من ثوابت السياسة الإسرائيلية المبدئية وخصائصها الاستراتيجية المعروفة أنها تفرق بين مقاتليها الذين هم أبناء بيولوجيون عضويون مخلصون للشعب اليهودي، وعلى الدولة العبرية أن تبادلهم الإخلاص مهما كلفها الأمر، وبين العملاء الذين لا يصلون مهما أدوا من الخدمات إلى درجة البنوة البيولوجية لكنها تكرمهم وتحميهم بقدر ما تحتاج إليهم. ومع هذا فإن هذه السياسات لا تمانع في بعض الأحيان في أن تفضح هؤلاء العملاء (عند الحاجة) من باب الفخر بقدراتها. وبالرغم من أن هذه سياسات عامة ومبدئية إلا أنه يبقى للاجتهادات والممارسات الفردية دور واضح في صناعة اختلافات تطبيقية جوهرية، بل إن الصراعات الإسرائيلية – الإسرائيلية قد تلعب من الأدوار ما يصيب بعض السياسات العامة بالاضطراب الحاد والجالب لبعض المتاعب غير الجوهرية، وقد كانت قصة أشرف مروان نفسها مسرحا نموذجيا لهذه التفاوتات.
ومنذ أسابيع وجدنا جهات رسمية إسرائيلية تعلن أسماء أحد عشر نجما من الصحفيين المصريين على أنهم عملاء لها، مع أن بعضهم حريص على أن يقدم نفسه في صورة وطنية مثالية تجعلهم من أرباب الشرف! ومن ربات الصون والعفاف! وواحد منهم يقول عن نفسه إنه محاور مع أنه نموذج فظ لمن يصدق عليهم القول بأنهم من المستفيدين الفوريين من كل صفقة مشبوهة أو عابرة! وبعيدا عن أية روايات إسرائيلية قادمة ومحتملة فإن ما نشره الإسرائيليون عن أشرف مروان حتى الآن صادق بنسبة لا تقل عن ٩٩٪. من الحق أن نعترف بأن إسرائيل استثمرت الضعف البشري الذي وقع فيه أشرف مروان الذي كان واحدا من جيل الشباب الحالم المصدوم الذى رأى الوطن يضيع كله في لمحة بسبب رعونة الزعيم، وأجادت إسرائيل هذا الاستثمار إلى أقصى حد ممكن، وواصلت إسرائيل هذا الاستثمار على نحو ما رأينا مما لم يعد بحاجة إلى التكرار أو التلخيص، لكننا أصبحنا اليوم وقد وأصبح واجبا علينا في الضفة الأخرى من الشاطئ ألا نتورط في تصوير الخطيئة على أنها بطولة، أو في تصوير الشيطان على أنه ملاك، وإلا كنا كمن يلعب حساب الطرف الآخر وليس لحساب الوطن.
ومن الجدير بالذكر أن معالجات الناصريين الشوفونية والرومانسية لقصة أشرف مروان دفعت القراء العاديين إلى الاندفاع إلى فقدان الثقة في الرئيس جمال عبد الناصر نفسه، وعلى الرغم من الظلم الذي أتعرض له كثيرا من بعض الناصريين فقد رددت على هذه التداعيات في وقتها فقلت في تغريداتي ما نصه: “قولا واحدا ومن باب إحقاق الحق (ومعرفة الحقيقة) كما يقول الفقهاء فإن الرئيس عبد الناصر لم يكن جاسوسا لكنه كان مُتحكما فيه بالفصحى وبالإنجليزية controlled وبالفرنسية contrôlé وبالعامية الأدق من كل لغة “مظبط” بدرجة تقترب من 100%”.
لن يلوم القراء أحدا من الناصريين إذا تبرأوا من الجاسوسية أيا ما كان الجاسوس لكن بعض الناصريين لا يزالون يلفون ويدورون لان هذا طبعهم فالهزيمة عندهم نصر والنصر هزيمة ومن ثم فلربما تصبح الجاسوسية على أقلامهم وطنية، والوطنية رجعية. ولهذا فإن التساؤل الساذج القائل بكيف يمكن لنا أن نتصور أن يكون زوج ابنة الزعيم جاسوسا أو أن يكون سكرتير الرئيس السادات للمعلومات لا ينبغي أن يحكم انفعالاتنا المندهشة فهو مجرد سؤال ساذج لا محل له من الإعراب، وقد سجل التاريخ لهاتين الحالتين سوابق كثيرة في أعتى الديموقراطيات الغربية، وإن بقي للسؤال بالطبع محل من معركة الثورة المضادة الهادفة لتغييب الوعي أو تزييفه!
كذلك فإني أكرر ما قلته من قبل من أن الرئيس السادات ولم يعرف ومات وهو لا يعرف لا هو ولا أي شخص من نظامه كله، ولو بعث من قبره الآن لاكتشفنا بسهولة انه لا يعرف، فالمسألة رغم تعقيداتها مرت من تحت ذقون المصريين في طريق أبسط من البساطة غير ذي صوت ولا ضوء وليس له صدى ولا برق، وإذا كان السادات نفسه حتى الآن لا يعرف.. فلا تظلموا أنفسكم ولا تجلدوها. لكن من الاعتراف بالواقع العقلي الصحيح أن نقول إنه كانت هناك نصوص عديدة سجلها أصحابها قبل نشر إسرائيل للموضوع تؤكد بوضوح وجود “مروان ما” على مستوى مروان. بل إن رأيي المتواضع أنه لا يزال من الممكن أن يتكرر أشرف مروان الآن وبأكثر من نموذج، لكنه لم يكن واردا أن يتكرر فيما بين ١٩٧٧ و٢٠٠٧ والسبب لا يمكن تفسيره بأفضل من تفسير بيولوجي بحت وهو أن نموذج مروان يماثل نموذج كائن حي دقيق لا ينمو إلا في الوسط اللاهوائي anaerobic وهو وسط كان موجودا من ١٩٥٤ وحتى 1977 ثم عاد للوجود منذ ٢٠٠٧.
وقد قلت من قبل إنكم لو سألتم الوزراء الناصريين العسكريين الذين عملوا وزراء في عهد عبد الناصر ولا يزالون على قيد الحياة (وهم ثلاثة معروفون معدودون: شمس بدران ومحمد فائق وسامي شرف) عن تورطات بعض أفراد أسرة الرئيس عبد الناصر لسمعتم العجب العجاب، وفقدتم ثقتكم في سمعكم وأبصاركم فاذكروا الله ولا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم، اسجدوا لله شكرا أنكم بفضل ثورة الاتصال تعرفون خيانة الخائن في نفس اليوم؛ فقد كان أشرف مروان يحارب مع إسرائيل وهو قريب من غرفة عمليات القيادة في ١٩٧٣؛ ولم يعرف المصريون الحقيقة إلا بعد أكثر من ٣٠ عاما! أما الآن فإن إسرائيل حين تصرح بأسماء عملائها في نفس الساعة وليس في نفس اليوم فإن هذا (في علم الاستراتيجية) دليل ضعف وليس دليل اقتدار.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا