قابلني اثنان من الأصدقاء المهنيين الملتزمين غير الأزهريين وقالا إنهما انتهيا لتوهما من قراءة كتابي “الضخم” عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأعجبهما ما لم يتصوراه بهذه الدرجة من أن الرجل كان متعدد الزوايا في رؤيته ونشاطه، وأنني في رأيهما أحسنت صنعا حين تناولت زواياه المختلفة بطرق مختلفة في أبواب مختلفة، لكنهما يطلبان مني أن أقدم لهما في نقط محددة رؤيته للإسلام نفسه كدين قادر على التحدي في العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين. ومع صعوبة طلبهما هذا فإني إيمانا بذكاء الطلب وإلحاحية الحاجة إليه سأحاول تلخيص بعض المقاربات التي تفوق بها الأستاذ الامام على سابقيه وسبق إليها لاحقيه.
كان الأستاذ الإمام محمد عبده في شرحه لأصول الإسلام ينبه إلي ما امتازت به هذه الأصول في تكوين شخصية المسلم الآخذ بها، حتي إنه كان يلفت النظر إلي أن الأخذ بأصول إسلام علي حقيقتها يصل بتفكيره إلي ما لا يصل إليه الفيلسوف، وهو يدلل علي هذه الرؤية بأسانيد فلسفية ومنطقية تراعي كل الأصول التي يلتزم بها الفلاسفة والمناطقة في بناء أحكامهم، وكأني بمحمد عبده في عرضه لأصول الإسلام كان يباهي بها علي أهل الفلسفة المتحيزين لها، والآخذين بناصيتها، والمعتمدين علي أصولها في تفكيرهم وأحكامهم، وكأني بمحمد عبده في حديثه عن أصول الإسلام قد صاغه وكأنه حديث وجه إلي الفلاسفة قبل غيرهم، بل ربما إلي الفلاسفة وحدهم.
ويظهر لنا مما يقدمه الأستاذ الإمام محمد عبده في هذه الأصول أن صياغته كانت حريصة على ترجمة الفكر الإسلامي بألفاظ فلسفية دقيقة من دون أن يفقد الفكر الإسلامي جوهره، أو بعبارة أخري فإنه يقدم الفكر الإسلامي بألفاظ الفلاسفة ومصطلحاتهم، وإن كان قد تمكن من تطويع هذه المصطلحات والمفاهيم في أبسط الألفاظ الفلسفية وأكثرها دلالة على المعني المراد تناوله. ولعل في حديث الأستاذ الإمام محمد عبده عن الأصل الأول من أصول الإسلام ما يدل على هذه المعاني بصورة قاطعة.
وقد نبه الأستاذ الإمام محمد عبده إلي الحديث عن قدرة الإسلام علي احتواء أبنائه والمنتمين له وعدم تعريضهم لمحنة العزل أو الإبعاد أو التكفير، وهو يوظف معرفته الواسعة بآراء فقهاء الإسلام ومفكريه في الاعتماد على النصوص الداعية إلى التسامح المطلق إلا قليلا، أو التسامح بنسبة 99% إذا استعملنا لغة الأرقام، ثم هو لا يترك الأمر من دون أن يدين بطريقة مهذبة مَنْ يصر على الكفر إصرارا مطلقا، وهو حين يدينه يذكره بما عرفته أوروبا وعانته من محاكم التفتيش.
وتحدث الأستاذ الإمام محمد عبده عن قيمة الاتعاظ والاعتبار بسنن الله في الخلق، أو ما نسميه التعلم من دروس التاريخ والطبيعة، ومع أن فكرتنا عن مثل هذا الخلق تجعله أقرب ما يكون إلى أن يعد من أركان الحكمة فإننا نري محمد عبده يصوره على أنه أصل من أصول الإسلام، وهو حين يميل إلى هذا الرأي يستند إلى ما نصت عليه آيات القرآن الكريم من أدوار مباشرة تدعو إلى هذا الاعتبار، وإلى ما لفتت النظر إليه من أن سنن الله في الكون ثابتة، وأن نظام المجتمعات البشرية يخضع لقواعد لا تتغير ولا تتبدل.
ومن الطريف أن دعوة الأستاذ الإمام محمد عبده إلي اعتبار الوعي بالتاريخ أصلا من أصول الإسلام تقترن بطريقة منطقية بدعوة أخري (وملازمة) إلى دراسة اللغة العربية وآدابها باعتبار ذلك جزءا مكملا لفهم كتاب الإسلام وهو “القرآن الكريم”، الذي جاء في لغة عربية هي لغة أعدائه الأقربين، وذلك على الرغم من أن الإسلام قد جاء لمحو الوثنية.. عربية كانت أو يونانية أو رومانية.. إلخ.
وكان الأستاذ الإمام محمد عبده حريصا على المقارنة بين المسيحيين والمسلمين من حيث عنايتهم بلغة كتابهم، وهو يقدم العذر للمسلمين فيما فعلوه من هجران لسان المسيح عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام بسبب كراهيتهم لليهود الذين كان المسيح ينطق بلسانهم، ويعظهم بلغتهم، على حين أن المسلمين ركبوا الأسفار، وأنفقوا الأعمار، وبذلوا الدرهم والدينار (على حد تعبيره) من أجل دراسة اللغة العربية، وفهم كتاب الله المنزل.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا