الملك فيليب الذي كان قد وضعه في الحبس حتى توفي.
2- تزوج من الملكة ماري الأولى 1516- 1558 ملكة إنجلترا (وهي ابنة خالة والده) وكانت تكبره بأحد عشر عاما، بينما كانت تصغر والده بعشر سنوات فقط، فأصبح بهذه الزيجة ملك إنجلترا القرين ما بين 1554 و1558.. وكانت ماري كاثوليكية مُتعصٌبة مثل أمها كاترين أراجون (خالة أبيه كارلوس) حتى إنها هي التي أعادت تحويل مذهب الأمة الإنجليزية إلى الكاثوليكية، بعد أن كان والدها قد حول إنجلترا إلى البروتستانتية، وكانت ماري تضطهد البروتستانت وتقتلهم على الهوية إلى درجة أنها عُرفت باسم السفٌاحة ماري، وكانت تُحاول أن تمنع أختها غير الشقيقة إليزابيث الأولى (1523 ـ 1603) من أن ترث الحكم من بعدها، حتى إنها اعتقلتها في أعقاب ثورة عليها لم تُطح بها.. لكن الأقدار كانت لها كلمة أخرى، فخلفتها إليزابيث (1558 ـ 1603) وحكمت 45 عاما وأسست ما عرف باسم الكنيسة البروتستانتية الإنجليزية وهي جوهر الشكل الذي عليه سارت بريطانيا منذ ذلك الحين. وكان الفضل في هذا الإنجاز الإنجليزي أ مناخ التعصٌب المقيت كان قد انكسر بفضل ما تولد من روح حضارية مناقضة لسيادة فكرة التعصب على كل شيء، وهي الروح التي تولدت ونتجت عن تحالف سليمان القانوني 1494- 1566وفرنسوا الأول 1494- 1547، وها هو ابن كارلوس الذي زاد في الرُقعة التي ورثها عن أبيه كارلوس بأن أصبح ملك إنجلترا القرين لا يمكث متمتعا بهذه الصيغة إلا سنوات معدودات ما بين 1554 و1558حيث خرجت إنجلترا نهائيا، وحتى الآن من ربقة التعصب الكاثوليكي.
3- كانت زوجته الثالثة [الفرنسية] أصغر من زوجته الثانية [الإنجليزية ] بثلاثين عاما وهي إليزابيث (1545 ـ 1568) الابنة الكبرى لهنري الثاني ملك فرنسا (فكأن حماه الثاني هنري الإنجليزي وحماه الثالث هنري الفرنسي) ودام زواجه لها ثمانية أعوام منذ 1560 وحتى وفاتها في 1568، وكانت هذه الزوجة التي هي الملكة القرينة إليزابيث شبه مخطوبة لابنه البكر كارلوس في 1559، قبل أن يؤثر الملك فيليب بها نفسه، وهي حفيدة فرنسوا الأول [ الذي هو غريم والده وزوج عمته] وشقيقة الملوك الفرنسيين الثلاثة المتعاقبين: فرنسوا الثاني وهنري الثالث وشارل التاسع كما أنها شقيقة زوجة الملك الفرنسي الذي أعقب أشقائها الثلاثة في حكم فرنسا، وهو الملك هنري الرابع ملك فرنسا وأول ملوك أسرة الباربون، وقد انجب فيليب من زوجته الثالثة ابنتين عاشتا حتى تزوجتا من أرشيدوق النمسا ودوق سافوي.
4- تزوج فيليب للمرة الرابعة من أنا 1549 – 1580 ابنة ابن عمه، وهي نفسها ابنة أخته الشقيقة ماريا النمساوية، أما ابن عمه فهو الإمبراطور ماكسمليان الثاني 1527- 1576 (وريث عمه الشقيق فرديناند) وقد دام زواجه لها عشر سنوات من 1570 وحتى 1580 ومنها أنجب ابنه وخليفته فيليب الثالث (1578 ـ 1621)
لا أريد أن أزيد من بلبلة القارئ فأذكر له أن بعض الكتابات التاريخية تزعم أن هذه الزوجة لم تكن في الواقع ابنة شقيقته، وإنما كانت في حقيقة الأمر (التي كان رجال الدين يعرفونها وصارحوه بها) أخته من أبيه، وإن سجلت منسوبة إلى شقيقته، والعياذ بالله، ثم عاش فيليب الثاني العقدين الأخيرين من حياته بلا زواج بعد أن تزوج البرتغالية ثم الإنجليزية ثم الفرنسية ثم النمساوية ولم يتزوج إسبانية [في الظاهر] من بين زوجاته الأربعة أما في الحقيقة فإن أمهات زوجاته الأولى والثانية والرابعة إسبانيات بل إنهن من عائلته الصغيرة جدا فأم زوجته الأولى هم عمته، وأم زوجته الرابعة هي شقيقته، وأم زوجته الثانية هي خالة كل من والده ووالدته معا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا