يتعجب كثير من عامة الناس من موقف بعض السياسيين الذين يرفضون الديمقراطية إذا جاءت بالإسلاميين بينما يتغزلون بها إذا لم تأت بهم، ويزداد هيامهم بها إذا هي نجحت في إفقادهم مواقع أو إقصائهم عن مقاعد كانت بحوزتهم من انتخابات سابقة.
هذا هو جوهر المفارقة ببساطة شديدة.
وقد أصبح هذا الموقف المتناقض من كثرة تكراره هنا وهناك بمثابة “عادة متعودة ” تكاد ترقى لصورة الحقيقة الثابتة لولا أن الحقائق بطبعها المنطقي والفلسفي لا ترحب بـ”اندراج” الافتراءات معها، وإنما تفرد لها فضاء خاصا تحت مسمى “الممارسات السائدة”، وهو مسمى مختلف بالطبع عن مسمى “الأكاذيب الثابتة”.
ولما كان المغرمون بالتنظير والتأصيل مضطرين إلى الهروب من المأزقين الفكري والمنطقي اللذين يتولدان من إصرارهم على مواجهة ومعاداة الحقيقة بالالتفاف المبرر حولها فقد أرهق كثير من هؤلاء أنفسهم حتى وصلوا إلى بعض الملاذات الاصطناعية: وأشهرها ما ذهب بعضهم إليه من قول جذاب لكنه غير قابل للحياة وهو القول السائد عند من انخدعوا بالعسكر وانحبسوا في خندقه، معبرا به عن افتراض شاذ يعلى من سطوة العلمانية في ممارسات النظم السياسية لتكون فوق الديمقراطية.
وهكذا أصبحت الديمقراطية في نظر هؤلاء خادما مطيعا ومذعنا للعلمانية وإلا فلا، أو بمفهوم آخر أصبحت الديمقراطية مجرد وسيلة لتوصيل العلمانية أو العلمانيين للسلطة فحسب؛ ومع أن “ألفباء” العلوم السياسة وممارساتها لا تسمح بهذا الشطط المغرض فإنهم يحتالون لتمريره وتسويغه بأقوال من قبيل: نحن نريد دولة علمانية.ويردفون مثل هذا القول مباشرة باسم المذيع أو المذيعة (يا..فلانة أو يا فلان) وفلان هنا كما أشرنا هو مذيع أو مذيعة متواطئ مع الفكرة على غير أساس، ولهذا يذكره المتفلسف أو صاحب الغرض أو المرض التواطؤ لأن مثل هذا التقرير لا يستقيم في المطلق وإنما يتطلب التوافق على التواطؤ من أجل تمرير ما لا يجوز.
وبالطبع تتعدد شخصيات المذيع أو المذيعة التي تمرر مثل هذه الجملة من دون أن تسأل السؤال السياسي والديمقراطي الجوهري الذي يقول: حتى لو أن أغلب الشعب لا يريد هذه الدولة التي تفصلونها على مقاسكم لتعادوا بها الفكرة الإسلامية المستولية على وجدان الشعب وضميره؟
بيد أن هذا المخرج “البهلواني” أو الملاذ الاصطناعي المعتمد على ترديد ببغائي لعبارة “نريد دولة علمانية” لم يراوح مكانه في مواجهة المأزق الحقيقي الذي فرض نفسه على الذين يريدون أن ينالوا من السياسة وجاهتها وسطوتها دون سعي للجماهير، وتفهم لحق الجماهير، ولخبرة هذه الجماهير بقضاياها، وفضلا عن هذا فإنهم يثبتون على أنفسهم أنهم يريدون من السياسة وجاهتها بدون أي جهد لتحقيق (ولو جزئي) لرغبات الشعب المعنوية والمادية على حد سواء.
تمادى هذا التوجه المتغلغل باستخفاف في بعض منابر الرأي التلفزيونية و”الفضائياتية” دون أن يجد من يتصدى له أو يوقفه عند حدود العقل؛ وقد رأى بعض الذين يعرفون الحقيقة أن إهمال الجدل مع هذا التوجه هو الأولى، بينما رأى آخرون أن النقاش في حد ذاته قد يعطي لهذا التيار الشاذ شرعية أو اعترافا، بينما رأت جماعة ثالثة أنه من المفيد براغماتيا ترك مثل هؤلاء يشاغبون على الإسلاميين بهذا اللغط.وهو موقف مؤسف وإن كان مسموحا به ومتعارفا عليه في ديناميات الصراعات المشابهة.
لكن الأمر الذي أصبح يمثل خطورة مستقبلية على الوعي السياسي للنخبة نفسها -ولمن هم قادمون أو مشرفون على الانضمام للنخبة) هو وصول الأمر (في كثير من الحالات) ببعض رموز التيار المعادي للهوية الإسلامية إلى ارتكاب متناقضات ناسفة لمصداقيته، وقد تعددت هذه المتناقضات لتشمل على سبيل المثال:
– توظيف الكنيسة القبطية في السياسة بدرجة كثيفة وملحة بما يكرس فكرة العامة عن أن العلمانية ليست إلا العداء للإسلام، وهي نتيجة خطرة لم يأبه لها معادو الإسلام هؤلاء؛ لأنهم لا يمانعون في أن يحرقوا الأخضر واليابس سترا لفشلهم.
– إذلال الأزهر في شخص قياداته وعلمائه، وتتبيع رأيه لرأي السلطة الغاشمة في ارتداء ثوب الباطل المقيت والدفاع الغبي عنه بما يهز مصداقيته لعشرات السنوات.
– السعي لمسخ الهوية المجتمعية من خلال قرارات تستهدف توهين المظاهر اليومية للحياة الروحية من قبيل إغلاق المساجد ومنع الأذان وقتل الحياء وإشاعة الفاحشة ومحاربة الحجاب ومناكفة النقاب والتنغيص على الملتحين.
– العمل المحموم على هز العقائد الإسلامية تحت مسمى الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني.
– المسارعة إلى توثيق العلاقات السياسية مع أي نظام معاد للإسلام ونفض اليد من أية علاقات حيوية بأية دولة تحترم المسلمين.
وفي اتجاه آخر أكثر انحيازا ضد الديمقراطية نفسها وأكثر بعدا عن المنطق الحاكم للصراع السياسي فإن هؤلاء الذين يعادون الديمقراطية كراهية في منتوجها الإسلامي لم يمانعوا في تبني آراء معادية تماما لجوهر الديمقراطية من قبيل:
– القول بعدم جاهزية الشعب للديمقراطية.
– معاودة الحديث عن حرمان بسطاء التعليم من حق التصويت بدعوى سهولة انخداعهم وقصر التصويت على حاملي الشهادات، وذلك على الرغم من معرفتهم بتدني مستوى الشهادات الدراسية، وبافتقاد العلاقة بين الوعي السياسي وهذه الشهادات الورقية .
– محاولة تعديل النظام الانتخابي بأية طريقة غير مشروعة بما يحول دون وصول الإسلاميين.
– اعتقال وخطف المرشحين الإسلاميين التقليديين قبيل الانتخابات لخلق المأزق المبكر أمامهم، وتحقيق غياب الإسلاميين من المنبع.
– التعسف في قبول ترشيح ذوي الشعبيات الطاغية بحجج واهية قد تصل إلى التحذير من فقدان الأمن والسلم العام.
– اختلاق موانع قانونية أو تنظيمية عامة تمنع استمرار رموز المرشحين الإسلاميين في كل مرحلة من مراحل العملية الانتخابية.
– اللجوء إلى التزوير والتزييف والتدخل في إرادة الجماهير بطرق مؤثمة من أجل إقصاء الإسلاميين عن حقهم الديمقراطيديمقراطي والقانوني والإنساني.
– ثم يصل الأمر إلى العسف بالعملية الديمقراطية كلها عن طريق الانقلاب العسكري والتواطؤ من أجله.
على مدى أربع أو خمس سنوات خاض المعادون للفكرة الإسلامية في مصر حربا ضروسا استخدموا فيها كل الوسائل الممكنة وغير الممكنة، المشروعة وغير المشروعة من دون أن يحققوا حدا أدنى من النجاح المشجع لهم على الاستمرار في سعيهم الدؤوب، ومع هذا فإنهم لايزالون مصممين على تجديد هذه الحرب رغم افتقادهم لمبشرات النجاح، وإن كان غيهم النفسي يصور لهم أن هناك أملا بنجاح ترهاتهم في نهاية النفق.
على أن الجانب المطمئن في مستقبل هذه الإشكالية هو أن خبرات التاريخ المعاصر تكشف لهؤلاء ولنا بما لا يقبل الجدل أن جهودهم لن تكلل بالنجاح في هذا العصر الأمثل لاستنبات الوعى وازدهار الانتماء؛ فأمامهم تجارب ناطقة بأن معاداة الإسلام والنهج الإسلامي ليست إلا حرثا في البحر:
– فها هي تركيا تعود لصدارة الشرق على الرغم من شوقها المتكرر أو الملح إلى علاقة عضوية طبيعية مع كيان الاتحاد الأوربي.
– وها هي ماليزيا تواصل تألقها الهادئ المبني على النظام المستقر بعد أن جربت ألقها الصاروخي مع الإسلامي المبدع مهاتير محمد.
– وها هي تونس تبدع في صناعة توافق أصبح مؤرقا بشدة لكل من مولوا محاولات الاستقطاب الدافعة إلى القتل على الهوية.
– وها هي نيجيريا تؤكد ذاتيتها السنية والسلمية على يد محمد بخاري رغم كل التآمر الخفي عليها.
ولا تتوقف دروس التاريخ السياسي عند هذا الحد من التنبيه، لكنها تتواصل لتنبئ المعادين للإسلام والحاقدين على صحوته، والمتخوفين من نهضته إلى حقيقة بازغة، وهي أن طبيعة العصر الذي نعيشه لن تسمح بإقصاء الإسلام حتى لو اجتمع العالم كله على هذا الهدف:
– فها هي “خراسان” القديمة أو الدول الإسلامية التي قهرها الاتحاد السوفيتي بكل ما أمكنه من افتراء الجبروت تستعيد بثقة وتدرج طريقها المعهود إلى المعبود الأعظم جل جلاله.
– وها هي ألبانيا وكوسوفو إضافة إلى البوسنة تنجو من عقبات التدمير المخطط والقتل الممنهج وتبدأ معتمدة على نفسها طرقا تنموية مهما كانت بطيئة الخطى فإنها واثقة ولا تنفى الإسلام ولا تحاربه.
– وهاهم ثوار ليبيا يواجهون بإيمانهم أشرار الغرب الذين جاءوا طامعين في ثروتها وفي إعادة استعبادها بخلف سيء لأسوأ سلف مع معزوفة غربية (وأميركية تتردد في الخلفية على غير استحياء) مثنية على قبضة القذافي، وكأن لوكربي بكل ما وصفه الغرب من إجرامها لم تكن إلا صفقة لتمرير أموال الشعب الليبي إلى الغرب تحت دعوى التعويضات.
– وهاهم السنة في لبنان يصمدون صمودا أسطوريا في وجه استفزازات مريبة وينتصرون عليها بضبط متناه للنفس.
– وهاهم أهل السنة في اليمن يواجهون التآمر بصدور عارية مؤمنة بالنصر.
– وفي إيران نفسها يكتب أهل السنة أروع ملاحم الاستشهاد من أجل الدفاع عن الحق في أقسى ظروف التجاهل المتعمد والتعاطف المفتقد.
تاريخ النشر : 11/12/2016
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا