من المتفق عليه، بلا جدل كثير، أن علي صبري كان رجل السوفييت “رقم 1” في مصر عند نهاية عهد عبد الناصر وبداية عهد السادات. ربما يسبقه في القنوات المخابراتية السرية آخرون من طراز سامي شرف أو هيكل، لكن الطريف أنه كان يُعتقد كذلك أنه رجل أمريكا في بداية الثورة. إذا قرأنا هاتين الحقيقتين معا، أدركنا معنى القول المعبر الذي أطلقه الأستاذ أحمد لطفي حسونة عندما أصابه الألم يوم القبض على الأستاذ مصطفى أمين؛ حيث قال: الحمد لله أننا لا نعرف الإنجليزية وإلا كنا قد صنفنا جواسيس.
وقد استنامت روايات ثورة يوليو للذة الحديث (أو لمخرج الحديث) عن أنها طمأنت الأمريكان عن توجهاتها من خلال علي صبري وعلاقة صداقته بالملحق الجوي الأمريكي، وقد نقلت الأدبيات التاريخية مرة بعد أخرى عن هذه الفكرة، وكأن الثورة نفسها لم تكن فعلا أمريكيا. أما الأدهى والأطرف فإن علي صبري نفسه صدّق هذا وشارك في ترديده.
وقد ألقى علي صبري الضوء على اتصاله المبكر بالأمريكان قبل قيام الثورة في حديثه مع الأستاذ عبد الله إمام، المنشور في كتاب “علي صبري يتذكر”، فقال: “.. وأُرسلت قبل عام 1952 إلى بعثة في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة وسائل المخابرات في القوات المسلحة وبصفة خاصة في الطيران، بعدها عُيّنت مديرا لمخابرات الطيران.. كانت تربطني علاقة بالملحق الجوي الأمريكي، فقد درست في الولايات المتحدة، وأيضا أعمل مديرا لمخابرات الطيران، ووفقا للنظام، فإن الملحق الجوي لا يستطيع أن يجري اتصالاته إلا من خلال جهاز المخابرات”.
تبعا لعلي صبري: الفكر الاشتراكي هو محصلة اتجاه فكري عام، مع نظرة عامة تنشأ مع الشخص منذ الصغر، وليست وليدة توقيت زمني معين أو قراءة كتاب واحد.
“وقد أدى ذلك إلى استمرار الاتصالات، ونشأت علاقة شخصية معه ومع الملحقين في السفارات الأخرى.. وقد اتصل بي الملحق الجوي الأمريكي قبل قيام الثورة بأيام قليلة، وأبلغني أن معلوماتهم تقول إن هناك حركة في الجيش.. وأكد لي أن هذه المعلومات صحيحة.. وقد حرصت أن أنفي له ما لديهم من معلومات رغم علمي بصحتها، وأقنعته أن الأمر لا يتعدى بقايا معركة انتخابات نادي الضباط..”.
ثم يقارب علي صبري الموضوع من زاوية أخرى، جعلته حسب روايته يُبلغ عبد اللطيف البغدادي أن الأمريكيين عرفوا بتحركات الثورة، وأن السفير الأمريكي سيبلغ صديقه الملك فاروق بها؛ “ولأنني أعرف جيدا العلاقة الوثيقة التي كانت تربط السفير الأمريكي جفرسون كافري بالملك فاروق، فقد كنت واثقا أن السفارة الأمريكية قد وضعت هذه المعلومات أمام الملك.. واتصلت بالبغدادي، وأبلغته أن المعلومات تسربت إلى الأمريكان، وبالتالي إلى السراي الملكية. وكان من الطبيعي في ليلة (23 يوليو) أن الرسالة التي يراد أن تبلغ إلى السفارة الأمريكية، تبلغ من خلالي بحكم العلاقة الشخصية مع الملحق الجوي الأمريكي.. وقد اتصل بي البغدادي ليلة الثورة، واستدعيت إلى القيادة، وقابلت جمال عبد الناصر”.
– كان هذا أول لقاء بينك وبين جمال عبد الناصر..؟
– نعم.. كانت هذه أول مقابلة شخصية مع جمال عبد الناصر، لكني طبعا كنت أعرف نشاطه..
– ماذا حدث في هذا اللقاء الأول بالضبط؟
– أبلغني نصَّ الرسالة الشفوية التي من المفروض أن أبلغها للملحق الجوي الأمريكي.
من الطريف أن عبد الله إمام سأل علي صبري في موضوع مقارب لهذا الموضوع:
– هل كنت معاديا للأمريكان؟
– بالعكس.. كنت صديقا لهم..
– هل كان لديك فكر اشتراكي في تلك المرحلة؟
– من الصعب أن يحدد الانسان متى بدأ فكرة الاشتراكي، فالفكر الاشتراكي هو محصلة اتجاه فكري عام، مع نظرة عامة تنشأ مع الشخص منذ الصغر، وليست وليدة توقيت زمني معين، أو قراءة كتاب واحد..
– رغم الانتماء الطبقي؟
– طبعا.. رغم الانتماء الطبقي، فهي نظرة منذ الشباب والطفولة تبتعد عن الذاتية والتطلع إلى الطبقات العليا، وإنما ينظر الشخص إلى المحرومين وأنهم أولى من القادرين بالرعاية.. وأن يسود المجتمع العدالة، ومع النمو والقراءة والتعليم والاحتكاك بالحياة، يبدأ الانسان يفكر، ويبحث عن النظريات التي تحل المشكلة وتحقق العدالة.. وكذلك النظرة إلى الوطن.. إلخ.
في نهاية هذه التدوينة، لن أعلق على كل هذا إلا بشيء واحد، وهو أن لك أن تتخيل أنور السادات كان هو مدير مخابرات الطيران بدلا من علي صبري، وحدثت هذه الوقائع معه، وكيف تكون روايته لها.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا