تاريخ النشر: ٢٠٠٢/٨/٢٠
جريدة : الأهرام
لا يمكن لأحد أن يتصور حجم الدور الذي لعبه سعد زغلول في حياة مصر, فقد تمكن هذا الرجل من توحيد هذا الشعب وقيادته نحو الحضارة الحديثة, فضلا عن الحرية والاستقلال والديموقراطية, ولولا جهد هذا الرجل لتأخر تقدم مصر الحديثة سياسيا وحضاريا مراحل كثيرة, وقد نجح هذا الرجل في أن يجعل كل مصري يؤمن بماله وبما عليه, وأن ينطلق من هذا الإيمان لممارسة حقوقه السياسية وواجباته الوطنية.
ولاتزال حتى هذه اللحظة تعيش الثورة التي قادها ورادها ورعاها, ولانزال نتأمل ذكاءه ووطنيته وألمعيته في تحويل أفئدة شعب بأكمله إلى معاني الحرية والديموقراطية والاستقلال والوطنية, وفي تأصيل معاني الكرامة والفداء والوحدة الوطنية.
وقد كانت لسعد زغلول مواهب وقدرات لا حدود لها, لكن الأهم من كل هذه المواهب أنه كانت له نفس عظيمة قادرة واثقة, ويكفي للدلالة على قدرة هذه النفس وسموها أنه بعد أن عين قاضيا ومستشارا بالاستئناف لم يجد حرجا في أن يسافر إلى فرنسا, وأن يؤدي امتحان شهادة الحقوق ليحصل عليها ويعود إلى بلاده مؤهلا بما كان ينبغي أن يحصل عليه من مؤهلات في مرحلة مبكرة…
هكذا كان سعد باشا رجلا عظيما بالفعل واثقا من نفسه إلى أبعد حدود الثقة, ولم يكن يبني هذه الثقة من شعور مجرد من الخبرة والممارسة, لكنه كان يبنيها من جهد جهيد بذله طوال حياته في تقويم نفسه, والارتقاء بها في وقت كان الارتقاء بالنفس أمرا صعبا بالفعل.ونحن نقرأ مذكرات سعد باشا, فنعجب من هذه القدرة على نقد الذات وتأنيب النفس, وليس من شك أن هذه القدرة لا تتأتى للمرء إلا بعد رياضة قاسية عنيفة يروض فيها نفسه على القيم العليا مرة بعد مرة, فينجح مرة ويفشل مرة, فلا ينظر إلى هذا النجاح أو إلى هذا الفشل على أنه نهاية الدنيا, وإنما هو يتصور الأمر في حدوده الطبيعية نتيجة للرياضة الدائبة التي تصل في النهاية إلى أن تنضبط بالممارسة على مستوي أداء راق.
ونحن نلاحظ أن قيمة سعد زغلول كخطيب لم تكن تقف عند الحماسة ولا عند السجع والجناس والطباق, ولا عند سلامة اللغة, لكنها في الحقيقة كانت تتخطى هذا كله إلى ما هو أكثر وزنا وقيمة, استمع إليه مثلا وهو يقول: الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة.
انظر أيضا إلى قوله “إننا نريد للشعب أن ينظر إلى الحكومة نظرة الجند للقائد لا نظرة الطير للصائد… ” وجئني بأية عبارة ترقي إلى هذه العبارة في حكمتها وفي جرسها الموسيقي الجميل المعبر, وقل مثل هذا في قوله الاستقلال التام أو الموت الزؤام وقوله( الذي نسب فيما بعد إلى غيره) شرف لا أدعيه وتهمة لا أنفيها.
ولست استطيع أن أنسى تلك العبارة الرائعة التي وضعها الأديب الكبير مصطفي صادق الرافعي على صدر كتابه من وحي القلم وفيها وصف سعد العظيم أسلوب الرافعي وكتاباته بقوله: كلام كأنه قبس من التنزيل أو من آي الذكر الحكيم.
علي هذا النحو كان سعد يتحدث, فأي زاد علوي كان يتزود به هذا الرجل حتي يصدر في عبارته عن مثل هذا الفهم العميق للحياة وللنفس البشرية وللسياسة وللوطنية؟
كان سعد يصل إلى لب الفكرة في سرعة مدهشة, وليس في حديثه جمل اعتراضية ولا استثناءات, وقد درست عباراته الجميلة بطريقة تحليلية فوجدته قد وصل بذكاء إلى تكنيك في غاية المهارة, فهو إذا أراد الحديث مثلا عن قاعدة عامة, وعن استثنائها أجهد فكره في أن يصل إلى الفارق الذي يجعل الاستثناء لا يخضع للقاعدة, ثم هو بعد هذا يصوغ من القاعدة الواحدة قاعدتين, قاعدة للأصل وقاعدة للاستثناء ويجعل من القاعدتين صيغة لجملتين متساويتين معطوفتين, وحينئذ تظهر بلاغة سعد وقدرته على قول الحكمة.
كانت أحاديث سعد تستمد غذاءها من عقل صاف, وفكر مصقول, ولابد أن الرجل كان قد زود عقليته وسليقته بغذاء فكري راق بديع كفيل بأن يتحول( أو يحترق) إلى طاقة فكرية في اللحظة المناسبة ليغذي عقلا ينتج مثل هذه الأفكار على هذا النحو البديع من اليسر والسهولة.
ولأني لست من الذين يجيدون تقويم الأعمال الأدبية, ولا من الذين يستطيعون دراستها على نحو أكاديمي أو منهجي متميز, فانني اهيب بكل أساتذة الأدب أن يوجهوا طلابهم في الدراسات العليا إلى دراسة نصوص سعد, سواء في البرلمان أو في بيت الأمة أو وهو وزير.
ومن حسن حظي أن الدكتور محمد حسن الزيات أهداني كتابا قيما لشقيقه الأستاذ عبده حسن الزيات المحامي ورئيس تحرير جريدة كوكب الشرق عنوانه:
“سعد زغلول من أقضيته“, وكان من حسن حظي أن طالعت هذا الكتاب في مرحلة باكرة أتاحت لي قراءة وتأمل الفهم القانوني العميق لسعد, وقد نجح مؤلف هذا الكتاب في أن يقدم من خلال هذه الدراسة العبقرية صورة دقيقة ورائعة للفكر القانوني المتميز الذي كان سعد باشا يتمتع به بعد طول تمرس في المحاماة والقضاء.
وربما يسأل عن السر الذي جعل جذوة الفكر مشتعلة متأججة في عقلية هذا الرجل طيلة حياته وحتى وفاته, والجواب صعب.. وليس من شك في أن هناك عوامل كثيرة قد تضافرت حتى حققت هذا, لكني أستطيع أن ألفت نظر القراء إلى سبب واحد يفوق كل الأسباب الأخرى, وهو حرص هذا الرجل على اكتساب المعرفة, ونحن نعرف أن السؤال الذي يسأله المرء يدلنا دلالة مبينة على مدى رغبته في اكتساب المعرفة وعلى مدى قدرته على هذا الاكتساب.
وقد كانت حصيلة هذا التعلم المستمر كله مستوى رائعا من الفكر والأداء.كان في حد ذاته يدفع إلى الإيمان المتجدد بسعد المتفوق الذي وصل إلى هذه الذري الرفيعة عن جدارة,ولست أجد أبلغ في التعبير عن هذا المعنى من القصة التي يرويها الدكتور سيد أبو النجا عن حفل شهد فيه سعدا يتحدث أمام طلاب الأزهر لمدة ثلاث ساعات فلا يخطيء ولايلحن ولا يتلجلج, وكانت النتيجة الطبيعية أن عشرة آلاف من طلاب الأزهر آمنوا بالرجل وساروا خلفه!
وإني لأتمنى أن يتفرغ أحد الذين يدرسون تاريخنا لحصر الشبان النابهين الذين دفع بهم سعد إلى الحياة العامة, سواء وهو وزير للمعارف أو وهو زعيم للوفد.
وكان من أهم مميزات سعد زغلول التي ساعدت على النجاح في كل ما أنجزه وكل ما حققه وضوح الرؤية, ومن النادر أن تجد بين سياسيينا من يتمتع بوضوح الرؤية على نحو ما كان سعد يتمتع.
وكان سعد لهذا السبب يواجه منتقديه بأقوى ما يمكن لسياسي أن يفعل, وعلى سبيل المثال فإنه حين وجهت إليه سهام النقد بأنه يضع أتباعه في المواقع المتقدمة من الجهاز الحكومي, لم يخف بواعثه تحت ستار الكفاية أو الرغبة في التجانس أو أي شيء متقدم أو متأخر من التعبيرات المدافعة عن معنى من هذا القبيل, وإنما رد على هذا بمقولته المشهورة: ” لو استطعت أن أجعلها زغلولية لحما ودما لفعلت “, ومنذ ذلك الحين صارت هذه المقولة شأنها شأن كل كلام سعد نموذجا لقادة الوفد.
ومن العجيب أن مقولة الولاء قبل الكفاية التي ابتدعتها بعض الأجهزة لم تستطع أن تعبر بأية صورة عما عبرت عنه عبارة سعد زغلول الشهيرة, وذلك لأن الانتساب إلى زغلول كان يعني بالبداهة الكفاءة والمقدرة والوطنية, وكثيرا من الصفات الرائعة التي لايمكن للولاء مهما يكن قدره أن يحققها فيمن يفتقدها من الأساس على نحو ما عانينا من كثيرين من الذين دفعت بهم عصور لاحقة إلى الصفوف الأولى, سواء من رجالها أو من الذين تسلقوا على أكتافها في الأغلب.
وكان إيمان سعد زغلول بالوحدة الوطنية إيمانا حقيقيا, وحين أراد أن يعبر للأقباط عن إيمانه بحقوقهم بعد انضمامهم إلى الوفد, فإنه استعار قول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: ” لهم مالنا وعليهم ماعلينا “, وبهذا فإنه لم يؤكد فقط على قيم مطلقة, وإنما أكد على قيم رفيعة وأصيلة تنبع من الدين الإسلامي نفسه, وقد نطق بها الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم نفسه.
كان سعد زغلول يحظى بالإعجاب حتى من أعدائه, وعندي أن أروع عبارة قيلت في الدفاع عن سعد زغلول تجاه الانتقادات الكثيرة التي توجه إليه هي قول إسماعيل صدقي: “كان سعد زغلول رجلا عظيما, وكانت له عيوب لكنها كما يقول الفرنسيون, كانت بمثابة العيوب الصغيرة التي تلازم الصفات الكبيرة”.
وقد ردد رجال الحزب الوطني كثيرا مقولة أن سعد كان صديقا للورد كرومر, وأنه أقام حفلة في وداعه, والحقيقة التي قد يتعجب لها القاريء أن كرومر كان شأن الإنجليز الأذكياء القادرين على تقويم الأشخاص تنبأ بمستقبل عظيم لسعد زغلول في الخطبة التي رد بها على خطب الذين ودعوه, وكان هذا قبل قيام ثورة1919 بسنوات طوال.
وليس في عبارات كرومر مايدل على عمالة سعد للإنجليز ولاعمالة الإنجليز لسعد, وإنما هو تقرير ذكي ومبكر عن شخصية أثارت إعجاب شخصية أخرى.. ولم يكن أي نكرة ليحظى بإعجاب كرومر على هذا النحو،وعلى كل حال فيبدو أن كرومر كان جيد الفهم والتعبير, لأنه اكتشف في سعد صفات عظيمة حقيقية, وأشاد بها في رؤية واضحة.
ولم يكن كرومر وحده هو الذي اكتشف موهبة سعد وعظمته مبكرا, فقد فعل هذا جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما,أما الزعيم مصطفي كامل فإنه عندما ووجه من الإنجليز بأن المصريين لايستطيعون الحكم والإدارة والسياسة, واجههم باسم سعد زغلول قبل أن تقوم الثورة بأكثر من عقد كامل من الزمان, وكذلك فعل محمد فريد.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا