لست من المغرمين بالمقدمات الطويلة ولا من المعولين على هذه المقدمات في إثبات صواب ما أقول ، وإن كنت أرى أهمية أن أشير إلى محتواها فيما أدعم به ما أذهب إليه من رأي ، وقد أتضح رأيي في العنوان الذي وضعته لهذا الحديث عن علاقة التورط السعودي في الانقلاب العسكري المصري بما تلاه مباشرة من تقارب غربي إيراني في الملف النووي ، ومع أن كثيرين لم يكونوا يتصورون أن تكون نتيجة هذا التورط السعودي في غربي البحر الأحمر ارتفاعاً للتهديد القادم من شرق الخليج العربي ، فاني كنت أعرف بل اجزم أن هذه نتيجة حتمية ، وكنت اعتمد في هذا التقدير على سببين بارزين يحتاجان قدراً من الخيال لفهم أبعادهما المتشعبة التي لا يمكن الإلمام بها في مثل هذه المساحة المحدودة ، لكني سأحاول ان اقترب من الامر قدر الامكان.
السبب الأول : أن أي تورط سياسي لاية دولة كبرت ام صغرت خارج الحدود ينقص من قوة الدولة ويستهلك مواردها ويسقط هيبتها امام اعدائها المتربصين ويقوي المعارضة الداخلية فيها ، وكل هذه العوامل كفيلة بأن تضعف من موقف الدولة المتدخلة أو المتورطة في اي قضية أخرى تتناولها أو تسعى إلى تحقيق انتصار أو تقدم فيها ، ومع أن مثل هذا الحكم العقلي والمنطقي واضح الحدود والمعالم ، فإن المتورطين غالباً ما يندفعون إلى التغاضي عنه في ظل اندفاعهم إلى التورط وايمانهم بحتمية هذه التورط ، وأنه هو السبيل الأمثل لتحقيق أهدافهم قصيرة المدى وطويلة المدى على حد سواء ، فضلا عن أملهم في أن يحقق التورط نتائجة سريعاً وليس من شك في حالتنا هذه أن التورط السعودي في دعم انقلاب عسكري في الشقيقة الكبرى مصر كان في رأي كثير من المواطنين السعوديين بمثابة أول خطأ ارتكبته بعض اجنحة الأسرة السعودية الحاكمة على مدى تاريخها كله ، وقد جاء غريباً عن طبيعتها ونهجها لانه جاء ليتعارض مع طبيعة الدولة التي رفعت شعار الإسلام وحافظت بكل المقومات الشكلية على هذا الشعار في كل تصرفاتها السابقة على مدى عقود من الزمان ، كما انه من ناحية اخرى (وليست اخيرة) جاء ليتعارض مع طبيعة التحفظ السياسي والاقتراب الدبلوماسي الحذر للسعودية من المشكلات الإقليمية ومن النزاعات على الحكم في الدول الشقيقة ، ولم يحدث في تاريخ الدولة السعودية كله أن أعلنت المملكة عن تورطها في تأييد اتجاه ضد اتجاه آخر منذ اول لحظة ثم على مدى الأيام والأسابيع ، وحين تورط الانقلاب نفسه في مذابح بشرية وهولوكست غير مسبوق في العالم الإسلامي فإن المواقف السعودية الرسمية لم تتراجع بالقدر الكافي حتى بعدما ارتفعت همهمات اصوات مجموعة من الأمراء والمفكرين وأعضاء مجلس الشورى والمثقفين والاعلاميين والمواطنين في ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ السعودية .
وهكذا أصبح من الواضح لكل مراقب أن جناحاً مؤثراً في نظام الحكم السعودي قد دخل مرحلة الأخطاء غير المبررة ودخل بعض الصحفيين المتحدثين باسمه الى مرحلة العناد في الباطل وهما مرحلتان كانتا تنبئان بوضوح عن أن المفاوض السعودي سيقف موقفاً ضعيفاً لا يتيح له أن يفرض على حليف مثل الولايات المتحدة ( أو الغرب عموماً ) أن يمتنع عن اي خطوة مقابلة في طريق التقارب مع إيران .
السبب الثاني : أن أي شراكة معلنة بين طرفين من الأطراف تثير بالطبيعة سيكولوجيا الحذر والتخوف عند جيران هذين الطرفين ، وتفرض على هؤلاء الجيران اللجوء إلى التدابير الاحتياطية ، وربما لا يحس الطرفان المتشاركان بأصداء مثل هذه الصورة على نحو ما يحسها الطرف الثالث المجاور لهما ، وعلى سبيل المثال الطريف و الموحي فإن حلف الأطلنطي بكل ما كان له من قوة وثقل وحضور وترسانة لم يجد حرجاً في أن يعلن بكل وضوح عن تخوفه من الوضع الجديد الذي نشأ عن وحدة مصر وسوريا في فبراير١٩٥٨ ، وقد بالغ حلف الأطلنطي في تصوير الأمر مستنداً إلى الجغرافيا المجردة التي تشير إلى صعود ديكتاتور جديد على تخوم الحلف وذلك بسبب وجود حدود مشتركة بين سوريا ( التي أصبحت جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة ) وتركيا ( التي هي عضو في حلف الأطلنطي ) .. وهكذا أصبح عبد الناصر والجيش المصري على حدود مشتركة مع حلف الأطلنطي ، ومع أن المواطن الغربي العادي لم يكن يجد في هذا الوضع الجديد أي خطورة حقيقية عليه فإن رسما كاريكارتيريا هنا أو هناك يصور عبدالناصر في ملابس الكاوبوي المقامر القديم أو في ملابس العامل الروسي المطحون وهو يتطلع عبر خط الحدود كان كفيلاً بأن يغذي الشعور بالخوف والعداء تجاه ماسمي بالجمهورية العربية المتحدة (من القاهرة)، وضرورة استغلال الظرف في اقامة دفاعات قوية في مواجهتها ، بما تستلزمه هذه الدفاعات من اتفاقات جديدة أو تحوير لاتفاقيات قديمة ، أو احياء لعلاقات خاصة تعرضت لضمور او ضعف .
وهذا اذاً (مع الفارق في اشياء كثيرة) هو جوهر ما حدث مع إيران التي وجدت السعودية تتخطى البحر الأحمر لتضم إليها ماتصورة الدعايات جيشاً كبيراً في مصر أو بالأحرى التي وجدت الجيش المصري يتخطى البحر الأحمر ليضم الى مناطق نفوذه او حمايته او طموحه !! موارد هائلة ومساحات شاسعة في السعودية ، وهكذا باتت إيران في حالة اقرب الى ان تكون حالة تفكير في كل ما من شأنه أن يدعم موقفها في اتجاه التصادم المحتمل !! ومن العجيب والطريف معاً أن إيران لم تفكر في البديل كثيراً وإنما وجدت هذا البديل يطرق بابها على يد أمريكيين براجماتيين باتوا يؤمنون بأن السعودية في ظل حالة ألليريجية (حساسية) كاذبة قد بدأت دون تفكير عميق ودون رؤية استراتيجية تتخلى طواعية عن دورها الحقيقي الى زدوار جديدة لا تتناسب مع عباءتها ، ومن ثم فإن إيران اصبحت قابلة لصعود النجم مع تصاعد القوة ، وهكذا كان لابد للأمريكيين من أن يتنازلوا أو على حد التعبير الصحيح الدقيق أن يخففوا من غلوائهم في الحديث عن الملف النووي بما يتيح لهم أن يقتربوا من إيران ، وبما يتيح لايران أن تقترب منهم ، و ربما كان هذا هو الأصح والأكثر مدعاة لاهتمام الأمريكيين .
وهكذا اعتبرت امريكا أن اشارات طهران التقليدية بمثابة إشارات إيجابية ، وأن كلمات طهران الروتينية التي صدرت مع انتقال السلطة من رئيس الى رئيس بمثابة محاولة حقيقية للتفاهم ، و هكذا تسارع الاندفاع الأمريكي إلى الأحضان الإيرانية على نحو لم يكن متوقعاً سياسياً وإن كان دارسو التاريخ والعلاقات الدولية يعرفون أن أمريكا تجيد القيام به في الوقت المناسب وإن كانت في الأوقات الأخرى حريصة على أن تبدء في صورة الدولة المترددة المترغبة او الملبسة في تعبيراتها او اللاعبة في ملعبين متناقضين تاركة للقادة اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب .
وهكذا آثرت الولايات المتحدة الأمريكية أن تصل إلى اتفاق مع إيران بدلاُ من أن تضيع وقتها في سماع او ترديد او مناقشة او نفي اسطوانات مصرية رسمية انقلابية مشروخة ومتناقضة تتضمن حديثاً متناقضاً الى ابعد الحدود عن تورط الأمريكيين وذنبهم في دعم الاخوان المسلمين !! وعن تورطهم وواجبهم أيضاً في إزاحة الاخوان المسلمين !! وذلك بعدما نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في أن توجه للساسة المصريين المحليين رسالة قصيرة مفادها أن أقصى ما يمكنكم أن تحصلوا عليه من دعم من الولايات المتحدة لن يكون من مائدتها ، وإنما سيكون من مائدة السعودية ، وأن السعودية نفسها سوف تدفع ثمن هذه الوليمة مرتين وربما ثلاث مرات .
نشر في : مجلة المجتمع الكويتية
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا