تتمثل ريادة الأستاذ يوسف جوهر في مجموعة من الإنجازات، فهو أول مَنْ كتب القصة القصيرة التي تصلح للنشر في الصحف العامة واسعة الانتشار، وهو أحد رواد الكتابة السينمائية الأوائل الذين تمكنوا من تقديم الأفكار المتفاعلة من خلال حوارات بسيطة حافلة بالمعاني، كما أنه صاحب الفضل في تحويل الأعمال الأدبية غير التقليدية إلى أعمال سينمائية، وهنا نذكر جهده الذي لا يمكن تجاهله في الفيلم المأخوذ عن قصة «دعاء الكروان» الذي يكاد يوازي جهد الأقطاب الثلاثة الآخرين في هذا العمل (المؤلف طه حسين، والمخرج بركات، والممثلة فاتن حمامة)، كذلك يذكر الجمهور كثيرا من الجمل والحوارات الراقية الحافلة بالمعاني فيما قدمه من أعمال مثل: «الرباط المقدس» و«الأيدي الناعمة» لتوفيق الحكيم، و«بين القصرين» لنجيب محفوظ.
كان الأستاذ يوسف جوهر أديبا مقروءا على نطاق واسع وعريض، وعلي مدي عقود متوالية، وكان هو نفسه واعيا لهذا المعني، وكان يري أن واجبه أن يكتب الروايات للمصريين عامة لا للمتحذلقين أو المتعالمين أو قراء النظريات أو عشاقها، وكان في استخدامه للغة الفصحي نموذجا للقدرة على انتقاء اللفظ وسلاسة العبارة ووضوح الفكرة لكنه كان يعمد في بعض الحوارات إلى مزج لغته الفصحي هذه ببعض التراكيب العامية على نحو ما يفعل الفنانون الذين يلجؤون إلى أسلوب الكولاج ويوظفونه ويضفرونه في نسيج العمل دون أن يدمجوه تماما أو يطبعوا به روح العمل.
ومع أن يوسف جوهر كان في حياته أقرب إلى التحفظ والبعد عن المرح فإنه في أعماله الأدبية كان يميل إلى السخرية اللاذعة، وكان حريصا في حياته وكتاباته على حد سواء على الصدق، وكانت القيم الخلقية مسيطرة على كتاباته الأدبية بصورة بارزة، وفي كل قصصه نلمح الإشادة بالحياة الأسرية كأفضل إطار للحياة الكريمة. وقد عاش حياته الطويلة بعيدا عن الزلفي والتملق، وبعيدا عن التعصب والمحسوبية، وفي العقد الأخير من حياته تصدي لبعض ما أشيع عن تعيين أبناء القضاة في السلك القضائي، واستمر يكتب بحماسة في انتقاد هذا الوضع حتى استدعته نيابة أمن الدولة العليا للتحقيق، واعتذرت صحيفة الأهرام عن مقالاته في هذا الصدد (أبريل 1994).
وطيلة فترات نشاطه الأدبي ظلت القصة القصيرة بمثابة أحب الألوان إلى قلبه وقلمه.. وقد تميز أسلوبه بقدرات عالية من شاعرية الصياغة، وحبكة الدراما، وقوة الخيال، والقدرة العالية على التعبير عن الواقع، وسرعة البديهة في التعليق على الأحداث، والقدرة العالية على نقد المجتمع والحياة الاجتماعية وظواهرها الطارئة، وكان يتمتع بقدرة على النقد الساخر وكانت سخريته ذات مذاق خاص، كما كان إنتاجه حافلا بالاحتجاج على سلبيات المجتمع والانتصار للمستضعفين، والوقوف إلى جانب الفقراء والمساكين، وكانت نهايات قصصه وأعماله السينمائية معبرة عن انتصاره للخير والقيم العليا، وقد اقتدي به كثيرون في هذه الناحية حتى أصبحت النهايات السعيدة من السمات المميزة للأفلام العربية، وربما أن الفضل في هذا الطابع السعيد لا يعود إليه كمنشئ له، لكنه بالتأكيد وجد الازدهار والترسخ على يديه.
وقد أفاد يوسف جوهر من خبرات كتاباته للسينما في القدرة على تصوير الشخصيات تصويرا دقيقا موحيا، كما أفادت هذه الكتابات من قدرته الفائقة على الوصول بالمعاني المعقدة إلى القارئ.. وقد مكنته دراسته للقانون وممارسته المكثفة للمحاماة في بداية حياته من إدراك كثير من واقع الحياة، وقد عرف أن الحياة تتضمن من الوقائع ما هو أكثر من الخيال، وهكذا مكنته كتاباته الكثيرة للسينما من أن يصل إلى طابع معين في فنه القصصي هو الرؤية السينمائية، وعلى حد تعبيره هو نفسه فإنه كان يري الأشخاص وكأنهم يتحركون على الشاشة.
عدّ يوسف جوهر على الدوام رائدا من رواد السيناريو. وفي أوائل الستينيات كان يوسف جوهر بتاريخه وتألقه هذا أول مرشح لكتابة الدراما التليفزيونية مع بدء البث التليفزيوني، وقد كان عند حسن الظن به، وقدم أعمالا رائدة قابلة للاقتداء، وهكذا نهج الآخرون على نهجه في معالجتهم التليفزيونية ومحاذيرها باعتبارها أعمالا تدخل كل بيت. وقد تعاون على مدي تاريخه الفني مع عدد كبير من المخرجين من طبقة محمد كريم، وعز الدين ذو الفقار، وحسن الإمام، وكمال عطية، وبركات.
أما أول فيلم كتب حواره فهو فيلم «المهمة» لآسيا (1945). من الأفلام التي أتم حوارها: «الأبرياء» و«قبلة في لبنان» و«الجيل الجديد» و«هذا ما جناه أبي» و«اليتيمة». تميزت لغة يوسف جوهر بالفصاحة والسلاسة والإيجاز ودقة العبارة وجمالها، وتميز أسلوبه بالرمز المعبر، وبالنهايات الناطقة بالمغزى، وللتصفيق لها. لم يحظ يوسف جوهر بعد بدراسات نقدية عنه، وقد نوقشت عن فنه القصصي رسالة علمية في 1998 في آداب قنا قدمتها إيمان محمد إلياس، وناقشها الدكاترة: الطاهر مكي، ويوسف نوفل، وأحمد السعدني.
من إسهاماته الأدبية غير المشهورة تأسيسه وإصداره لمجلة «الساعة 12» بالاشتراك مع الدكتور سعيد عبده، كما أنه ألف بالاشتراك مع سليمان نجيب مسرحية واحدة «كلنا كده»، وإن كان أحمد حمروش يذكر في رثائه أنه حاول إقناعه بالكتابة للمسرح القومي لكنه لم يستجب. وبالإضافة إلى المجلة التي أسسها مع سعيد عبده، فإنه رأس تحرير مجلة السينما والمسرح. وعلى الصعيد الأكاديمي شارك في إنشاء المعهد العالي للسينما التابع لأكاديمية الفنون، ودرّس فيه القصة السينمائية.
وقد تولي الأستاذ يوسف جوهر عدة مناصب نقابية ومهنية رفيعة، فكان سكرتير عام جمعية الأدباء، وكان أول أمين صندوق لنادي القصة (1954)، وأول أمين صندوق لاتحاد الكتاب، وقد شارك في وضع قانون هذا الاتحاد، وكان بحكم نشاطه من القلائل الذين جمعوا بين عضوية ثلاث نقابات: المحامين، والصحفيين والسينمائيين، فضلا عن اتحاد الكتاب. كما تولي منصب مقرر لجنتي القصة والسينما في المجلس الأعلى للفنون والآداب الذي تحول إلى المجلس الأعلى للثقافة. كان الأستاذ يوسف جوهر عضوا في مجلس إدارة مؤسسة السينما، وتولي منصب رئيس الأرشيف القومي للفيلم. زار تشيكوسلوفاكيا وألمانيا والهند والولايات المتحدة. وعلى مستوي التقدير كان يوسف جوهر من القلائل الذين حازوا جائزة مجمع اللغة العربية في شبابهم (1942)، وجائزة الدولة التقديرية (1983)، كما كُرم بجائزة الريادة من مهرجان الإسكندرية السينمائي في عقده الأخير.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا