الرئيسية / المكتبة الصحفية / فضل علماء الإسلام على التشريع المصري.. نموذج المراغي

فضل علماء الإسلام على التشريع المصري.. نموذج المراغي

كانت للشيخ محمد مصطفى المراغي بصمات بارزة في التشريع المصري وإذا قيل إن فردا واحدا من رجال القانون بمعناه الواسع أستطاع أن يطور التشريع المصري في القرن العشرين فإنه هو المراغي، وليس السنهوري أو غيره من أساتذة القانون الذين نقلوا النصوص الفرنسية الجاهزة فعدلوها أو أقلموها، أما الشيخ محمد مصطفى المراغي فإنه من خلال الدراسة الواعية له ولزملائه وفريق عمله أستطاع أن يستمد من الفقه الإسلامي ومن مذاهبه المتعددة ما غاير به التشريعات التي كانت قائمة في مجال الأسرة وفى مجال المواريث وقد أتم هذا في مصر بعد ثورة 1919 بما لم يتجاوز العشر من السنوات.

وقد امتد الإصلاح التشريعي الذى أنجزه الشيخ محمد مصطفى المراغي الى المسيحيين المصريين أنفسهم وذلك من خلال لائحة 1938 للأحوال الشخصية التي لاتزال حتى الآن بمثابة الأمل العالي للمسيحيين المصريين وهى لائحة تقدمية إصلاحية انتفعت بها الكثير من دول العالم بعد عقود من الزمن، ومنها بريطانيا العظمى نفسها في التسعينيات، لكن سيطرة شمولية الحكم العسكري في مصر وما كانت تتطلبه من شمولية مؤسسات المجتمع الديني مكّنت بعض قيادات الكنيسة القبطية المصرية من التحكم المتعسف في الأحوال الشخصية لأبنائها وخلق مشكلات لا أول لها ولا أخر منذ بداية السبعينات بناء على رؤية فردية وصفت نفسها بأنها كهنوتية.

لم تقف إسهامات الشيخ محمد مصطفى المراغي في الإصلاح التشريعي عند قوانين الحدود المرتبطة بالفقه الإسلامي لكن الشيخ بحضوره الطاغي وبرأيه الواضح وبقدرته على حل المشكلات التشريعية وانتقاد عيوب التوجهات الاجتماعية ورسم الخطط الإصلاحية كان حاضرا في كل القوانين المدنية التى ظهرت في الفترة التى شهدت لمعانه المتوهج بما في ذلك قوانين الجنسية والتجنس، والتعليم، والتوظيف، والاقتصاد، والائتمان الزراعي وحفظ حقوق الملكية.

ما دوره في الإصلاح التعليمي في الأزهر فدور عبقري قلما أتيح لفرد واحد أن يصل إليه ويحرزه، وكان الفضل في هذا الدور راجعا الى ثقة مطلقة في قدراته سلمت له بها  الأقطاب الثلاثة للسلطة في مصر حتى لو اختلفوا معه في تفصيلات الرؤية فقد كان يتمتع بثقة الوفد والنحاس (وإن اختلف في توجهاته العملية بالتحالف مع الأحرار الدستورين والقصر وأحزاب الأقلية) كما كان يتمتع بثقة الملك فؤاد ثم الملك فاروق والقصر كله وكان كذلك يتمتع بثقة الإنجليز الذين كانوا قد عرفوا كفاءته حين كان قاضيا لقضاة السودان قبل أن يصل الى منصبه الرفيع في المحكمة الشرعية ومنصب شيخ الأزهر.

كان الشيخ محمد مصطفى المراغي حريصا على وقته، وكان من القلائل الذين يتحركون في دأب شديد من أجل الإنجاز السريع دون أن تفقدهم هذه الحركة الوقار المعهود والمطلوب في المناصب العليا، وكان المجتمع المصري يرى المراغي هنا وهناك خطيبا ومتحدثا ومدرسا ومناقشا ومفتشا وموجها، ولهذا فإنه كان يضن بوقته على الاجتماعات وعلى الاحتفاليات، وهو أول من صمم على الاستقالة من عضوية مجمع اللغة العربية وهو في عنفوان عطائه لأنه رأى انشغاله بمسئولياته قد حالت بينه وبين الحضور الى دار المجمع لحضور جلساته، وكأنما كان الشيخ محمد مصطفى المراغي يتصور أنه سيموت وهو يؤدى وظيفته، ومن ثم فإنه لا يجوز له أن يحتفظ بما يحتفظ به الأنداد من مناصب يقدرون أن من فوائدها أنها تستغرق وقتهم بعد أن يتركوا وظائفهم المرموقة.

كان الشيخ محمد مصطفى المراغي منارة عالية يأتي إليها علماء المشارق جميعا فيستمعون الى رأيه فيما يواجههم من مشكلات الحياة والإدارة والبيروقراطية، ويستعينون بمعارفه وعلاقاته القادرة على أن تحل لهم مشكلاتهم. كان الشيخ محمد مصطفى المراغي يشجع كل جهد إسلامي بلا استثناء وبلا من أو مساومة أو تعال، ومن الثابت أنه لم يقصر في تشجيع حركة جماعة الإخوان المسلمين بل إنه كان أحد المتبرعين من ماله الخاص لشراء مقر الجماعة في الحلمية الجديدة، وهو تصرف لا يدل على النبل والعطاء فحسب لكنه يدل على بعد النظر والحرص على القدوة والسمو.

وكذلك فعل الشيخ محمد مصطفى المراغي مع كل الجماعات الإسلامية التي نشأت في ذلك الوقت سواء من أجل الإصلاح الاجتماعي أو الديني أو السياسي أو المجتمعي أو المذهبي بما في ذلك جماعات الهداية الإسلامية وأنصار السنة والجمعية الشرعية. كان المراغي قادرا على تمييز الجواهر والتقاط النوابغ من تلاميذه واللاحقين به، وهو الذي اختار للأزهر رواد التعليم والتدريس فيه في الفترة التي تحول فيها الأزهر الى نظام الكليات الجامعية، كما أنه هو الذي تولى بنفسه تنظيم العلاقة بين الأزهر والمعاهد التابعة له على نحو يستبقى المركزية من دون أن يجعلها مصدر تهديد لتقدم العلم وصناعة العلماء وازدهار المدارس العلمية الإقليمية.

كان النظام البديع الذى اختاره الشيخ محمد مصطفى المراغي لإصلاح التعليم الأزهري من الذكاء والعبقرية بحيث إن زميله الشيخ الظواهري حين خلفه في منصب المشيخة نفذه على نحو ما وضعه الشيخ محمد مصطفى المراغي باستثناء يسير جدا، وإذا كان هذا مما يدل على عظمة الظواهري وثقته بالنفس الكبيرة فإنه يدل أيضا على موضوعية المراغي وثاقب فكره وإتقانه لمخططه وفهمه له وقدرته على صياغته أو اختيار أفضل وعاء للإصلاح التعليمي والتأهيلي في أقدم مؤسسة علمية عرفها العالم دون أن يهز ثوابت هذه المؤسسة أو أن يضعف من قدرتها المتراكمة على مدى العصور.

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة التدوينة من موقع مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com