من أروع ما يمكن عند الحديث عن حظ الدكتور فؤاد محيي الدين في الحياة والممات أن نشير إلى أن أبلغ ما قيل في رثائه كان مقالا لرئيس نادي القضاة الأشهر؛ المستشار محمد وجدي عبد الصمد، الذي تولى أيضا منصب رئيس محكمة النقض (بالأقدمية المطلقة) والذي كان من المعدودين دوما ضمن أكبر معارضي الحكومة، وفي هذا الرثاء كثير من حقائق التاريخ المصري السياسي والقضائي على حد سواء، فضلا عما فيه من حب غامر لفؤاد محيي الدين.
أشار المستشار محمد وجدي عبد الصمد إلى حداثة عهد معرفته بفؤاد محيي الدين: “لم أحظ بمقابلة المرحوم فؤاد محيي الدين قبل الحادي عشر من أكتوبر١٩٨٠، وكان وقتذاك النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وكنت قد دعوته بصفتي رئيسا لمجلس إدارة نادي القضاة، مع آخرين من كبار رجال الدولة، ليشهدوا احتفال القضاة في ناديهم بِعيد القضاء، واقتصرت تلك المقابلة على الترحيب به ولقاء لم يدم إلا دقائق معدودات، بحضور المغفور له الرئيس محمد أنور السادات، قبل بدء الاحتفال”.
“ثم قابلته في مكتبه عام 1982 وهو رئيس لمجلس الوزراء، فقد أصبح أحد القلائل من المدنيين الذين رأسوا الوزارة بعد ثورة يوليو، وأول سياسي يرأسها بعد أن درجت الثورة على اختيار رؤساء الوزراء من العسكريين، أو الأكاديميين والتكنوقراطيين.
قال الرئيس مبارك عن فؤاد محي الدين “كان يعمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، ولما استغرق لقائي به ذات مرة أكثر من ساعة ونصف ساعة، قلت هذا رجل يصلح للقضاء لأنه يحسن الاستماع”
ويشهد المستشار محمد وجدي عبد الصمد لفؤاد محيي الدين بعدد من الصفات النبيلة والذكية فيقول: “تكررت بعد ذلك المقابلات في مكتبه برياسة مجلس الوزراء، لأعرض عليه ما يطرأ من مطالب القضاة، وأشهد أنه لم يرفض لهم مطلبا واحدا، وهو ما شجعني على أن أفاتحه في عودة مجلس القضاء الأعلى الذي ألغي عام 1969، وكان القضاة يلحون على عودته دون جدوى، وقد أدرك من فوره، بحكم دربته السياسية، أن إجابة ذلك المطلب، هو رصيد ضخم له ولحكومته، فاستجاب من فوره، وكان أن دعوته في نادي القضاة حيث اجتمع بأعضاء مجلس الإدارة، الذين حمدوا له تقديره للقضاء والقضاة”.
“قال عنه الرئيس حسني مبارك إنه كان يعمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، ولما استغرق لقائي به ذات مرة في مكتبه أكثر من ساعة ونصف ساعة، وتركته بعد الثالثة مساء ليقابل آخرين، قلت في نفسي، ولزملائي من أعضاء مجلس الإدارة فيما بعد، هذا رجل يصلح للقضاء لأنه يحسن الاستماع، ويحتشد بكل جوارحه لاستيعاب ما يسمع، بذهن متوقد الذكاء، وعبقرية وموهبة وحسم للأمور”.
ويذكر المستشار محمد وجدي عبد الصمد أنه أشار إلى فضل الدكتور فؤاد محيي الدين فيما كتبه عن عودة مجلس القضاء الأعلى وتحصين رجال النيابة العامة: “وجدتني كتبت بعد وفاته، في مجلة القضاة، وبعد صدور القانون الذي أعاد مجلس القضاء الأعلى، وأسبغ الحصانة على رجال النيابة العامة”.
عندما وصل فؤاد محيي الدين إلى قمة العمل التنفيذي وصل إلى قمة العطاء، ومن خلال خطة عملية مدروسة، توازن بين الآمال والإمكانيات، وتحسن الانتفاع بكل ما هو متاح توالت الإنجازات
“وما أن عدت إلى نادي القضاة حتي اتصل بي ليخبرني بأن الموعد تحدد ظهر اليوم التالي، وحين التقيت وزملائي أعضاء مجلس الإدارة بالرئيس حسني مبارك، حضر هو اللقاء، وأحسست أنه يشعر بسعادة غامرة، وقد ظهرت صورته وهو يبتسم”.
“ولعلها كانت من المرات القلائل التي ابتسم فيها، ولعلها كانت المرة الأخيرة أيضا، في غمرة الأحداث والمهام الجسام التي كانت تلح على ثمين وقته”.
ويبلور المستشار محمد وجدي عبد الصمد ما أنجزه الدكتور فؤاد محيي الدين للقضاء المصري فيقول: “إن التاريخ سيذكر للدكتور فؤاد محيي الدين، ولحكومته، أنه أعاد للقضاء استقلاله، وأسبغ على القضاء حصانة حقيقية حين وافق على مد الحصانة إلى رجال النيابة العامة حتى طالت النائب العام نفسه، وهو مالا مثيل له في مختلف الأنظمة القضائية في العالم”.
“وعندما وصل فؤاد محيي الدين إلى قمة العمل التنفيذي وصل إلى قمة العطاء، ومن خلال خطة عملية مدروسة، توازن بين الآمال والإمكانيات، وتحسن الانتفاع بكل ما هو متاح، توالت الإنجازات في مختلف المجالات، فكان الالتزام بالديمقراطية منهجا”.
ويذكر المستشار محمد وجدي عبد الصمد بالأسى آخر لقاء له بالدكتور فؤاد محيي الدين: “أخبرني رحمه الله، بعد إبلاله من مرضه الأخير، وفي آخر لقاء معه، وكان قد نحل جسمه فوق نحوله، واتسعت عليه ملابسه، أنه بسبيل كتابته مذكراته، وأن قانون السلطة القضائية سيحتل جانبا كبيرا منها، ونظرت له بإشفاق ولم أعقّب، ولما نعاه الناعي ذات صباح، نعيته باسم قضاة مصر في صحيفة الأهرام، ولما سرت في جنازته، خلف الجثمان، وجدتني أجهش بهذه الأبيات:
دع مقلتي تبكي عليك بأربع
إن البكاء شفاء قلب الموجع
ودع الدموع تكف جفني في النوى
من غاب عنه فؤاده لم يهجع
ولقد بكيت عليك حتي رق لي
من كان فيك يلومني، وبكى معي
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا