تاريخ النشر : 2004/1/12
حياة الدكتور محمد الجوادى سلسلة من المفارقات. فقد توقع له الكثيرون أن يتخلف عن أقرانه، لتعثره فى النطق. لكنه فى الثانوية العامة فاز بجائزة أحسن قارىء للقرآن على مستوى القطر المصرى. وبدلا من الدراسة الأدبية التى تتفق مع ميوله، درس بكلية الطب ليصبح فيما بعد أستاذ القلب بكلية طب جامعة الزقازيق، ثم تم اختياره عضوا بـ "مجمع الخالدين" ليصبح أصغر أعضاءه سنا. مراسلنا فى القاهرة أشرف محمود التقى الدكتور الجوادى وأحرى معه الحوار التالى:
فلسطين: د. محمد، أنت أستاذ للقلب فى كلية الطب بجامعة الزقازيق فكيف بدأت علاقتك باللغة العربية؟
د.الجوادى: يرجع الفضل الأول فى هذا المقام إلى والدى الذى كان يعمل موجها للغة العربية. ومنذ أيام سنى الأولى، وأنا أعشق القراءة، بالرغم من أننى كنت متعثرا فى البداية فى نطق الكلمات.
فلسطين: كيف؟
د.الجوادى: كنت أتعثر فى نطق الكلمات بصورة صحيحة لدرجة أن أخى الأصغر سبقنى فى التحدث بصوة سليمة. وبدأ أهلى وأقاربى فى الشك فى أننى ربما أكون متخلفا بصورة أو بأخرى. ولكننى سرعان ما تجاوزت تلك المحنة عند التحاقى بالدراسة الإبتدائية، وبل وأصبحت متفوقا فى دراستى. والحمد لله استمر ذلك التفوق والعشق للغة العربية ولقراءة كتب التاريخ والسيرة والتراجم. كما أننى كنت مهتما جدا بقراءة الأدب العالمى، وكتب التراث، وكنت ألتهم كل ما تقع عليه عيناى من كتب. إلى جانب ذلك كنت أجتهد فى حفظ القرآن الكريم لدرجة أننى حصلت على جائزة التفوق كأحسن قارىء على مستوى طلاب الثانوية العامة التى تنظمها وزارة التربية والتعليم المصرية سنويا.
فلسطين: يتضح من مسار قراءاتك اهتمامك بالجانب الأدبى، فكيف تحولت لدراسة الطب؟
د.الجوادى: المسألة لم تكن مسألة ما قرأته فى الماضى، لكى يؤثر على اختياراتى المستقبلية. فقد كنت أتمنى دراسة الطب لأنه مهنة إنسانية بالدرجة الأولى، وهذا هو ما يجمع بين الطب وبين اهتماماتى بالدراسات الإنسانية. ففى كل الأحوال يوجد بداخلى الهم الإنسانى العام الذى دفعنى لدراسة الطب، والتخصص فى طب القلب، والحصول على البكالوريوس بدرجة جيد جدا. وهكذا، كان من الضرورى أن اثبت لنفسى وللعالم اننى أستطيع أن أحقق ما أتمناه، وأننى أمتلك القدرة على الجمع بين عشق الهواية وعشق المهنة. فليس صحيح ما يدعيه البعض عن التضحية بالهواية من أجل المهنة أو التضحية بالمهنة من أجل الهواية. المهم.. أننى التحقت بسلك التعليم الجامعى، وواصلت دراستى حتى حصلت على درجة الدكتوراه.
فلسطين: حسنا، وكيف أصبح دكتور القلب عضوا بمجمع الخالدين، وهو المعروف بأنه من أهم المؤسسات التى تعمل على الحفاظ على اللغة العربية ورعايتها، وتطويرها؟
د.الجوادى: العلاقة الحقيقية بينى وبين "مجمع الخالدين" بدأت مبكرا عن ما يتوقعه البعض. فقد بدأت خلال دراستى الجامعية. فى تلك الأيام نظم المجمع مسابقة عن المرحوم الدكتور محمد كامل حسين، عضو المجمع المتوفى عام 1977. وقد اشتركت فى تلك المسابقة ببحث كان عنوانه "د. محمد كامل حسين عالما، ومفكرا، وأديبا". وبالفعل فاز البحث بالجائزة الأولى. ووقتها، كان الأستاذ الدكتور شوقى ضيف أحد أعضاء لجنة تحكيم المسابقة. وتحمست بعد هذا الفوز للاجتهاد أكثر، والتمسك بالأدب. وقمت بإعداد كتاب عن سيرة حياة الأستاذ الدكتور مصطفى مشرفة عالم الذرة المصرى، وكان عنوان الكتاب: "مشرفة بين الذرة والذروة". وحصلت بهذا الكتاب على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب. وكان عمرى وقت تأليف ذلك الكتاب 26 عاما. وكان ذلك الكتاب بداية لسلسلة من كتب السيرة التى نشرتها.
فلسطين: لماذا اتجهت لكتابة السير والتراجم؟
د.الجوادى: كان لتشجيع الكاتب الصحفى الكبير المرحوم الأستاذ مصطفى أمين أكبر الأثر فى حياتى. فعندما قرأ كتابى عن د. مشرفة، قال لى: "عندما يكتب عالم عن عالم مثله فهذا طبيعى، أما ان يكتب شاب من الجيل الجديد عن أحد الرواد فهذا وفاء منه". كما لقيت تشجيعا كبيرا من الشاعر الكبير المرحوم الأستاذ صلاح عبد الصبور. وعلى المستوى الشخصى فأنا أعتبر كتابة السير والتراجم بمثابة حلقة وصل بين الأدب والتاريخ. وأنا عاشق للإثنين.
فلسطين: هل هذا العشق للتاريخ هو السبب الأساسى فى اختيارك عضوا بالمجمع عن مقعد التاريخ؟
د.الجوادى: لا أعتقد أن مجرد اهتمامى بالتاريخ يعتبر عنصرا حاسما فى عملية اختيارى عضوا بالمجمع. وربما كان العنصر الأهم الذى أدى لهذا الاختيار هو غزارة إنتاجى، وتنوعه فى عدة مجالات. فإضافة لعشرات الكتب فى مجال التأريخ والسير، والتراجم، قمت بترجمة قاموس نوبل الطبى، واجتهدت فى وضع مقابلات عربية لحوالى 60 ألف مصطلح طبى. كما أننى كتبت فى أدب الرحلات، وأعددت موسوعة عن قادة الشرطة المصرية، وأرخت للوزارات المصرية، وللحكومات المتعاقبة منذ ثورة يوليه 1952. ولى ما يقارب الثلاثين كتابا فى مجال التراجم ونقد التراجم.
فلسطين: وأنت تخطو فى أوائل الأربعينيات من عمرك.. ما الذى تطمح لعمله فى مجمع اللغة العربية؟
د.الجوادى: أفكر أولا فى وضع قاموس لتحديد كيفية كتابة الأسماء العربية باللغات الأجنبية. فعلى سبيل المثال لو نظرنا لإسم محمد لوجدنا طريقة كتابته تختلف من شخص لآخر. البعض يكتبونه Mohamed، والبعض Mohamad، والبعض Mohammed، وهكذا. وبالتالى يجب أن نضع حدا لهذا الإشتباك. وإن شاء الله، لو تمكنت من تنفيذ هذه الفكرة سوف أسعى بعدها لتوحيد مصطلحات العلوم، وسوف أبدأ بتوحيد مصطلحات علم التاريخ. وبعدها مصطلحات العلوم السياسية، ثم اسماء الأسلحة، وهكذا.
فلسطين: كلنا يعرف أن أهم وظيفة لـ "مجمع الخالدين" أو ما نسميه ايضا "مجمع اللغة العربية" هى الحفاظ على اللغة العربية. ولكن هل هناك نفس الاهتمام بتطوير هذه اللغة، ودعم انتشارها على مستوى العالم كلغة كونية، على غرار الإنجليزية مثلا؟
د.الجوادى: هذا حلم كبير، وهدف أتمنى تحقيقه، وهو أحد أكبر طموحاتى. وفى سبيل تحقيق ولو جزء يسير من هذا الحلم، فسوف أسعى إن شاء الله لوضع ثلاثة برامج لتعليم اللغة العربية الأول للأجانب، والثانى للعرب، والثالث للمتخصصين، لتيسير استخدامهم للمصطلحات، وجعلها ذات طبيعة عالمية دون الإخلال بمعانيها.
فلسطين: نعانى فى اللغة العربية وضعا ماساويا يا دكتور جوادى.. نحن نتحدث بلغة، ولكننا نكتب بلغة أخرى تماما..
د.الجوادى: نحن فى هذا الوضع أفضل من غيرنا بكثير. ويكفى أن أذكر لك حقيقة أن الإنجليزى الذى يعيش اليوم لا يستطيع أن يفهم كتابا مكتوبا باللغة الإنجليزية تمت كتابته قبل أربعة قرون. بينما أنت تتحدث نفس اللغة تقريبا مع بعض التغييرات الطفيفة منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا، وهو ما حدث بفضل القرآن الكريم بالطبع. نحن فى هذا المجال أفضل من غيرنا ولا شك فى ذلك.
نبذة عن مجمع الخالدين:
فى عهد الملك فؤاد، نشأ "مجمع اللغة العربية" المعروف ب "مجمع الخالدين" سنة 1932. ويتم اختيار أعضاء المجمع عن طريق الاقتراع. ولا يسمح نظام المجمع لأحد أن يرشح نفسه للعضوية، بل لابد من تزكية عضوين من المجمع لأى مرشح قبل طرح اسمة للتصويت. ويجب أن يحصل المرشح على أكثر من نصف أصوات أعضاء المجلس الحاضرين والغائبين. وسمى "مجمع الخالدين" بهذا الاسم لأن عضويتة دائمة، لا يمكن اسقاطها عن صاحبها لأى سبب من الأسباب. ولا يخلو المقعد إلا بوفاة شاغله.
كتبه : أشرف شهاب