الرئيسية / المكتبة الصحفية / ما أكثر ما أحسست بالخجل من جهلي

ما أكثر ما أحسست بالخجل من جهلي

1- كنت أتحدث في فضائية عن الوزارة الجديدة واستدرجني المحاور إلى ما يعرف من أنني كنت وراء ترشيح وزير المالية لمنصبه، وسأل السؤال المعتاد في مثل هذه الحالة فأجبته بأننا رغم تقديري العميق له لم نلتق، لكنني اكتشفت بالمصادفة مؤخرا أننا أقرباء، فأبوه وأبي أولاد خالات، فقد كان اسمه بدواعي البيروقراطية قد اختصر بحيث لم يظهر لقبه وهو لقب جميل. في أثناء عودتي هاتفني شقيق عبد الوهاب متعجبا من أن أشير إلى أن أُغفل قرابتنا بوزير الري، وقال ألا تعرف أن فلانا حماه قلت هذه أول مرة أعرف، وإن كنت أحسست هذا بسبب صداقات له مع العائلة، قال إنها ليست صداقات وإنما نسب، وإنهم استمعوا لحديثي الآن وتعجبوا من أن أتعمد إغفال هذه القرابة مع أنهم يحبوننا ونحبهم، أحسست بالجهل ثم قلت لشقيقي هل كنت تعرف قرابة وزير المالية بنا قال هذه أول مرة، قلت: نفس الشيء بالنسبة لي فيما يتعلق بوزير الري فكان رده واضحا أن الناس تغفر له لكنها لن تغفر لي، ولن يكون العذر مقبولا فأحسست بالخجل وبالوجل الشديد، وأخدت أسخر من علمي.

2- اشتركت في مؤتمر لتكريم أستاذة الأدب الكبيرة، اختارت بنفسها ورقتي لتكون في الجلسة الأولى في المؤتمر، كانت الورقة عن مذكراتها، وقد نشرتها فيما بعد في كتاب مذكرات المرأة المصرية ثم أعدت نشرها مع التوسعة في كتاب الثورة الحرية الذي هو الطبعة الثانية من كتاب المرأة، كان مدخلي للحديث أنني سمعت قصة حياة السيدة العظيمة من والدتي رحمة الله عليهما فقد كان عم والدتي بمثابة الصديق الصدوق لوالد السيدة المكرمة، على الغداء فاجأتني الدكتورة: يبدو أنك لا تعرف أننا أقرباء. سكت، فتأكدت أنني لا أعرف، وقالت إن شقيقتها متزوجة من عائلة والدي، وأن زوج أختها هو ابن عمة والدي مباشرة، قالت معلوماتها بثقة كان يستحيل عليٌ معها أن أنطق.. عدت إلى والدي رحمه الله فتعجب: ألا تعرف؟ كان لوالدتي ثلاث عمات فقط رأيت منهن بحكم العمر اثنتين في القاهرة أما كبراهن فتوفيت قبل أن أراها. لوالدي ثمانية خالات يصعب عليٌ الآن أن أتذكرهن بالأسماء أو الأولاد، ولم أر منهن إلا واحدة فقط كانت هي صغراهن.

كنت في شبابي الأول مغرورا إلى حدود تفوق بكثير غروري غير المبرر الذي لا زلت أحتفظ به حتى الآن، وهكذا لم أكن أجد سببا يدعوني لمعرفة السر في معرفة بعض أساتذتي أشياء عني

ذهبت لزيارة الناشر الكبير فوجدت في الصالون سيدة أجنبية تقرأ رواية إنجليزية كبيرة الحجم، وهي مشغولة تماما بالرواية، ولم أجد السكرتيرة على مكتبها فسألت السيدة بالإشارة فأشارت إلى أن الناشر موجود فآثرت أن أدخل للناشر مباشرة حتى لا أفسد على السيدة خلوتها مع الرواية. استقبلني الناشر بحفاوة مبالغ فيها بعض الشيء وكأنه كان ينتظر صيدا، وكان بصحبته أحد العلماء المقاربين له في السن، فقال هل تعرف الدكتور فلان؟ قلت أعرف الاسم، قال أولم تره، قلت نعم لأنه يعمل في الخارج منذ مدة طويلة، قال وماذا أيضا، قلت وهو متزوج من أجنبية ومن ثم فإن علاقاته بالمصريين ليست واسعة، فضحك وقال هل رأيت زوجته الأجنبية قلت: لا، رد العالم الوقور: يحدث أحيانا، وهذا ما حدث معك الآن فزوجتي هي السيدة التي قابلتها في الصالون، أبديت اعتذاري وسعادتي باللقاء به فقال ألا تعلم صلتي بك؟ قلت أنا آسف، قال هل تذكر سيدة استدعوك لطارئ ألم بها في العيادة المجاورة لعيادتك؟

قلت حدث هذا منذ عامين، قال: ولم تُكلف نفسك بالسؤال من هي؟ رغم أنك أديت واجبك باقتدار، فقلت: الطبيب صديقي، قال إنه ليس صديقك فحسب لكنه “بلدياتك” وهو الذي أشار عليك بهذه العيادة منذ سنوات، ابتسمت وصمت، فأخد الرجل يسرد من خصوصياتي أمورا متعاقبة ليس فيها خطأ، ولا تجتمع المعرفة بها إلا عند القليلين.. وأنا لا أسأله عن مصدر معلوماته. ثم قال: ألا تعرف عني شيئا كالذي أعرف عنك، فقلت له أعرف القليل! وانصرف العالم الكبير. هاتفت والدي عليه رحمة الله وسألته هل تعرف فلانا؟ قال: نعم وسألني هل قابلت ابنه؟ قلت: ومن ابنه؟ قال الممثل فلان؟ قلت: هل هذا ابن ذاك؟ أجاب والدي من زوجته الأولى. هكذا صدق حدسي من أن هذا العالم لا بد أن يكون من مدينتنا، ثم قلت لوالدي: هل الفنان الممثل من مدينتنا، فذكرني والدي بما كان يُقرضه لفريق التمثيل في المدرسة من اكسسوارات يحتفظ بها. عادت بي ذاكرتي لطفولتي وتذكرت.. وأحسست بالخجل من نفسي حين أعرف تفصيلات كثيرة من هذا النوع، وأجهل تفصيلات تخص والدي عليه رحمة الله، وتخص مدينتي، وتخص علماء أعرفهم بالاسم ولا أعرف ما ينبغي أن أعرف.

كنت أحب ذلك الناقد المؤرخ حبا شديدا فقد كان جادا مُطلعا متواضعا مؤلفا وقد ترك رغم عمره الذي لم يطل آثارا أدبية وتاريخية في غاية الأهمية. توفي هذا الناقد فجأة فكتبت رثاء له، ثم كتبت ترجمة عن حياته في إحدى الموسوعات، وفي الموقفين كان من يعرفونه يتعجبون من إنصافي له على نحو جيد لم يقم به غيري، رغم أن علاقتي به لا تخرج عن إطار المعرفة العابرة، حتى سألني أحدهم: هل عشت معه في بريطانيا حين كنت في زيارة لها، فأجبت بالنفي وبأني لم يطل عهدي ببريطانيا إلا أياما عابرة. ومع هذا ظللت لسبب لا أعرفه أقدر هذا الرجل حق قدره إلى أن جاء يوم قرأت ترجمة وافية عن حياته فإذا بي أكتشف أنه ولد في مدينتي فأدركت أن في الحياة من الأسرار والأسباب ما لا يمكن لنا أن نعرفه حتى نموت.

كنت في شبابي الأول مغرورا إلى حدود تفوق بكثير غروري غير المبرر الذي لا زلت أحتفظ به حتى الآن، وهكذا لم أكن أجد سببا يدعوني لمعرفة السر في معرفة بعض أساتذتي أشياء عني،.. كان أحد أساتذتي محيطا بكثير عن طريقة فهمي ومطالعاتي مع أن فيها ما لم يكن متاحا ولا مُتصورا لأي طالب في سني وفي دراستي.. لم يدر بخلدي أن أسأل عن السبب.. كما أنه لم يفاتحني بهذا السر. بعد سنوات توفي أستاذي هذا فتذكرت ما كان يعرفه وتعجبت من أنني بقلة ذكائي وكثرة غروري لم أبحث عن السبب الذي جعله يعرف عني كثيرا. بعد أربعين سنة من هذه الواقعة توفي أحد العلماء الأجلاء عن عمر طويل وكان هذا العالم الجليل أحد زملاء والدي المقربين جدا في التعليم الثانوي والجامعي أو ما يقال عنه بالإنجليزي زميل الحجرة. وإذا بي أكتشف أن هذا العالم الجليل الشهير كان عديلا لأستاذي الذي كان يعرف عني الكثير. كان الرجلان من إقليمين مختلفين، ومن تخصصين مختلفين ومن عمرين مختلفين لكنهما تزوجا شقيقتين. بت في تلك الليلة أسخر من كل ما تعلمت ومن كل ما ظننت أنني تعلمته أو علمته.. وأدركت يومها أنني كنت ولا زلت: لا شيء.

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com