إذا أردت أن تجد مفتاحا لطبيعة علاقات وحروب الرئيس جمال عبد الناصر مع العرب فإنك ستكتشف أنه كان يختلف مع الأطيب فيعاديه ويلحف في عداوته ويسقطه ليقع مباشرة في مواجهة مع الأشرس، ومن الغريب أن هذا حدث وتكرر في السعودية والعراق وفي سوريا وفي اليم وفي الجزائر وفي الأردن وفي لبنان وفي كل مكان امتد بصره إليه، وانتقل نفوذه إليه. ولهذا فإنه يمكن لنا القول بأن الرؤية السياسية قصيرة النظر كانت هي ثانية السمات التي سيطرت على الرئيس جمال عبد الناصر بعد أهم وأولى السمات وهي كفره بالديموقراطية.
وقد ظهر قصر النظر السياسي الشديد في علاقات الرئيس جمال عبد الناصر الدولية كما ظهر في علاقاته العربية، وسوف أضرب على هذا مثلا بموضوع لم يكن أحد يقترب منه على الإطلاق لكن القراء والمتابعين بدأوا يتحدثون فيه بانطباعاتهم بعدما وفقني الله وفتحت باب الحديث فيه، وسأختصر الحديث في هذا المثل الى أبعد حد ممكن حتى لا نتوه في تفصيلاته الكبيرة المتشعبة التي تشمل ميادين حركة وموضوعات خلاف كثيرة ومثيرة. يتعلق هذا المثل بالملكين السعوديين اللذين أتيح له أن يتعامل معها وهما الملك سعود الذي حكم منذ 1953 حتى 1964 والملك فيصل الذي حكم منذ 1964 وحتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ثم بعد هذه الوفاة حتى توفي في 1975.
كان الرئيس جمال عبد الناصر لأسباب قصيرة النظر قد اندفع تماما إلى عداء الملك سعود وكان عداؤه هذا قد اتخذ صورا متعددة، ومبالغات مذهلة وصلت إلى أن يهاجمه في خطب علنية جماهيرية بطريقة مسرحية يسقط فيها الحائط الرابع ويستغل جموع الجماهير المحتشدة في خطابه لتكمل معه المسرحية بالضحك أو الهتاف أو الاستهجان أو التصفيق وذلك عندما يصفه بأنه ملك الجواري ملك الحريم ….الخ.
لن نناقش الأسباب التي قدمها الرئيس جمال عبد الناصر لعداء الملك سعود لكننا سنفترض من باب صياغة الجدل (مؤقتا) أنه كان معذورا فيها أو على حق مطلق فيها فإذا بنا نجد أن حملاته هذه على الملك سعود كانت تصب بل صبت كليا وجزئيا في مصلحة أخيه المتنازع معه أي الملك فيصل وقد ضخمت الحملات الناصرية من قدرة ولى العهد الأمير فيصل على إزاحة الملك سعود والحلول محله في 1964 في ذروة الوجود المصري في حرب اليمن.
ماذا كانت النتيجة هل جاء تولي الأمير فيصل للملك بمثابة إنقاذ للرئيس جمال عبد الناصر من مستنقع اليمن، هل جاء توليه للملك ليساعده على الخروج المشرف من اليمن؟ أم أن الأمر وهذا هو ما حدث بالفعل قد جاء ضد الرئيس جمال عبد الناصر كلية فأصبح يواجه نظام الملك فيصل الذي كان أعتى وأقوى من نظام الملك سعود؟ وببساطة شديدة فقد ساعد الرئيس جمال عبد الناصر الملك فيصل ضد الملك سعود ليكون الملك فيصل ضده بأكثر مما كان الملك سعود.. ومن غرائب الأقدار أن الرئيس جمال عبد الناصر سرعان ما عاد فتحالف مع الملك سعود بعد عزله ضد شقيقه الملك فيصل.. ألم يكن الأجدر به منذ البداية أن يتصالح مع الملك سعود بدلا من هذه الهزيمة المضاعفة التي مُني بها حسب روايته على يد الملك سعود (في 1961) ثم على يد الملك فيصل (في 1967)؟
العجيب في هذا الأمر أن الملك سعود الذي ظلمه الرئيس جمال عبد الناصر وساعد على ظلمه كان هو صاحب الفضل الحقيقي فيمما يسمى عند الناصريين بنصر 1956 ذلك أن الملك سعود كان هو الذي ضغط على أمريكا لتضغط على فرنسا وبريطانيا للخروج من منطقة الفتاة في ديسمبر 1956 ثم واصل الضغط حتى تم الخروج الإسرائيلي من سيناء في 1957، وكانت قدرة الملك سعود في هذا الضغط تعود إلى خوف الغرب الطبيعي من توظيف سلاح البترول، وذلك قبل أن يطور الغرب من آلياته الناجحة في إجهاض الفعل الثوري الطبيعي والمحتمل، والذي كانت نذره قد ظهرت بالفعل، ووصل الأمر إلى حد أن نقول إن الرئيس جمال عبد الناصر لم يُنقذ في 1956 إلا بفضل الملك سعود (الذي أصبح يصوره ويهتف ضده بشعارات من قبيل أنه ملك الجواري وملك الحريم) وقد بلغت قوة الملك سعود في ذلك الوقت أنه اشترط لقبول الدعوة لزيارة أمريكا أن يستقبله الرئيس الأمريكي إيزنهاور بنفسه في المطار استقبالا كاملا على خلاف تقاليد البروتوكول الأمريكية. بل وصل الأمر الى أن عودة سيناء وتيران وصنافير وشرم الشيخ تمت بدون اتفاقيات مطولة ولا اجتماعات متكررة ومن دون أن يذهب الرئيس جمال عبد الناصر للتفاوض.
تبخر كل هذا الفضل وكل هذا النبل الذي مارس به الملك سعود دوره لأنه كان إنسانا ورجلا أقرب إلى الطيبة على حين أن الملك فيصل الذي أذاق الرئيس جمال عبد الناصر الأمرين حظي بالتقديس الناصري فيما بعد لأنه حضر مؤتمر الخرطوم عقب هزيمة 1967 وأبدى عونا لعبد النصر هو في كل الأحوال عون مادي ومحدود ومشروط بل أن الثمن الذي دفعه الرئيس جمال عبد الناصر بقبوله لهذا الدعم كان أكثر من قيمة الدعم بكثير جدا.
نستطيع أن نقول إن الرئيس جمال عبد الناصر كان مخطئا في انحيازه المبكر ضد الملك سعود فقد كان في هجومه المتكرر حماسيا اندفاعيا يحظى بالتصفيق دون التدقيق، وربما انه لم يخطر بباله انه بهذا الذي يفعل ضد الملك سعود يصعّب على نفسه المعركة، وهنا ألجأ إلى لعبة الشطرنج لتصوير الموقف فقد كان يندفع للفوز بعسكري فإذا به يخسر حصانا ثم إنه لا يكتفي بأن يخسر حصانا مقابل عسكري يكسبه وإنما هو يندفع للفوز بعسكري آخر فإذا به يخسر الوزير وربما الملك نفسه.
من المدهش بعد هذا أن ترى اليساريين من كتاب التاريخ أو الناصريين أو الذين عاشوا الحقبة الناصرية وهم يستعذبون أو يستهلون انتقاد مصطفى النحاس باشا فيما يسمونه حادث 4 فبراير 1942 مع أنهم يعرفون حق المعرفة أنه لو أن النحاس رفض العمل مع الملك فاروق نهائيا لأتم الإنجليز مخططهم في خلع الملك فاروق ونصّبوا الأمير محمد علي توفيق مكانه، وأصبح على النحاس والوفد والقوى الوطنية أن يتعاملوا مع الأمير محمد علي توفيق بكل ترهاته وشطحاته وولائه المعلن للإنجليز وهو ولاء معلن متناقض مع تحفظ فاروق (المعلن أيضا) ضد الإنجليز بل ربما عمله ضدهم في الحرب العالمية الثانية.
وإذا وضعت هذا التصور أمام عينيك في كل نزاعات الرئيس جمال عبد الناصر لراعك أن تجده يكرر نفس الأسلوب ونفس الخطأ وأن يصل بدور الشطرنج إلى مرحلة كش وزير بأسرع مما يتصور منافسوه. من الطريف أن الأدبيات الناصرية كانت تتغزل في مهارته في الشطرنج، فلما حلل أحد هواة الشطرنج صورته التذكارية في أثناء مباراة شطرنجية أثبت بسهولة أن مستوى مهارته في الشطرنج كان منبئا بوضوح عن مستواه في السياسة.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا