في أحيان كثيرة تضطر مناهج التاريخ إلى التنازل عن موضوعاتها لصالح مادة دراسية أخرى تُسمٌى بالتربية القومية أو التربية الوطنية، وتُصبح هذه المادة أحد فروع الدراسات الاجتماعية في مرحلة التعليم الإعدادي فتُصبح هناك حصة دراسية للجغرافيا وحصة دراسية للتاريخ وحصة دراسية للتربية الوطنية، وكذلك الحال في التعليم الثانوي بحيث تُصبح هذه المادة من مواد المجموع ومن مواد النجاح والرسوب بل إن مُخصٌصاتها الزمنية تتضاعف في الأقسام الأدبية وإن احتفظت بحقها أيضا في الأقسام العلمية من التعليم الثانوي.
في منهج هذه المادة تقدم أنظمة الحكم الشمولية التاريخ بعد أن تضربه (أو تخفقه) في الخلاط فيُصبح في حالة سيولة تتحكم في سُكٌرها أو سُكٌريتها أو حلاوتها وملوحتها وحمضيتها أو قلويتها وكثافتها ولزوجتها كما يُمكن لها أن تتحكم في خصائصها الأخرى بأن تُضيف إليها ما تشاء من أيدولوجيتها أو ادعاءاتها.
وفي الدول التي تلتزم بحقوق الإنسان وبمبدأ الحريات السياسية لا يجوز للدولة أٌيٌا ما كانت أن تلجأ إلى هذه المادة الدراسية المُصطنعة بل إن أحد مُقوٌمات التحوٌل من الحياة الشمولية أو نظام الحزب الواحد يتطلب أن تتنازل الدولة عن حقٌها في فرض هذه المادة كمادة دراسية من الأساس.
من الجدير بالذكر والإشادة أن البديل الذي كان موجودا في نظام التعليم المصري في بداية عهد النهضة وبعد ثورة 1919 كان هو بالضبط ما يُسٌمى الآن بالتربية المدنية والسياسية وهي مادة تحرص المجتمعات الحرة على تدريسها ومن حق مصر أن تفخر بأنها في ظل حكومات الوفد والمعارضة في عهد الليبرالية على حد سواء كانت تدرس هذه المادة وكان من أعدٌها و وضع كتبها أدباء عظماء من طبقة الأستاذ عبد العزيز البشري حيث تُقدٌم التربية السياسية والحضارية والمدنية والمجتمعية من خلال التعريف الذكي بالمصطلحات ومعانيها ومراميها ووجودها وتاريخها كما تُقدم مفاهيم علم الاجتماع السياسي والنظم السياسية و نُظم الدولة والحكومة.. الخ. كنت ولا أزال أُجاهد من أجل أن نعود إلى تدريس هذه الكتب على نحو ما أُلٌفت منذ ما يقرب من مائة عام حين كان كل شيء يُصاغ بإتقان وأمانة.
كان هذا المدخل ضروريا لأفسٌر للقارئ كيف صيغت مفاهيم الأجيال المعاصرة عن التاريخ العثماني، فمن الحق أن نقول إن مادة التاريخ لم تتورط في هذا التزوير لا في المقرٌرات ولا في الامتحانات وبخاصة أن المساحة الزمنية المُتاحة لتدريس التاريخ الإسلامي كله محدودة ولا تتناسب مع أي مساحة مناظرة تُقدمها الولايات المتحدة الأمريكية أو أيٌة دول غربية لتاريخها الوطني والقومي والحضاري.. بل إن بعض المناهج الأوروبية المعاصرة تُخصٌص لتاريخنا (باعتباره جزءا من التاريخ الإنساني) أكثر مما يُخصص له في المناهج المصرية.
ماذا حدث للتاريخ العثماني بالضبط في مناهجنا، ومن أن أين أتى التركيز على كل هذه العبارات المتهمة للعثمانيين بالظلم والجور والعسف وإيذاء العرب وإعدامهم؟ في الحقيقة فإن تسعين في المائة من الانتقادات التي تُوجٌهُ للعثمانيين الذين حكموا قرونا طويلة تتعلق بالسنوات الأخيرة من حكم الدولة العثمانية حين تحولت هذه الدولة إلى حكم العسكر الذي نجح في أن يُقدٌم نفسه على أنٌه ملكية دستورية على غرار الملكيات الدستورية المعروفة في بريطانيا وغيرها بينما كان هو البروفة الأقرب إلى النظام الشمولي السوفييتي الذي نشأ بعده واستمرٌ حتى سقط في 1989 مع سقوط حائط برلين.
حتى الآن لم يُسمٌ أحد من الأوروبيين ولا العرب بالطبع ما حدث في الدولة العثمانية منذ 1908 بالاسم الحقيقي وهو “الانقلاب العسكري العثماني”. حدث هذا الانقلاب من خلال حزب عسكري الهوى والنوى والأشخاص والطبيعة وقد استولى على الحكم فأنهى عهد السلطان عبد الحميد الذي هو آخر السلاطين العثمانيين حقيقة، وأسند الخلافة أو السلطة أو رئاسة الدولة إلى أخيه محمد الخامس (1909) ثم إلى أخيهما محمد السادس (1918) تحت تهديد السلاح بينما حُكمت الدولة بالجنرالات.
كان الثوب السياسي الذي ارتداه هؤلاء العسكريون الانقلابيون أنهم حزب تركيا الفتاة وقد وصلوا إلى ما قبل ذروة انقلابهم بوصولهم إلى الاستحواذ على صفة المعارضة ضد السلطان عبد الحميد، واستطاعوا الإطاحة بالسلطان عبد الحميد وأصبحوا هم القوة الفاعلة والحاكمة وجاءت الحرب العالمية الأولى فزجٌوا بالدولة العثمانية فيها برعونة العسكر فأطاحوا بالدولة نفسها على نحو ما يفعل العسكريون في كل مكان وزمان حين يتولون السياسة فتخسر شعوبهم كل شيء حتى كيان الدولة وأرضها.
في سنوات حكم العسكر الذين عرفوا تاريخيا باسم الباشوات الثلاثة: طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا عرفت الشعوب العربية البطش الشديد الذي جعل حاكم سوريا جمال باشا يستحق لقب “السفٌاح” الذي أطلقه عليه السوريون، وكان جمال السفٌاح على سبيل المثال حريصا على أن يُبيد كل الزعماء الوطنيين المدنيين وليس في هذا التعبير مبالغة فكلٌ زعماء الشام الذين عاش بعضهم حتى الستينات من القرن العشرين كانوا قد حُكم عليهم بالإعدام في عهده الذي هو عهد عثماني اسما لكنه كان حكم العسكر قبل أن يعرف المصطلح، ومن قلب الحكم العسكري هذا برز مصطفى كمال أتاتورك والأتاتوركية.
وهنا نجد العرب الذين درسوا على مناهج الناصرية والبعث ينسُبون فظائع حكم العسكر الذين استولوا على مقدُرات الأمور في الدولة العثمانية منذ انقلابهم واستيلائهم على مقاليد الحكم في 1909 إلى العثمانيين بينما كان هؤلاء عسكر كحكام الناصرية والبعث والقوميين العرب. من ناحية أخرى نجد الإسلاميين وهم يظنون ويتناقلون ما لقنوه من أن التتريك والانحياز ضد العرب لم يبدأ إلا في عهد أتاتورك. بينما كان أتاتورك نفسه حلقة متأخرة من حلقات حكم العسكر الذي بدأ منذ 1909.
من الجدير بالذكر أنه طبقا لمبدأ الفعل ورد الفعل فإن الجمعية العربية للفتاة نشأت كرد فعل على تركيا الفتاة، ومن الطريف انها نشأت في باريس 1909، أما تركيا الفتاة نفسها فتعود بدايتها إلى بدايات القرن العشرين، وفي أكثر التقديرات عراقة فإن جذورها تعود إلى 1889 فقط، وهي في البداية والنهاية حركة طُلاب عسكريين وليست حركة مجتمع مدني، كما أنها في البداية والنهاية كانت صدى لاضطرابات الإنكشارية التي عرفتها الدولة العثمانية في مراحل متأخرة من حياتها ولم تكن حركة إصلاحية ذات مشروع حضاري وإنما كانت في معظم نصوصها وأدبياتها حركة تتريك أو تحيز للمركز الحاكم، يُمكن وصفها بالوصف الشائع الآن عن أبوظبي التي تتحمل الجزء الأكبر من نفقات الإمارات أو الوصف الشائع في السبعينات حين كانت روسيا تتحمل عبء الاتحاد السوفييتي، وحين كانت ألمانيا الديموقراطية تتحمل عبء حلفاء وارسو.. أو ما يزعمه الرئيس ترامب من أنٌ الولايات المتحدة الأمريكية تتحمل نفقات حلف الأطلنطي بأكثر من الباقين وهو زعم يفتقد الدٌقة. ومن هذه الروح كانت تنشأ دعوات التتريك والانحياز للجنس الطوراني الذي يتحمٌل مسئولية الدولة بينما الأطراف لا تتحمل بل تزدهر.
هكذا زور العرب لأولادهم تاريخ العثمانيين مرتين حين نسبوا سنوات العسكر بطغيانها إلى العثمانيين لا إلى العسكر، وجعلوها بديلا لخمسة قرون ومرة أخرى حين ظنوا العسكرة لم تبدأ إلا مع أتاتورك بينما كان أتاتورك نفسه هو ثمرتها الأخيرة التي ربما كانت اقٌل قسوة من فترة الباشوات الثلاثة الذين أذاقوا العثمانيين والعرب معهم سوم العذاب.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا