بلغ الملك فؤاد قمة الحكمة والتعقل في تدخله غير المبرر! في اختياره للوزراء الذين ترشحهم السياسة للعمل في الدولة، كان يتدخل على الدوام في تقييم هؤلاء الوزراء وشخصياتهم، وإمكاناتهم، وكان تدخله هذا مفيدًا على الرغم من منافاته للديموقراطية الحقيقة التي تكل الأمر كله للشعب وللأحزاب وللصندوق. وكان يستقبل المرشحين في المستقبل للوزارة ليقيم شخصياتهم ويناقشهم، وكان هؤلاء يظهرون فخرًا بقدرتهم على إقناع الملك فؤاد وكسب ثقته، وقد روينا في بعض كتبنا عن صليب سامي حواراته مع الملك في بداية عهده بالوزارة، وكيف كان الملك قادرًا على الفهم والاستنباط.
ولم يكن الإنجليز يتصورون أنه بالإمكان أن يجدوا الملك خاضعًا تمامًا لهم فهو كبشر ذي كرامة كان لا بد له أن يحظى بقبول جماهيري ما وأن يصبح محبوبًا من الشعب بدرجة أو أخرى، وهكذا أصبح هذا التوازن بين الشعب والملك والاحتلال بمثابة ضابط الإيقاع في الحياة السياسية في ذلك العصر، وامتد كذلك إلى عهد الملك فاروق.
ومن المؤسف أننا نستطيع الآن أن نقول إن النظم العسكرية وعلى رأسها نظام الرئيس جمال عبد الناصر كانت تتيح للاستعمار مساحة من قهر الشعب تزيد كثيرًا عن المساحة التي كانت متاحة على يد الملك فؤاد الذي لا نزال نظن صدق التصوير القائل أنه كان لا يحيد عن أمر الإنجليز، بينما كان هذا الملك يعطي للشعب والقوى الشعبية والأحزاب وفي مقدمتها الوفد عمومًا أكثر بكثير مما أصبح عبد الناصر وخلفاؤه يعطونه لهذه القوى.
ولهذا السبب فإنك تستطيع أن تجد في عهد الملك فؤاد زعامات للأغلبية والمعارضة لم تجدها ولن تجدها في ظل حكم العسكر، وهو المعنى الذي يعبر عنه المواطن العادي بقوله إن الزمن كان زمن باشاوات أي زمن طبقة قادرة على أن تستحوذ لنفسها على مساحة كبيرة من حركة سياسية تجعلها قادرة على أن تمارس الحكم وتعود لممارسته وذلك على خلاف ما أصبح موجودًا في حكم العسكر من حكم أهل الثقة وأهل الخبرة وانحصار الأمر في رغبة عبد الناصر وحده فحسب و من دون حسبان لنتيجة انتخابات أو لحركيات أجيال أو لتغير أذواق الجماهير تجاه الزعامات المتاحة.
وفي عهد الملك فؤاد مارس سعد زغلول والنحاس من بعده زعامة الأغلبية باقتدار جعلهما ينالان حتى الآن لقب زعامة الأمة بلا منازع. لكن الأمر اتسع ليشمل إلى جوارهما زعيمين للأقلية وصلا إلى رئاسة الوزارة في عهد الملك فؤاد وباختياره هو مع أنهما كان قد صعدا في داخل الحركة الوطنية والوفد بالتحديد وتوقفا عن الصعود فيها بسبب تفضيلهما لطبقة الأقلية وهما إسماعيل صدقي ومحمد محمود باشا. ولحق بهاذين الزعيمين في نهاية عهد الملك فؤاد زعيم ثالث كانت له نفس خصائصهما وإن لم يعول على حزب خاص به، وهو على ماهر باشا.
وإلى جوار هؤلاء الخمسة كانت هناك نجوم صاعدة منذ عهد الخديو عباس حلمي استطاعت أن تحافظ على المكانة السياسية المتقدمة في عهد الملك فؤاد ومن هؤلاء اثنان من رؤساء وزراء عهد الخديو عباس توليا رئاسة الوزارة في عهد فؤاد أيضًا، وهذان هما آخر رئيسين للوزارة في عهد الخديو عباس حلمي وهما حسين رشدي باشا ومحمد سعيد باشا، وكلاهما من باب المصادفة ولد عام 1863 وتوفي 1928.
كذلك هناك من رؤساء الوزارة شخصيتان مهمتان إلى أقصى درجة من الأهمية كانا قد توليا الوزارة في نهاية عهد الخديوي عباس حلمي (1914) ثم وصلا إلى رئاسة الوزارة في عهد الملك فؤاد وكان وصولهما إلى هذه الرئاسة بمثابة المعادل الموضوعي لسعد زغلول وقيادة الحركة الوطنية. ومن الطريف أن هذين الرئيسين كانا صديقين وكانا يتعاقبان على رئاسة الوزارة فيخلف ثانيهما الأول في المرتين الأوليين بينما لا يخلفه في المرة الثالثة بسبب الوفاة. هذان هما عدلي باشا يكن، وعبد الخالق باشا ثروت، وعلى حين سميت وزارة الأول الأولى (مارس 1921) بوزارة الثقة فإن وزارة الثاني الأولى (مارس 1922) أعقبت حصوله في اليوم السابق لها على تصريح 28 فبراير 1922 الشهير.
وفي المرة الثانية التي تولى فيها الرجلان رئاسة الوزارة على التعاقب؛ فإنهما جاء بإرادة الوفد وإرادة سعد زغلول بعد أن نجحت الأحزاب في الائتلاف الكبير في 1926 وبمقتضاه تولى سعد زغلول رئاسة البرلمان وتولى عدلي رئاسة الوزارة (يونيو 1926) إلى أن أصابه الضجر المفاجئ من روح تربص النواب الشبان وصمم على الاستقالة وخلفه ثروت باشا (مارس 1927)، وعلى حين كان عدلي باشا قد تدرج في صعوده منذ كان سكرتيرًا لنوبار باشا في مقتبل حياته الوظيفية؛ فإن عبد الخالق ثروت كان قد مارس الوظائف القضائية حتى أعجب به سعد زغلول نفسه وهو وزير للعدل فرشحه في شبابه ليشغل منصب النائب العمومي متخطيا السابقين وليحقق نجاحه المعهود والمتوالي فيما بعد ذلك.
أما المرة الثالثة التي ترأس فيها عدلي يكن الوزارة ولم يعقبه ثروت لأنه كان قد توفي، فهي تلك المرة في أكتوبر 1929 في نهاية عهد محمد محمود حين جاء لمهمة محددة هي إجراء الانتخابات الكفيلة بإنهاء ديكتاتورية محمد محمود وعودة الوفد والنحاس باشا للحكم في مطلع 1930. هكذا يمكن لنا تلخيص الزعامات التي تولت رئاسة الحكومة مع الملك فؤاد على نحو بسيط بأنها:
– زعامتان متواليتان للأغلبية الوفدية:
*سعد زغلول (1924).
* والنحاس باشا (1928) (1930).
زعامتان توليتا رئاسة الوزارة في عهد عباس حلمي وعادت لتوليها في عهده:
* محمد سعيد باشا.
* حسين رشدي باشا.
زعامتان للأقلية المناوئة للوفد:
* محمد محمود.
* إسماعيل صدقي.
زعامتان مخففتان من القبول الشعبي الجارف للزعيم سعد زغلول:
* عدلي يكن 1922، 1926، 1929.
* عبد الخالق ثروت 1922، 1927.
بالإضافة إلى هذه النوعيات الأربعة التي لخصناها على نحو موح فقد جاءت اختيارات أخرى للملك فؤاد صعد بها ستة إلى رياسة الوزارة في عهد الملك فؤاد. ومن هؤلاء الستة واحد كان وزيرا منذ ما قبل الملك فؤاد ثم أصبح رئيسا للوزارة في عهده وهو يوسف وهبة باشا الذي أصبح وزيرًا في 1914، ثم ترأس الوزارة في نوفمبر 1919. وخمسة من الساسة وصلوا في عهده إلى الوزارة أولًا ثم إلى رئاسة الوزارة ثانيًا، وهؤلاء الباشوات الخمسة هم:
* محمد توفيق نسيم
* أحمد زيور باشا
* يحيى إبراهيم باشا
* عبد الفتاح باشا يحيى
* على ماهر باشا
ومع اختلاف مشارب وطباع هؤلاء الذين وصلوا لرئاسة الوزارة فإنك تجد القاسم الأعظم في شخصياتهم هو النزاهة المطلقة مثل حالتي زيور باشا ويحيى إبراهيم الذي لم يجد مانعًا من أن يخسر الانتخابات فيكون أول وآخر رئيس للوزارة يخسر الانتخابات، وقد كان الرجلان معروفين بهذه النزاهة فيما تولياه من المناصب، أما توفيق نسيم فكان في دراسته ومناصبه الأولى صنوًا لثروت باشا وصدقي باشا لكنه كان أكثر منهما هدوءا وصبرًا.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة لقراءة التدوينة من موقع مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا